نشأ النظام السياسي فى لبنان على أساس "توزيع السلطة السياسية بين الطوائف المختلفة"، فيكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سُنياً، ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً. أما مجلس النواب، فتكون الأغلبية فيه للمسيحيين، بنسبة 6 إلى 5. ومن ثَم، فإن العدد الإجمالي للنواب، يكون قابلاً للقسمة على الرقم 11 (وقد كان عدد مقاعد مجلس النواب، في البداية، 44 مقعداً، ثم 99 مقعداً). وكذلك، تتوزع الطوائف المناصب الكبرى، الحكومية والإدارية والعسكرية. كما أن الأحزاب اللبنانية الرئيسية، اتسمت، في الفترة التي تلت الاستقلال، بأنها تجمعات طائفية.
أما "الميثاق الوطني"، إحدى الدعامتَين، اللتَين نهض عليهما النظام اللبناني، فيمكِن القول إنه لم يكُن "وطنياً" بقدر ما كان "طائفياً". فغير صحيح أنه أنشأ دولة علمانية، أو علاقات سياسية علمانية في لبنان، بل رسّخ الطائفية، وجعل التعبير السياسي يمر، أساساً، عبْر قنواتها، كما رسّخ سلطة الزعماء العشائريين في مناطقهم. وهكذا، بدلاً من أن تصبح المؤسسات السياسية، أداة لتغيير الوضع الطائفي، أمست قوة لتدعيمه وتكريسه. ومن الميثاق، انبثقت مصطلحات، مثل المسيحية السياسية، والإسلام السياسي، بمعنى وجود فئة من السياسيين العشائريين، الذين ترتبط مصالحهم بانقسام المجتمع إلى طوائف متميزة، ويعملون على تعميق هذا الانقسام، وتأكيد استقلال الكيانات الطائفية، من خلال المؤسسات السياسية القائمة.
ولم يقتصر الطابع الطائفي على العلاقات بين الطوائف بعضها ببعض، بل تغلغل داخل كل طائفة، على حِدَة؛ إذ إن الوظائف الحكومية، توزَّع على أساس طائفي، فكان أبناء كل طائفة، يتصارعون حول نصيبها من تلك الوظائف.
ودستورياً، لم يكن النظام اللبناني نظاماً نيابياً، ولا نظاماً رئاسياً، وإنما هو خليط من النظامَين، وإنْ غلب عليه، من الناحية الواقعية، سمات النظام الرئاسي، إذ يُعَدّ رئيس الجمهورية، من الناحيتَين، النظرية والعملية، هو الشخص المسيطر في النظام، وينتخب لمدة ست سنوات، غير قابلة للتجديد، بوساطة مجلس النواب، بأغلبية الثلثَين، في أول اقتراع. فإذا لم يحصل أحد المرشحين على هذه النسبة، يكون انتخابه، في الاقتراع الثاني، بالأغلبية المطلقة.
ويعيّن رئيس الجمهورية رئيس الوزراء. وله أن يدعو مجلس النواب إلى جلسة استثنائية. وبموافقة مجلس الوزراء، يستطيع أن يحل المجلس النيابي. كما يشارك في السلطة التشريعية، من خلال حقه في الاعتراض على القوانين، فإذا اعترض على تشريع ما، يعاد إلى مجلس النواب، الذي يعدله، أو يعيد التصويت عليه، وفي هذه الحالة، يحتاج التشريع إلى أغلبية الثلثَين. وتشير التجربة العملية إلى سيطرة الرئيس على مجلس النواب، خاصة إذا أدخلنا في الحسبان الوضع الطائفي، ووجود أغلبية مسيحية فيه. ومع كل هذه السلطات، فإن الرئيس، ليس مسؤولاً أمام المجلس النيابي، وإنما تنحصر المسؤولية في رئيس الوزارة وأعضائها.
ومن متابعة علاقة الوزارة بمجلس النواب، يمكِن تبيّن الضعف النسبي لدور المجلس. فالوزارة تتغير، عادة، على أثر خلاف مع رئيس الجمهورية، وعدم رضائه عن نشاطها، وليس لسحب المجلس النيابي ثقته منها. وفي الفترة ما بين 1926 و1964، شهد لبنان 46 وزارة. ومن ثم، يكون متوسط عمر الوزارة أقلّ من 8 أشهر.
هذا وقد اتسم النظام اللبناني، منذ عام 1864، بملامح رئيسية، باتت متأصلة فيه. وكان لها أثر عميق في مجريات الحرب الأهلية اللبنانية. لعل أبرزها:
حُكم كونفدرالي، بقيادة البيروقراطية المسيحية
تطور النظام المِلِّي العثماني، في اتجاه بسط مفاهيمه على الطوائف الإسلامية، إضافة إلى الطوائف الأخرى، الخاضعة لأحكامه، منذ زمن مبكر. ومن ائتلاف الطوائف داخل نظام واحد، انبثق نظام طوائفي، سياسي، كونفدرالي، تتمتع فيه بنوع من الحُكم الذاتي، وتحكمها جميعاً قيادة، خاضعة، غالباً، لتأثير البيروقراطية المسيحية. كان معظَم المناصب الإدارية، في عهد المتصرفية، للمسيحيين. ومرد هذه الظاهرة، ليس إلى رغبة المتصرف العثماني في إرضاء المسيحيين، وضمان ولائهم للباب العالي فحسب، بل إلى كون الموارنة، قد تمكنوا، منذ عام 1854، من إنشاء معهد لبناني، في روما، عاد خريجوه إلى لبنان، رهباناً. "وطفقوا ينشئون المدارس في القُرى، لنشر التعليم بين أبنائها. وأصبح بعض هذه المدارس، بإدارة الآباء اليسوعيين وسواهم من الإرساليين، مراكز تربوية ذات شأن، تزوّد الأمراء الشهابيين بالكَتَبَة والمعاونين. و هكذا، نشأت، على مر الأيام، طبقة من المتعلمين المورانة، تبوأت أعلى المناصب في الحياة العامة، وأملت، في الكثير الغالب، سياسة الإمارة الشهابية".
ترابط الإقطاعية والطائفية
احتفظت الطبقة الإقطاعية بسلطتها ونفوذها السابقَين، على بروتوكول 1864، الذي عزز، بدوره ارتباطها المصلحي بالطائفية، بأن وزع مناصب مجلس الإدارة ووظائف الإدارة عامة، على الزعماء الإقطاعيين، وفق نسب طائفية محسوبة، ومتفاوتة.
وبتفاعلها مع الطبقة الإقطاعية، تطورت الطائفية، في ظل هذا النظام، إلى بناء فوقي، أيديولوجي وسياسي، للتركيب الاقتصادي القائم.
تحالف البيروقراطية والتجار
ازدهرت، خلال عهد المتصرفية، صناعة الحرير اللبناني. وأصاب المتّجرون فيها ثراء كبيراً، مما حداهم على التفتيش عن أسواق لها، في الجوار، وما وراء البحر. وفي الوقت نفسه، أحست البيروقراطية الحاكمة، بأن انحباس لبنان في سنجق المتصرفية، أي جبل لبنان، يهددها بالاختناق الاقتصادي، نظراً إلى ضآلة موارد الجبل. وهكذا، توافقت البيروقراطية والتجار على أن سهل البقاع، ومناطق صيدا وطرابلس، هي متنفَّس لاقتصاد لبناني آخذ في التوسع، من دون أن يكون له أساس، يحميه من التقلبات والسقوط.
وإذا كانت رقعة النظام الطائفي اللبناني، قد وسِّعت إلى الحدود المعلنة عام 1920، في إطار هذا التفكير، وباقتناع سلطات الاستعمار الفرنسي، الراغبة في توفير قواعد ثابتة لمجموعة الدويلات الاعتباطية، التي أوجدتها في سورية، فإن تحالف البيروقراطية الحاكمة، مع التجار وأصحاب المصالح، الذين رأوا في البلاد العربية المجال الطبيعي لنشاطهم الاقتصادي، قد أدى إلى تخطي بعض حواجز الانعزالية التقليدية، وإلى جعل الاستقلال السياسي ممكناً، عام 1943، من خلال ما سمي "الميثاق الوطني".
ومع تدفق عوائد النفط العربية، في مطلع الخمسينيات، وثّقت البيروقراطية الحاكمة تحالفها مع التجار ورجال قطاع الخدمات، فسنّت التشريعات اللازمة لتوسيع القطاع المصرفي، وقطاع الخدمات بشكل عام. كل ذلك مقابل دعم الطبقة الرأسمالية لقادة النظام في سياستهم، الساعية إلى الاحتفاظ بلبنان وسيطاً، في عملية النهب الأجنبي لموارد البلاد العربية.
ترسيخ الانفصال
من بروتوكول 1864 إلى ميثاق 1943، مروراً بالانتداب الفرنسي، وامتداداً إلى عهد الرئيس فؤاد شهاب، كانت سياسة النظام الطائفي حريصة على الاحتفاظ بتمييز الكيانات الفئوية (الطائفية وغيرها)، داخل الائتلاف الكونفدرالي، الذي حكم لبنان طيلة هذه العقود.
فمن مجلس إدارة لبنان، في عهد المتصرفية، إلى المؤسسات "الدستورية"، في عهد الانتداب الفرنسي، إلى مختلف تشريعات عهود الاستقلال، بعد 1943، رُسخت الطائفية، على الصعيد السياسي، بموجب قوانين أساسية، وأعراف سلوكية، لها حرمة القوانين.
فعلى صعيد الأحوال الشخصية، طُوِّر النظام المِلِّي، وعُمِّقت مفاهيمه وأحكامه، وأُصدر قرار، في 13 مارس 1936، يقضي بتقسيم الطوائف إلى طوائف تاريخية، خاضعة لأنظمتها الطائفية الخاصة، وأخرى عادية، خاضعة لأحكام القانون المدني.
مجلس النواب اللبناني
يتكون مجلس النواب الحالي من 128 عضوا، وينتخب لمدة 4 سنوات من الطوائف الدينية الموجودة. وتعود بدايات مجلس النواب (البرلمان) إلى عام 1943 عندما استقلت لبنان ويقوم المجلس بعدة مسؤوليات، أهمها انتخاب الرئيس. وبرغم دوره التشريعي إلا أن مجلس النواب نادرا، من الناحية التقليدية، ما ينخرط في إصدار قانون أو صياغة سياسة. وبسبب قوة الرئاسة وسلطة الزعماء فقد كان دور مجلس النواب محدودا وغير هام في السياسة اللبنانية.
وينتخب أعضاء المجلس مرة كل 4 سنوات في اقتراع شعبي، ولكن ضمن نطاق النظام الطائفي، فإن كل شريحة تكون محددة بطائفة أو أخرى حسب حجمها في أي منطقة. ولم تقم السياسة الحزبية بدور يذكر في لبنان وكذلك حملات المرشحين كجزء من القائمة التي يشرف عليها الزعيم المحلي، أي أن التنافس في المناطق يكون بين الطوائف المتماثلة.
ولكي يضمن أي زعيم نجاح قائمته، فإنه غالبا ما يدخل في تحالفات معقدة مع الزعماء المؤيدين للقوائم الأخرى في مناطق مختلفة، ونتيجة لذلك يمكن لزعيم أن يساند زعيم آخر في منطقة مجاورة ويكون خصمه في منطقة أخرى.
ويكون رئيس المجلس المنتخب في العادة شيعيا، ومازال هذا التقليد ساريا كما كان منذ 50 عاما. ومن أجل استيعاب نسبة الـ 6 : 5 لتمثيل المسيحيين والمسلمين، فإن عدد النواب كان دائما مضاعف العدد 11، رغم تغير العدد مع الوقت. ففي عام 1951 ارتفع عدد أعضاء مجلس النواب من 55 إلى 77 عضوا، وفي عام 1957 انخفض إلى 66، وفي عام 1960 ارتفع مرة أخرى إلى 99. وفي السنة التالية كانت عضوية المجلس مكونة من 30 مارونيين، 20 سنيين، 19 شيعة، 11 أرثوذكس يونانيين، 6 دروز، 6 كاثوليك يونانيين، 4 أرثوذكس أرمن، 3 أعضاء من أقلية المجموعات.
الاحزاب وقوى المعارضة في لبنان
اتّسم النظام الحزبي اللبناني بعدد من السمات، منها:
التعدد الحزبي.
الطابع الفردي للأحزاب، ونشؤوها من الأوضاع العشائرية السائدة، ليكون مصدر القيادة هو الوضع الأُسَري، والانتساب إلى أُسَر ذات نفوذ عشائري، أو إقطاعي، أو إقليمي، قوي.
توارث الأُسْرة الواحدة قيادة الحزب: طوني ثم إبنه سليمان فرنجية ابن الرئيس سليمان فرنجية، وأمين الجميل إبن بيار الجميل، ووليد جنبلاط إبن كمال جنبلاط.
عدم وجود حزب أغلبية في مجلس النواب.
عدم مشاركة الأحزاب في صنع السياسة، فالأحزاب لا تمارس دوراً مهماً في العملية السياسية، نظراً إلى المعايير، التي يفرضها الوضع الطائفي، بالنسبة إلى اختيار النواب.
بيد أن أحزاباً حديثة النشأة، ذات طابع يساري، أو علماني وطني، أخذ دورها، منذ بداية الستينيات، يتزايد وذلك لسببَين:
أولهما، مخاطبتها الجماهير مباشرة. ومن ثَم، أجبرت الزعماء التقليديين على أن يحذوا حذوها، خوفاً على نفوذهم من الضياع.
ثانيهما، مبادرة بعض الأحزاب، ذات الطابع الأيديولوجي، كالحزب القومي السوري، وحزب البعث، والحركات الاشتراكية، إلى طرح قضايا الصراع الاجتماعي، وفرضها على العملية السياسية.