في وسط الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط تتلألأ جوهرة الشرق بيروت، حيث شكلت على مدار الزمن معبراً يصل الشرق بالغرب فتمتزج فيها الحضارات وتتفاعل الديانات فيختلط صوت المؤذن بأجراس الكنائس.
إن ما يزيد على مليون شخص يقطنون بيروت بما يشكّل ثلث الشعب اللبناني، فيعطون المدينة لقب {المدينة التي لا تموت} فقد ضربتها الزلازل وغمرها الطوفان ودمرتها الحرائق والحروب أكثر من مرة عبر التاريخ، إلا أنها كانت دائماً تنتفض وتقوم من جديد، فبيروت والحياة صنوان لا يفترقان.
ليست بيروت مساحة أرضٍ محدودة، فأرض الحضارات لا تقاس بالأمتار، بيروت هي قصة مجد وخلود .... قصة مدينة صمَّم شعبها على الحياة المشتركة فالتقى الهلال بالصليب رافضاً لكل منطق تقسيمي طائفي ، واحتضاناً لكل فكر توحيدي جامع.
لقد دفعت بيروت وما زالت تدفع، أغلى الأثمان دفاعاً عن وحدة لبنان وعروبته. بالموقف والرأي كانت بيروت في مقدمة العرب .... والتاريخ يشهد.
بالفكر ساءت ، وبأجساد أبنائها قاومت كل عدوان ، ومن بيروت وفي الخامس عشر من شهر أيلول عام 1982م أُطلقت أولى الرصاصات بوجه العدو الإسرائيلي معلنة بداية المقاومة أطلقها إبن بيروت الشهيد خالد علوان .
لقد حاولوا أن يخترعوا البدائل عن بيروت وظنوا أنه ببعض الحجارة والإنارة والإثارة تُصنع العواصم ... وسها عن بالهم بأن روح بيروت لم ولن تعط لسواها ، إنها رسالة قدر.... تحملها بيروت ولن يتخلى عنها أبناؤها .
تعتبر بيروت من أقدم المدن والحواضر التاريخية، وقد أثبتت الحفريات الأثرية في السنوات الأخيرة قِدم هذه المدينة وأصالتها وعراقتها، كما أثبتت الدراسات والوثائق التاريخية أن بيروت كانت باستمرار موئلاً للعلم والعلماء ، ومركزاً من مراكز الحضارات القديمة ، ولعل اختيارها مركزاً لمدرسة الحقوق الرومانية لهو دليل ساطع على أهمية هذه المدينة.
ومنذ التاريخ القديم حتى اليوم، أثبتت بيروت قدرتها على التفاعل الحضاري مع مختلف الحضارات والشعوب ، غير أن الطابع الأصيل والثابت الذي طبعت به هو الطابع العربي والحضارة العربيّة، لأن جذور بيروت جذور سامية عربيّة ، ولقد استطاعت عبر تاريخها الطويل أن تكوِّن ملامح سياسية وعسكريّة واجتماعيّة واقتصاديّة وتربويّة وعلميّة وفنيّة وتراثيّة ، كانت تطورها باستمرار متفاعلة مع بقية الملامح والقيم الإنسانية.
وفي تاريخها الحديث والمعاصر جددت بيروت وثبتها العلمية باتخاذها مقراً لأول جامعة في العالم العربي عام 1866م هي (الكلية السورية الإنجيلية)، الجامعة الأميركية في بيروت، ومن ثم شهدت مدينة بيروت ولادة مدارس جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة، والجامعة اليسوعيّة، والجامعة اللبنانيّة الحكوميّة، وجامعة بيروت العربيّة، وهي من المؤسسات الرئيسية قي بيروت ولبنان والعالم العربي. وبالرغم من قلة عدد السكان في لبنان، فإن بيروت والمناطق اللبنانيّة شهدت في السنوات الأخيرة ولادة العديد من الجامعات والكليات والمعاهد . مما يؤكد على أن بيروت كانت . وما تزال . عاصمة للعلم والعلماء .
ويكفي بيروت فخراً أنها أُعلنت عاصمة لولاية بيروت العُثمانيّة لأول مرة عام 1888م وليس عام 1920م زمن الجنرال غورو، وهي الولاية الممتدة جنوباً حتى نابلس وشمالاً حتى اللاذقية .
ويبقى البيروتي الذي له الفضل في تأسيس وبناء الإنسان الفاضل والمؤسسات الفاضلة، في وضع الأسس الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية ، فضلاً عن إرساء قواعد الحرية والديمقراطية. وينبغي الإشارة إلى أن اشتغال البيروتي في التجارة، لا يعني مطلقاً أنه لم يكن مدافعاً أو مجاهداً في سبيل قضايا بيروت ولبنان والأمة العربيّة، فقد أثبتت الوثائق أن أبراج وقلاع بيروت التاريخية شهدت صفحات مجيدة من نضاله ومقاومته وجهاده في سبيل قضايا الحق والحرية . وقد كان الإمام الأوزاعي (رضي الله عنه) في مقدمة هؤلاء المجاهدين .
وتعتبر بيروت من المدن العريقة في نشأتها وتاريخها وتراثها وعائلاتها، وهي من المدن التي قامت بدور بارز في التاريخ اللبناني والعربي والدولي. وقد تميزت منذ نشأتها قبل الميلاد بوجود عناصر سامية من أصول عربية، كان في مقدمتها العنصر الفينيقي السامي العربي، وهو العنصر الذي هاجر من شبه الجزيرة العربيّة في الألف الثالث قبل الميلاد ، حاملاً معه لغته وعاداته وتقاليده وأسماء مدنه مثل بيروت وصيدا وصور وجبيل وأرواد وسواها. ولهذا فإن جذور النشأة البيروتية ما قبل المسيحية والإسلام كانت نشأة عربية.
ولما افتتح العرب المسلمون بلاد الشام ابتداء من سنة 13 للهجرة التقى العرب الجدد بالعرب القدامى المستقرين منذ آلاف السنين في بيروت ومختلف المناطق اللبنانيّة. لهذا فإن عروبة. بيروت تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة على الأقل، وليس ألف وأربعمائة سنة كما يدّعي البعض. من هنا ندرك تماماً العوامل الحقيقية التي تدفع بالبيروتي إلى التفاعل بشكل لافت للنظر مع القضايا العربيّة والقومية.
ونحن لا ننكر أن بيروت تعرضت عبر التاريخ لموجات من السيطرة الفرعونية والأشورية والبابلية واليونانية والرومانية والإفرنجية وسواها، غير أن جميع هذه الموجات لم تستطع أن تصهرها في بوتقتها بسبب تناقض التكون التاريخي والديموغرافي بين تلك الموجات وبين أبنائها وبلاد الشام قاطبة. ونتيجة للفتح العربي لبلاد الشام ومن بينها بيروت، فقد آلت في نهاية المطاف مدينة عربية إسلامية شهدت فيما بعد العهود الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية والعُثمانيّة، ومن ثم السيطرة الفرنسيّة للبلاد بين أعوام 1918م 1946م.
ومن هنا ندرك كم مّر على بيروت والمنطقة من شعوب وأنظمة حكم، ومن هجرات سكانية من الخارج، ومن نزوح سكاني من الداخل إلى هذه المدينة العريقة، غير أن العرب والمسلمين استطاعوا وبشكل نهائي تعريب المدينة ومن ثم أسلمتها. لهذا فإن تكوّن المجتمع البيروتي يعتبر تكوناً عربياً بالدرجة الأولى، بل إن تكونه يعتبر مميزاً بسبب قدرة بيروت والبيارته على {بيرتة} غير البيروتيين، وصهرهم في ظل المجتمع البيروتي في حين أن الكثير من الحواضر والمدن الكبرى لم تستطع أن تهضم المهاجرين أو النازحين إليها، أو أن القادمين إليها استطاعوا هضمها وابتلاعها وتغريبها عن عاداتها وتقاليدها ولغتها.
ومن الأهمية بمكان القول، وإنطلاقاً من التاريخ العربي المشترك، ومن التاريخ العربي المشترك، ومن التاريخ المشترك لبلاد الشام، فإن التأريخ للعائلات البيروتية، إنما هو في الوقت نفسه التأريخ للعائلات اللبنانيّة وللعائلات العربيّة في اليمن وسوريا ومصر وفلسطين والعراق وبلاد الحجاز والأردن والخليج العربي، والجزائر والمغرب وتونس وليبيا وسواها من البلاد العربيّة .
الدكتور حسّان حلاق
|