العمارة والبيوت والأراضي في بيروت المحروسة
كان للتكون وللنمط المعماري في بيروت الدور البارز في التوزع والتنوع الديموغرافي الإسلامي المسيحي. وكان النشاط الديني والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والسياسي والتربوي، قد إرتبط إلى حد كبير بالتكون المعماري وسيطر على التنوع الديموغرافي، فبناء المساجد والزوايا والكنائس والأديرة والأسواق والخانات والثكنات والسرايا والخسته خانات (المستشفيات) والحمامات والمدارس والأفران، والسجون والأبراج ومرفأ بيروت وسواها من ملامح عمرانية قد أثرت تأثيراً مباشراً في إنتشار وتنوع السكان وفي تطور العلاقات الإسلاميّة ـ المسيحيّة، ذلك أن هذه الملامح كانت مواقع إلتقاء بين الطوائف في بيروت ولبنان.
إن النظام المعماري في بيروت في العهد العثماني يعتبر من أجمل ملامح التراث البيروتي واللبناني والعربي والعثماني، وتشهد الآثار العُثمانيّة المتبقية من منازل ودور وقصور وسرايات وثكن ومدارس ومساجد، جمال وروعة هذا التراث. وعلى سبيل المثال فإن النشاطات الاقتصاديّة كانت ممثلة بالأسواق التجاريّة والصناعيّة والحرفيّة، من بين هذه الأسواق على سبيل المثال والتي كانت قائمة منذ العهد العُثماني:
· سوق الأساكفة
· سوق البازركان
· سوق العطارين
· سوق الحدادين
· سوق القطن
· سوق النجارين
· سوق الصاغة
· سوق الخضار
· سوق الشبقجيّة
· سوق الساحة
· سوق ساحة الخبز
· سوق الشعارين
· سوق القزار
· سوق اللحامين
· سوق التجار
· سوق البياطرة
· سوق الفشخة
· سوق القطايف
· سوق المنجدين
· سوق الخياطين
· سوق المغربلين
· سوق العقادين
· سوق المخللاتيّة
وسواها.
في هذه الأسواق كان يظهر التعايش الإسلامي – المسيحي على حقيقته ، فالهندسة والفكرة المعماريّة من وجود هذه الأسواق المتخصصة، كانت هندسة وفكرة إقتصاديّة، وهذا الهدف الاقتصادي أدى إلى تعميق العلاقات الإقتصاديّة والإنسانيّة والإجتماعيّة، وكانت لها آثار سياسية نتيجة لتبادل الآراء السياسية حول مختلف الأمور، فالأسواق أداة إتصال وتواصل بين اللبنانيين لا يمكن الطعن في أهميتها.
ومن الأهميّة بمكان القول إن بعض العائلات الإسلاميّة والمسيحيّة أقامت لها بعض الأسواق على أملاكها وقامت بتأجير محلاتها للطوائف اللبنانيّة، من بين هذه الأسواق التي تحمل أسماء عائلات على سبيل المثال:
· سوق سرسق
· سوق الجميل
· سوق سيّور
· سوق الطويلة
· سوق أياس
· سوق باب إدريس
· سوق أبو النصر
· سوق التيّان
ومن الأسواق المهمة التي كان يلتقي بها المسلمون والمسيحيون سوق المزاد الشهير في باطن بيروت العُثمانيّة، بالإضافة إلى وجود أسواق أخرى عُرفت بسوق الأرمن وسوق الفرنج.
وكان التنوع المعماري من العوامل الهامة الأخرى في التعايش والتلاقي الإسلامي ـ المسيحي، فمباني الدوائر الحكوميّة والسرايات والمستشفيات والحمامات والخانات (الفنادق)، كانت مواقع إلتقاء. وكان مرفأ بيروت مع مرافئه المتخصصة مثل:
· ميناء الأرز
· ميناء البصل
· ميناء البطيخ
· ميناء الخشب
· ميناء القمح
مراكز إلتقاء التجارة والعمّال والموظفين من مختلف المناطق اللبنانيّة.
وكانت مباني البنوك مثل البنك العُثماني والمحلات التجاريّة وحتى المقاهي مثل:
· مقهى القزاز
· مقهى السراي
· مقهى سوق الأساكفة
· المقهى الكبير
· مقهى المعلقة
· مقهى الناعورة
· مقهى العسكر
· مقهى الحاج داوود
· مقهى البحرين
كلها مبانٍ وأنماط معمارية ليست في حقيقتها وواقعها سوى مواقع تواصل وإلتقاء بين اللبنانيين .
وهكذا يُلاحظ بأن مواقع الأبنية والعمارة قامت بدور أساسي بجذب الطوائف اللبنانيّة وأثرت بدرجة أولى على تعايشهم وتعاملهم مع بعضهم البعض.
ومن هنا ندرك الدارس والباحث والمراقب أهمية العمارة في التعايش في بيروت ولبنان. وكانت المباني، خاصة الحكوميّة منها لها أثر واضح في استمرار الصلات وتعميقها بين اللبنانيين من بين هذه المباني مثلاً:
· بلدية بيروت
· الشرطة
· المالية
· الدوائر العقارية
· البريد والبرق
· شركة مياه بيروت
· شركة الكهرباء
· البرلمان والحكومة
وسواها من مبانٍ حكومية.
وبالرغم من أن بيروت العُثمانيّة شهدت الأحياء أو الحارات الطائفيّة مثل:
· حارة الإسلام
· حارة النصارى
· حارة اليهود
في أن هذه الحارات والأحياء كانت تفرغ من سكانها نهاراً في سبيل الإرتزاق أو كسب العيش من بيع وشراء في الأسواق والقيساريات والمناطق التجارية. ولما تطور العمران في بيروت بدأت هذه الحارات تضمحل، ثم تنصهر في المجتمع البيروتي الأكبر باستثناء الطائفة اليهوديّة التي حافظت فيما بعد على حيّها خارج سور بيروت في المنطقة المعروفة باسم وادي أبو جميل وهو (غيتو) يهودي استمر منعزلاً عن بقية الأحياء منذ العهد العُثماني إلى بداية حرب حزيران 1967م، ثم حرب تشرين 1973م، وكانت بداية أحداث عام 1975م في بيروت إعلاناً نهائيّاً لنهاية هذا الغيتو.
وكانت الطوائف الإسلاميّة والمسيحيّة في بيروت بدأت بالإنتشار خارج السور مما جعل الحارات الطائفيّة تذوب تباعاً في إطار الأحياء البيروتيّة المستحدثة في خارج السور وفي ضواحي المدينة.
وإذا حاولنا تلمس الأنماط المعماريّة وتطورها منذ العهد العُثماني وأثرها في إقامة الأحياء وفي التعايش الإسلامي ـ المسيحي، فإننا نستطيع الإستفادة كثيراً من كتب الرحالة وكتب التاريخ وسجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت بما تحويه من عقود بيع وشراء للعقارات في بيروت، كما يمكن الإستفادة كثيراً من الصور التراثيّة لبيروت العُثمانيّة.
وتطالعنا وثيقة من سجلات المحكمة الشرعيّة تدلنا على نمط من أنماط العمارة البيروتيّة، ففي وصف لأحد البيوت بتاريخ 1259هـ1843م يشار إلى أنه في (زاروب شيخ الإسلام من داخل داره وإيوان وقاعة عليها نصف تخت وبير ماء نابع ومطبخ داخله قبو ومرتفقين وسلم حجر في اثناها عليّة يعلوها تخت وفسحة دار وإيوان وعليتين يعلوهما تختين ومرتفق وأيضاً في الدار السفلية سلم لجهة الشمال يصعد منها إلى ظهر القاعة، ويعلو ظهر القاعة إيوان وعليتين خراب ......).
هذه النماذج من البيوت كانت موجودة في حارة الإسلام وحارة النصارى وحارة اليهود، وقد أكدت بعض الوثائق التاريخيّة أن هذه الأحياء التي سميت باسم الطوائف قد أصبحت نتيجة للتطور العمراني أحياء مختلطة وإن كانت قد حافظت على أسمائها الطائفيّة وكان الفضل الأول للعمارة التي أنهت هذه الأحياء الطائفيّة وساهمت في التمازج السكني في بيروت. ومما يدل على ذلك وثائق عُثمانيّة تعود إلى عام 1259هـ1843م تشير إلى وصف بيت صادق المحب ودار بني القوتلي وذلك في أول حارة اليهود لصيق حائط السراي، وأن الدار الخاصة لزاوية المغاربة هي في حارة اليهود قرب بيت الحاج حسين شانوحة.
كما أن حارة النصارى لم تعد إسماً على مسمى نتيجة للتطور العمراني والديموغرافي، حيث تمازج النصارى مع المسلمين في بيوتهم ومحلاتهم وأسواقهم وتجارتهم، وتشير الوثائق ذاتها إلى أن أوقاف أحمد حسين القباني في منطقة سوق الحدادين في ميناء بيروت وفي بستان منيمنة وفي سوق القطن في محلة النصارى في باطن بيروت. وكان يوجد في محلة النصارى تجمّع للبيارتة يتمثل بتجمعات دائمة حول فرن سوق القطن ومعصرة السمسم لسيف الدهان حيث إنتاج الطحينة، ومن ثم مبيع القطن في سوق القطن.
وقد وجد في محلة النصارى من العائلات المسيحيّة والإسلاميّة منها آل التويني وآل الشيخ وأبو زرقوت وشاهين وطراد وآل القبّاني، وآل ياسين وسواهم، وكانت الأفران بحد ذاتها مركزاً للتلاقي
|