آل قوتلي

من الأسر الإسلامية البيروتية والعربية. تعود بجذورها إلى القبائل العربية التي أسهمت في فتوحات بلاد الشام ومصر. وهي تعود بنسبها إلى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي لقبه الخليفة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) باسم عمر القوي أو القوي الأمين (ابن الأثير: اللباب، جـ3، ص 65). علماً أن الأستاذ نبيل القوتلي – ابن عم الرئيس شكري القوتلي – يؤكد بأن الأسرة تعود بنسبها إلى آل البيت النبوي الشريف. وقد لقب الأحفاد في العهدين المملوكي والعثماني باسم قوتلي باعتبارها صيغة تركية. قامت الأسرة بدور سياسي وعسكري بارز في مصر وبلاد الشام والعراق، وتولى أجدادها مناصب مهمة في جميع الأمصار التي أقاموا فيها. وقد برزت بشكل واضح في دمشق وبيروت وبغداد، وحيث تولى أحد أجداد أسرة قوتلي في القرن التاسع عشر منصب «دزدار» قلعة بيروت المحروسة إزاء مرفأ بيروت. وقد شارك آل القوتلي مع سائر البيروتيين في الدفاع عن القلعة ضد قراصنة البحر الأوروبيين، وقد انتصر البيارتة على المهاجمين.

ويروى أن جدة آل القوتلي السيدة سعدية بنت صالح طبارة زوجة قاسم القوتلي، قد شاركت في الدفاع عن قلعة بيروت، وانتزعت في أثناء الغارة سيفاً كان يتقلده قائد القرصان، وأردته به قتيلاً، والسيف الأثري ما يزال ضمن مقتنيات أحفاد السيد قاسم القوتلي الجد.

هذا، وقد أشارت وثائق سجلات المحكمة الشرعية في بيروت في القرن التاسع عشر لا سيما الواردة في كتاب د. حسان حلاق «التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بيروت» ص (198-200) إلى العديد من أجداد آل القوتلي في باطن بيروت منهم على سبيل المثال السادة: الحاج علي القوتلي المتوفى 1259هـ-1843م، وقد انحصر إرثه الشرعي في زوجته الحاجة رقية بنت المرحوم السيد علي فروخ، وفي أولاده منها وهم السادة: عبد الله، والحاج محمد، والحاج قاسم. كما عرف من الأسرة الأشقاء: السيد علي بن السيد عبد الله القوتلي، والحاج محمد بن عبد الله القوتلي، وخالد بن عبد الله القوتلي.

كما عرف من أولاده الحاج قاسم القوتلي السادة: عبد القادر، وعبد الرحيم، ومريم. كما عرفت والدتهم المشار إليها السيدة سعدية بنت المرحوم السيد صالح طبارة. كما أشارت سجلات المحكمة الشرعية في بيروت في القرن التاسع عشر إلى منازل ودور آل القوتلي في باطن بيروت بالقرب من الجامع العمري الكبير، وأوقاف وأحكار آل القوتلي على ورثة الحاج قاسم القوتلي (أنظر كتاب د. حسان حلاق: أوقاف المسلمين في بيروت في العهد العثماني، ص 44، 87). كما عرف من الأسرة الشيخ إبراهيم القوتلي شيخ وإمام زاوية أبو النصر في باطن بيروت. عرف من أسرة قوتلي في التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور حسين عبد الرزاق القوتلي أحد الناشطين والبارزين في الحياة السياسية والاجتماعية والإسلامية على الساحة البيروتية واللبنانية، وقد تولى مناصب عديدة في مقدمتها المدير العام السابق لدار الفتوى في الجمهورية اللبنانية، وأمين السر الخاص لمفتي الجمهورية اللبنانية سماحة الشيخ حسن خالد ترشح للانتخابات اللبنانية بعد عام 1992 بعد تقاعده، ولم يوفق. له مؤلفات ومقالات عديدة تختص بالشؤون الإسلامية والسياسية اللبنانية والعربية. كما عرف ابنه السيد بشار القوتلي أحد مدراء المصرف الإسلامي اللبناني. كما عرف من الأسرة حسن وشفيق عبد الرزاق القوتلي. كما برز من الأسرة العميد في قوى الأمن الداخلي عبد الرزاق القوتلي قائد شرطة بيروت، وعرف الخبير السيد إبراهيم قوتلي منسق الأونيسكو للحفريات الأثرية.

كما عرف من الأسرة في بيروت المحروسة السادة: إبراهيم قاسم القوتلي، أمين القوتلي، بسام، حسان شكري، حسن شفيق، حسين ياسر، خليل عبد الرحيم، رياض، سهيل محمد، شادي حسين، عبد الحميد، عبد الرحيم، عبد الرزاق، عبد اللطيف، عدنان مصطفى، عمر عثمان، غسان، كامل، مأمون، محمد سهيل، محمد شريف، محمد شفيق، محمد عبد الرحيم، محمد فاروق، محمد منير، محمد وليد القوتلي، محمود شكري القوتلي، نبيه القوتلي وسواهم الكثير.

ومما يلاحظ بأن أهم شخصية عربية عرفت من آل القوتلي هو الرئيس الأسبق للجمهورية السورية المجاهد الرئيس شكري القوتلي (1891-1967) الذي تولى رئاسة الجمهورية بين أعوام (1943-1949) (1955-1958)، وهو يعتبر الرئيس العربي الوحيد الذي تخلى عن كرسي الحكم من أجل تحقيق الوحدة العربية بين سوريا ومصر عام 1958، وقد تخلى عن الحكم ليكون الرئيس جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة. وقد أطلق على الرئيس شكري القوتلي آنذاك «المواطن العربي الأول».

ونظراً لأهمية الرئيس المرحوم شكري القوتلي، ونظراً لحب البيارتة واللبنانيين والعرب له، ووفاءً وتقديراً لإسهاماته وتضحياته الوطنية والعربية (وفي ظل هذا الزمن العربي الرديء)، فإننا نشير إلى سيرته الذاتية الموجزة:

شكري القوّتلي (1891-1967)

يُعد شكري القوّتلي واحداً من أبرز دعاة الوحدة العربية في العصر الحديث، وأحد أبطال التحرر في العالم العربي، وقادة حركة المقاومة ضد الاستعمار البغيض، الذي جثم على صدر الأمة العربية دهراً طويلاً، وعاق بقيوده العالم العربي عن مواكبة ركب التقدم والرقي.

وظل شكري القوّتلي رمزاً للمقاومة والصمود ضد المستعمر، ولم تجدِ معه كل محاولات التهديد والابتزاز، ولم يوهن السجن من عزيمته، ولم ترهبه ظلال المشنقة التي لاحت أمام ناظريه ثلاث مرات في حياته المليئة بالنضال والكفاح، حتى تحقق حلمه الكبير، ونالت سوريا استقلالها، وأصبح القوّتلي أول زعيم وطني تولى رئاسة الجمهورية السورية.

مولد القوّتلي ونشأته

وُلد شكري محمود القوّتلي في 21 من أكتوبر (تشرين الأول) 1891، ونشأ في بيت عريق عرف بالصلاح والتقوى والاستقامة، فهو ينتسب إلى أسرة تعود بنسبها إلى آل البيت النبوي الشريف وكانت أسرته قد نزحت – منذ نحو ستة قرون قبل ميلاده- من بغداد إلى دمشق، وحظيت بمكانة بارزة في المجتمع العربي، ونالت تقدير واحترام الملوك والحكام، ليس في سوريا فحسب، وإنما في الوطن العربي كله، حتى إن الخديوي إسماعيل حينما دعا حكام الدول والرؤساء والشخصيات الكبيرة لحضور الاحتفال بافتتاح قناة السويس عام 1869 كان محمد سعيد القوّتلي - شقيق جد شكري القوّتلي - في طليعة المدعوين من الشخصيات العربية البارزة.

ونشأ القوّتلي - منذ صغره - محبّاً للغة العربية، وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية التحق بثانوية عنبر في دمشق، حيث أتمَّ دراسته الثانوية فيها، ثم اشترك في مسابقة للكلية الشاهانية في إستانبول – وهي أرقي مدرسة للعلوم السياسية والإدارية في الدولة العثمانية - فكان ترتيبه الخامس بين (350) طالباً من الناجحين، فالتحق بالكلية الشاهانية عام 1326هـ/ 1908م.

من الجامعة إلى المشنقة

وفي أثناء فترة دراسته بالكلية كان النشاط العربي قد بدأ على نطاق واسع، وتأسس المنتدى الأدبي الذي ضم نخبة من الشباب العربي الوطني المتحمس، وكان منهم شكري القوّتلي الذي استطاع هو وإخوانه أن يوطدوا أقدام المنتدى.

وبعد أن أتم دراسته بها عاد القوّتلي إلى دمشق عام  1913، كما اشترك أيضا في جمعية «العربية الفتاة» التي انتشرت انتشاراً واسعاً، وكانت تعمل على نشر الفكرة العربية، وتدافع عن مصالح العرب وحقوقهم.

وقد أدى نشاط القوّتلي وبعض زملائه من أعضاء الجمعية إلى القبض عليهم وإيداعهم في السجن، ولكنهم ما لبثوا أن أطلقوا سراحه بغية مراقبته حتى يصلوا إلى أماكن بقية رفاقه، وفطن القوّتلي إلى ذلك، فأخذ الحذر، ولم يتصل بأحد منهم، وعندما يئسوا من نجاح خطتهم اعتقلوه ثانية، وأودعوه سجن «خان الباشا» بدمشق، ومورس معه ومع زملائه أشد ألوان التعذيب والتنكيل، فكان بعضهم يذكر أسماء أعضاء الجماعة تحت وطأة التعذيب.

وخشي القوّتلي أن يضطر إلى ذكر أسماء الأعضاء الذين يعلمهم جميعاً، ولم يجد أمامه إلا الانتحار، واستطاع الحصول على موسى فقطع به شريانه، إلا أن حارسه انتبه بعد أن رأى الدم يسيل بغزارة من شريانه المقطوع، وأسرع رفيقه في السجن الدكتور «أحمد قدري» فأنقذه من الموت في آخر لحظة، وتم نقله إلى المستشفى؛ حيث مكث به شهراً للعلاج، ثم أعيد إلى السجن، وقُدِّم إلى المحاكمة أمام المجلس الحربي فحكم عليه بالإعدام.

من الثورة إلى المشنقة مرة أخرى

وعندما قام الملك حسين بالثورة العربية على الأتراك عام 1916، قام قادة الثورة باحتجاز عدد من الضباط والجنود الأتراك، وهددوا بإعدامهم إذا لم يطلق سراح العرب المعتقلين، وكان منهم القوّتلي ورفاقه.

وأنشأ القوّتلي حزب «الاستقلال»، فكان أول حزب في العهد الجديد حمل على عاتقه مسئولية توعية الشعب وتهيئته للنضال ضد المستعمر الفرنسي الذي احتل سوريا عام 1920 بعد خروج الأتراك منها، وحاول القوّتلي ورفاقه منع الفرنسيين من دخول سوريا بعد أن وصلوا إلى مشارف مدينة ميسلون، ولكنهم لم يتمكنوا من صدهم، فقد كانت المعركة غير متكافئة بين الجانبين، ودخل الفرنسيون سوريا وسيطروا عليها.

ولم ييأس القوّتلي فقد ظل في طليعة الأحرار الذين هبّوا يدافعون عن وطنهم، وهو ما أثار المستعمرين فاعتقلوا عدداً من رفاقه، وحكموا عليه عام 1920، وصادروا أملاكه، فاضطر القوّتلي ورفاقه إلى النزوح إلى مصر والأقطار العربية الأخرى وإلى عدد من دول أوروبا يستنفرونها ويستنصرون بها على المستعمر الفرنسي، وهو ما اضطر الفرنسيين إلى مسايرتهم وملاينتهم، فأصدروا عفواً عن السجناء السياسيين، وأعلنوا استعداهم للتفاوض مع القوّتلي ورفاقه.

الإعدام من جديد

وعاد القوّتلي وعدد من رفاقه المبعدين إلى سوريا عام 1924، وحاول الفرنسيون إقناع الوطنيين بالتفاوض معهم، ولكن القوّتلي كان يعلن دائماً أنه لا تفاوض قبل الجلاء.

وهبَّ الشعب السوري كله في ثورة عارمة ضد المستعمر الفرنسي، وكان القوّتلي أحد قادتها ومؤججي جذوتها، لكن الفرنسيين واجهوا تلك الثورة بالبطش والعنف، واستقدموا جيشاً كبيراً لإخمادها والقضاء على قادتها، حتى تمكّنوا من إخماد تلك الثورة، وحُكم على القوّتلي بالإعدام مرة أخرى عام 1925، فترك دمشق، وراح يتنقل بين القاهرة والقدس والرياض، يحرك المشاعر والنفوس ضد الفرنسيين، ويكشف جرائمهم ويندد بفظائعهم.

وشارك القوّتلي في المؤتمر العربي القومي الذي عقده عدد من أحرار العرب في القدس عام  1931، ليقرروا الميثاق التاريخي الذي ينبغي للعرب السير عليه خلال المرحلة المقبلة.

وعندما شكّل «جميل مردم» أول وزارة في عهد الاستقلال جعل شكري القوّتلي وزيراً للمالية والدفاع، فاستطاع أن يحقق وفراً كبيراً في موازنة الدولة، كما أسس وزارة الدفاع، وهو ما أثار عليه حنق الفرنسيين من جديد.

القوّتلي وحلم الوفاق العربي

وفي عام 1937، ذهب القوّتلي لأداء فريضة الحج، فعقد مع الملك «عبد العزيز بن سعود» اتفاقاً لإعادة تسيير خط السكك الحديدية من المدينة المنورة في الحجاز إلى دمشق.

وبدأ الفرنسيون يضيقون بسياسة القوّتلي تجاه لمِّ الشمل العربي والتعاون بين الحكومات العربية، وميله العلني إلى الوحدة العربية.

وراح القوّتلي ينادي بالاستقلال، بجلاء فرنسا عن سوريا، وسافر إلى أوروبا ليشرح قضية بلاده ويستجلب لها المؤيدين، حتى أصبح محطَّ إعجاب الجماهير وثقتهم، وصار الإجماع على زعامته منقطع النظير، فكلمة واحدة منه تثير ثائرة الناس، وكلمة تهدئهم، وهو ما جعل الفرنسيين يخشون الإقدام على أي إجراء تعسفي ضده، فعمدوا إلى اللين والمناورة، وشعر القوّتلي بذلك فأغلق باب التفاوض معهم.

ولجأ الفرنسيون إلى تعيين حكومة جديدة، واختير «خالد العظم» رئيساً لها، وأدرك القوّتلي أن وراء ذلك خطة مدبرة لإسكات الشعب حتى تنتهي الحرب العالمية الثانية، فتفرض سياستها، ووجودها بالحديد والنار.

وسافر القوّتلي إلى كل من السعودية والعراق يستحث حكومتيهما للاحتجاج على سياسة فرنسا ضد السوريين ومساعدة سوريا لنيل حريتها واستقلالها، وسعى في الوقت نفسه للوساطة بين الدولتين لإنهاء الخلافات الحدودية بينهما، حتى تمكن ـ بعد جهد متواصل ـ من إحلال الوئام والوفاق بينهما.

القوّتلي رئيساً لسوريا

وفي 17 من آب (أغسطس) 1943، انتخب شكري القوّتلي رئيساً للجمهورية بالإجماع، وانتقلت سوريا إلى مرحلة جديدة نحو الحرية والاستقلال.

وتوالت الاعترافات الدولية باستقلال سوريا من جميع دول العالم، عدا فرنسا التي لم تعترف إلا بعد مُضي أكثر من ثلاث سنوات.

واجتمع الرئيس القوّتلي بالمستر تشرشل -وزير خارجية بريطانيا- في شباط (فبراير) عام 1945، ودار البحث طويلاً حول ضرورة التفاهم مع فرنسا، لكن القوّتلي أبى أن يعترف لفرنسا بأي حق في سوريا، وأعلن عن استعداده لقيادة الثورة بنفسه إذا رفضت فرنسا الانسحاب من سوريا.

وعندما عقد مؤتمر الأقطاب - الذي حضره روزفلت وستالين وتشرشل - لإقرار ميثاق الأمم المتحدة في 11 من شباط (فبراير) 1945، لدعوة الدول للانضمام إلى هيئة الأمم، وجّهت الولايات المتحدة الدعوة إلى الدول لحضور الاجتماع، وأغفلت سوريا ولبنان بإيعاز من فرنسا، ولكن القوّتلي بذل جهوداً كبيرة مع ممثلي الدول العربية والأجنبية، حتى تم توجيه الدعوة إلى سوريا ولبنان لحضور المؤتمر، وانضما رسميا إلى عضوية هيئة الأمم المتحدة، وتمَّ الاعتراف بهما دولياً.

في سبيل الوحدة العربية

كذلك كان للقوّتلي دور بارز في تأسيس جامعة الدول العربية  منذ أن بدأت المشاورات الخاصة لتكوين الجامعة في الإسكندرية في 16 من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1943 وحتى عقد ميثاقها في 7 من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1944، ثم موافقة الدول العربية عليه في 22 من آذار (مارس) عام 1945.

وكان موقف القوّتلي دائماً مستمداً من إيمانه العميق بضرورة الوحدة العربية، وهو ما عبّر عنه بقوله: إن البلاد السورية تأبى أن يرتفع في سمائها لواء يعلو على لوائها إلا لواء واحد، وهو لواء الوحدة العربية.

وأكد أيضاً رئيس الوفد السوري «سعد الله الجابري» حينما أعلن أن سوريا مستعدة للتخلي عن كيانها واستقلالها في سبيل الوحدة العربية.

وكان القوّتلي يستنفر الهمم لنصرة فلسطين، وذلك عندما بدأت المؤامرات الأمريكية البريطانية لإقامة إسرائيل، وتحقيق حلم الصهيونية العالمية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

القوّتلي أسطورة البطولة والوفاء

سعى القوّتلي لتحقيق استقلال سوريا وجلاء الفرنسيين عنها، لكن فرنسا كانت حريصة على بقاء جيوشها في سوريا وجعلها مستعمرة لفرنسا، وأقدمت فرنسا على تصعيد خطير وعدوان سافر، فأنزلت جيوشها استعدادا لمواجهة شاملة مع الشعب السوري، وشنت حرباً وحشية مدمرة راح ضحيتها عدد كبير من الأطفال والشيوخ والنساء، واستخدمت فيها كل أساليب الوحشية، ولكن الشعب السوري الأعزل استبسل في المقاومة، واستهان بالمخاطر والموت في سبيل عقيدته وحريته.

وبالرغم من مرض القوّتلي فإنه لم يعبأ بمرضه، وانطلق يُلهب حماس شعبه، ويحثه على الصمود والمقاومة ضد الاستعمار، وهو على فراش المرض، حتى استطاع الشعب السوري أن يجبر الفرنسيين على الفرار بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة وفوجئت بريطانيا بما حدث، وهالها أن ينتصر الشعب السوري على حليفتها، فزحف الجيش البريطاني بمصفحاته الضخمة على سوريا، وأصبحت سوريا تحارب بمفردها أعتى قوتين استعماريتين.

واتجهت سوريا إلى مجلس الأمن تطالب بانسحاب الجيوش البريطانية والفرنسية عن أراضيها، ولم تتوان في طلبها ذلك حتى تم جلاء الجيوش الأجنبية عن سوريا في 17 من نيسان (إبريل) عام 1946، وصار هذا اليوم – يوم الجلاء - عيداً قومياً لسوريا وزعيمها.

إلى الرئاسة من جديد

واتجه القوّتلي إلى الإصلاح الداخلي في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعمرانية. وفي 30 من آذار (مارس) عام 1949 فوجئ السوريون بأنباء الانقلاب الذي قام به رئيس الأركان «حسني الزعيم»، واُعتقل على إثره القوّتلي ووزراؤه في السجن، وانهالت برقيات الاحتجاج على اعتقال القوّتلي من كل مكان، ولكن القوّتلي قرر أن يستقيل، فأُطلق سراحه بعد شهر من سجنه، وفُرضت عليه إقامة جبرية في بيته، حتى سافر إلى أوروبا ومنها إلى مصر.

وارتفعت الأصوات في «سوريا» تطالب بعودة القوّتلي وذهب إليه وفد كبير ضم عدداً من الشخصيات السياسية في سوريا يرجونه العودة إلى وطنه.

وعاد القوّتلي إلى سوريا، وطلب منه أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، لكنه اعتذر للشعب، وقال: إنه لا يرغب في الرئاسة، ولكن النواب تمسكوا بترشيحه، وتم اقتراع سري على منصب رئيس الجمهورية في مجلس النواب فاز فيه القوّتلي بنحو ثلثي الأصوات.

وعاد القوّتلي ليتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية مرة أخرى في أيلول (سبتمبر) عام 1955، وكان حلم الوحدة العربية لا يزال يداعب خياله ويراود عقله، حتى تحقق ذلك أخيراً حينما أُعلن عن قيام الوحدة بين (مصر وسوريا) ومولد «الجمهورية العربية المتحدة» وتنازل القوّتلي للرئيس جمال عبد الناصر عن الرئاسة، واستقبلت جماهير الشعبين في مصر وسوريا نبأ الوحدة بالفرحة الغامرة والترحاب الشديد، ولكن هذه الوحدة لم تستمر كثيراً فقد انفصلت الدولتان في أيلول (سبتمبر) عام 1961.

وكان لفشل تجربة الوحدة أسوأ الأثر في حياة القوّتلي فقد بدأت صحته تعتل، وأصيب بالقرحة، واستقر في بيروت حيث كان يعالج بها، فعاش فيها حتى تُوفي في 30 حزيران (يونيه) عام 1967، ودُفن في دمشق تلك المدينة التي أحبها وعاش يناضل من أجلها.