الفصل الثاني
دور قلعة وأبراج وميناء بيروت المحروسة
في تنمية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في بيروت
1-
دور قلعة وأبراج بيروت في تنمية العلاقات الاجتماعية
والاقتصادية في بيروت
كان يتخلل سور بيروت بعض
الأبراج العسكرية العاملة في حماية بيروت، كما كان يوجد خارج
السور بعض الأسوار العاملة للغاية ذاتها. علماً أن بيروت شهدت
وجود بعض الأبراج المدنية التي سميت بأسماء العائلات. ولا بد
قبل الحديث عن أبراج بيروت من التحدث عن قلعتها الشهيرة.
وكانت هذه القلاع والأبراج مركزاً هاماً للعديد من العسكريين
والمدنيين الذين يضطرون في كثير من الأحيان للنزول إلى الأسواق
والمساجد والزوايا والمؤسسات الحكومية والأسواق، حيث يلتقون مع
بقية البيارتة.
كانت القلعة
أو البرج البحري،
مقراً للحاميات العسكرية
العثمانية، وكان موقعها في الجنوب الشرقي من مدخل مرفأ بيروت
فوق محلة ومقبرة الخارجة. وقد اشتهرت هذه القلعة بمناعتها
وأهميتها الاستراتيجية نظراً لموقعها المباشر على البحر، وهي
بذلك تشبه قلعة قايتباي في الإسكندرية. وقد توالت بعض الأسر
البيروتية التي تميز أفرادها بالقوة والشجاعة، والاشتغال
بالأعمال العسكرية منصب "القلعجي" أو حاكم القلعة والمعروف
باسم (دز دار قلعة بيروت) ومن بين هذه الأسر: أسرة القوتلي،
وأسرة الجندي ديه، وأسرة القلعجي، وأسرة المناصفي…. ومن هنا نرى بأن لفظ القوتلي مشتق من القوة
، فأصبح بصيغة تركية قوتلي
أي صاحب القوة على غرار قدورة المشتق اسمها من القدرة والقوة
أيضاً. وروت السيدة المرحومة سعود صالح طبارة
–
قبل وفاتها
–
وهي زوجة قاسم القوتلي، بأن بعض قرصان البحر الأوروبيين هاجموا
قلعة بيروت فجأة، فتصدى لهم جيش القلعة، ووقعت بين الفريقين
موقعة شديدة، شارك فيها نساء بيروت إلى جانب الرجال دفاعاً عن
بيروت وقلعتها، وانتهت المعركة بانتصار البيروتيين.
وقد احتفظت سعود في حينه بسيف كان يتقلده أحد القرصان، وقد
احتفظ حفيدها إبراهيم قاسم القوتلي الذي كان موظفاً في بلدية
بيروت في عام 1957 بهذا السيف الأثري.
أما فيما يختص بتسلم
مسؤولية قلعة بيروت في القرن الثامن عشر الميلادي
فقد تولاها
الأمير الشيخ عبد السلام
العماد، والشيخ حسين تلحوق، ولكن عندما وقعت بعض الحوادث عام
1772م، واستتب الأمر في بيروت للأمير يوسف الشهابي، قام هذا
الأمير بعزل العماد وتلحوق عن مسؤولية القلعة لميلهما لأحمد
باشا الجزار. وأصدر قراراً عين بموجبه أحد وجوه بيروت صادق
الجندي ديه. ولما خضعت بيروت للحكم المصري، عين إبراهيم باشا
عام 1840، عبد الله أبو ديه متسلماً على بيروت الذي كان في عهد
الجزار (دزدار قلعة بيروت).
ومن الملاحظ أن
قلعة بيروت
ظلت
قائمة بجدرانها القديمة إلى أن دمرتها الأساطيل المتحالفة:
الإنجليزية، الروسية، النمساوية، عام 1840، في قصفها على الجيش
المصري لإخراجه من بيروت بالقوة. هذا وقد تحولت هذه القلعة إلى
جامع عرف باسم "جامع
المجيدية" وذلك في عهد السلطان عبد المجيد،
ولهذا سمي بالمجيدية، وموقعه في محلة ميناء الخشب إزاء البحر
.
ومن الأهمية بمكان القول بأن بيروت على
الدوام كانت تذخر بالقلاع والأبراج والحصون. وكانت الاتصالات
تتم بين الخليفة الإسلامي وحكام الأقاليم من خلال هذه القلاع
والأبراج التي تشعل في أحد أبراجها أو في أعلى جبل النيران
المدخنة، كإشارة إلى أخطار قادمة من الخارج. وكان في باطن
بيروت وخارجها بعض الأبراج الهامة منها
:
1-
برج الأمير جمال: ويعتبر من أهم الأبراج العاملة في
بيروت، وقد ورد ذكره في كتاب الشيخ أحمد بن محمد الخالدي
الصفدي "لبنان في عهد الأمير فخر الديـن
الثاني" بقوله "وكتب أيضاً (أي الأمير فخر الدين) إلى جميع
أهالي بلاد الشوف ليجوا إليه بالعدد، وأرسل بلوكباشيين بنفرهما
مسكوا برج بيت الأمير جمال الدين في مدينة بيروت، لأنه برج
منيع وحاكم على جميع المدينة والبيوت". ويرجح أن هذا البرج
ينسب إلى الأمير جمال الدين الكبير الجندي، وهو الأمير جمال
الدين حجي بن نجم الدين محمد
بن حجي أحد ولاة بيروت في القرن السابع الهجري، على حد ما جاء
في كتاب صالح بن يحيي "تاريخ بيروت"
.
2-
برج الكشاف: وموقع هذا البرج في المنطقة المشهورة التي يطلق عليها اسم البرج أو
ساحة البرج، حيث ساحة الشهداء، وقد أطلق عليه اسم الكشاف، لأنه
كان يكشف تحركات الأعداء القادمين من البحر. وكان هذا البرج
قريباً من سراي الأمير فخر الدين المعني. وقد عرف هذا البرج
باسم البرج الكبير، ويبدو أنه كان أكبر أبراج بيروت، ويعود
بناؤه إلى عهد الملك الظاهر برقوق في القرن الثامن للهجرة
– الرابع عشر للميلاد
–
وقد أشار صالح بن يحيي إلى ذلك في قوله "……وفي
أيام السلطان الملك الظاهر برقوق عمر البرج الكبير ببيروت على
قاعدة برج من أبراج القلعة الخراب فقرروا به المجاهدين"
. ويستدل من ذلك أيضاً بأن هذا البرج
أقيم على أنقاض إحدى قلاع بيروت المخربة.
ومما يؤسف له أن هذا البرج الذي سمي في
القرن التاسع عشر باسم "ساحة المدافع"، قد دب فيه الخراب على
غرار أكثر الآثار البيروتية، وما بقي في بيروت من آثار هي أقل
بكثير مما كانت تزخر فيه هذه المدينة. ويذكر بأن هذا البرج قد
اندثر وتآكل في عهد إبراهيم باشا الوالي المصري في منتصف القرن
التاسع عشر. وكان بعض الرحالة قد ذكر إطلاله في عام 1808م. وقد
أقيم مكانه أو بالقرب منه سراي الحكومة الصغرى القديمة. وقد
بنيت هذه السراي بين 1883
– 1884 بإشراف المهندس بشارة أفندي الدب مهندس ولاية بيروت
، وذلك بعد هدم سراي الأمير فخر الدين عام 1882 بينما تهدمت
السراي الصغير في الخمسينات من القرن
العشرين
.
3-
برج البعلبكية: وموقع هذا البرج إزاء البحر بمحاذاة
برج السلسلة، ويعود تاريخه إلى العصور الوسطى، وفي ذلك يقول
صاحب كتاب "تاريخ بيروت" في البرج ما يلي " ولما جدد الأمير
بيدمر نايب الشام سور بيروت على جانب البحر أوله من عند الحارة
التي لنا على البحر واصلاً إلى تحت البرج الصغير العتيق عمارة
تنكز نايب الشام، وتعرف ببرج البعلبكية. وجعل بين آخر هذا
السور وبين البرج المذكور بابا وركب عليه سلسلة تمنع المراكب
الصغار من الدخول والخروج وسمي باب السلسلة"
. وقد أطلق عليه " البعلبكية" لأن أجناد (جنود) قلعة بعلبك
كانت تتجرد إلى بيروت إبدالاً، كل بدل شهر. ويأتي كل بدل من
بعلبك كل سنة للغزو في البحر والدفاع عن الثغور.
4-
برج الباشوراء:
وموقع هذا البرج جنوبي سور بيروت أي جنوبي بيروت القديمة فوق
السور، في المنطقة المعروفة باسم الباشوراء، التي تقع فيها
جبانة الباشوراء، وقد سميت بالباشورة وجمعها بواشير، بمعنى سد
من التراب، وقد استخدمت الباشورة في المناطق الإسلامية كسد
ترابي لمنع وصول الخيالة والرجال والسهام إلى موضع المحاربين.
ويذكر أيضاً بأن برج الباشورة هو ذاته المسمى برج العريس، الذي
كان أحد الأبراج العاملة في حماية بيروت. وقيل بأن هذا البرج
كان يتصل بمغارة تنفذ إلى محلة المزرعة جنوباً
.
5-
برج أبو حيدر: وموقعه في المنطقة المعروفة باسمه
اليوم
قريباً من منطقة المصيطبة،
يطل على مدينة بيروت القديمة لما تتميز به هذه المنطقة من علو
وارتفاع. وكان موقعه للجهة الشمالية من دار مفتي بيروت الشيخ
مصطفى نجا. وكان هذا البرج من الأبراج العاملة في حماية بيروت
وحماية
أهلها من غزوات الأعداء
. وينسب هذا البرج لأبي حيدر حمود
وليس لأبي هدير، على غرار بعض الأبراج
العسكرية أو المدنية التي نسبت للعائلات البيروتية واللبنانية
.
6-
برج دندن:
وموقع هذا البرج في غربي كركول العبد في طريقة الشام جنوبي
كنيسة السريان الكاثوليك. وينسب هذا البرج إلى الأمير دندن
شقيق الأمير فياض الذي جاء مع الأمير فخر الدين المعني عند
عودته عام 1618 من طرابلس الشام وبلاد جبيل والبترون. وتنسب
عائلة دندن البيروتية إلى الأمير دندن، وكـان هذا البرج قد
تآكل وانتهى، ولم تبق منه سوى بعض الأطلال في عهد الحكم المصري
في بيروت وبلاد الشام 1831
–
1840
.
7-
برج بيهم: وموقع هذا البرج في محلة المصيطبة
جنوبي بيروت بالقرب من برج أبي حيدر، وقد سمي باسم أسرة بيهم
البيروتية، وهو من أبراج المدينة. وقد بنى الحاج حسين بيهم
العيتاني الطابق الأرضي من منزله، على أنقاض ذلك البرج. وقد
سكن هذا
المنزل أمين بيهم رئيس بلدية بيروت السابق وشقيقه صادق ولدي
أحمد مختار بيهم، وحفيدي الحاج حسين بيهم. كما سكن في المحلة
ذاتها المؤرخ والعلامة محمد جميل بيهم
.
8-
برج سلام:
وموقع هذا البرج في محلة المصيطبة جنوبي بيروت العثمانية،
وقد سمي نسبة لأسرة سلام البيروتية، وهذا البرج من الأبراج
المدنية، وصاحب هذا الدار والبرج سليم علي سلام (أبو علي) والد
الرئيس صائب سلام، (1905
– 2000). ويلاحظ بأن لهذا الدار برجين يطل منهما على بيروت ومشارفها.
9-
برج القشلة:
وموقعه مكان الثكنة العثمانية، وقد بنت
الحكومة العثمانية مكانه عام 1853 ثكنة للجند، وهذه الثكنة هي
التي حولت منذ عهد الانتداب الفرنسي ومن ثم عهد الاستقلال إلى
مقر للحكومة اللبنانية الاستقلالية، وقد عرف باسم السراي
الكبير
.
10-
برج السلسلة: وموقع هذا البرج قرب مرفأ
بيروت شمالاً
لذا أطلق عليه أيضاً اسم برج الميناء،
وفيه سلسلة في البحر خاصة بتنظيم وقوف السفن في ميناء بيروت.
وقد أطلق على هذا البرج إسم "برج الميناء". وقد هدمته شركة
مرفأ بيروت على أثر نيلها الامتياز بإنشاء المرفأ وبدء العمل
فيه ابتداء من عام 1887
.
11-
برج شاتيلا: وموقعه جنوبي غربي منارة بيروت (المنارة)، وقد اتخذ اسمه نسبة لأسرة
شاتيلا البيروتية. وقد ذكر الرحالة دارفيو في سنة 1660 برجاً
عالياً على الشاطئ قرب المنارة. وقال أن الرقيب الحارس يظل
فيه، صباحاً ومساء، ليعطي الإشارة عند اقتراب السفن إلى
اليابسة.
12-
برج الحصن: وموقعه في محلة الحصن
قريباً من منطقة الفنادق غربي بيروت، في الموقع المعروف باسم
ميناء الحصن. وقد أشارت سجلات المحكمة الشرعية في بيروت إلى
أنه ميناء الحسن بالسين وليس بالصاد.
13-
برج الخضر: وموقعه ظاهر بيروت شرقي المدينة بمحاذاة البحر ويقول الرحالة جون كارن
عند وصفه لبيروت ما يلي "……على
الهضبة الصغيرة إلى وراء يتجلى برج قديم يقال أنه قريب من
الحقل الذي ذبح به القديس جاورجيوس التنين……"
.
14-
برج حمود:
وموقعه بالقرب من برج الخضر شرقي بيروت قريباً من الساحل. وقد
أقامه أمراء بني حمود المغاربة الأندلسيين الذين وفدوا إلى
بيروت للدفاع عنها ضد الصليبيين
. وكان أمراء آل حمود قادة
على ثغر بيروت وبعض الثغور الشامية. وقد سكن بعضهم في برج
الكشاف خارج سور مدينة بيروت
.
ومن الأبراج الأخرى العاملة في حماية
بيروت وضواحيها: البرج الجديد وموقعه على ربوة إزاء الكنيسة
الإنجيلية في محلة بوابة يعقوب عند طلعة الأميركان. أما البرج
القديم فكان موقعه في مزرعة القنطاري، وبرج شعبان في محطة
الديك بموضع عيادة الدكتور عبد الرحمن سنو، وبرج سيور المبني
عام 1851، وبرج البراجنة. وكان يوجد في البرج البراني، وبرج
الشيخ، وقد ضمت هذه الأبراج سنة 1566م اثنين وخمسين جندياً من
طائفة المستحفظان وهم الانكشارية، ويسمون أحياناً باسم "الينكجرية".
وهذه الطائفة العسكرية اشتركت في فتح مصر، ومن مهامهم الحربية
أيضاً مهمة الدفاع عن القلاع
.
وهناك أبراج أخرى منها: برج الشلفون،
برج الغلغول
في الخندق الغميق (بالقرب من زاروب الحرامية ومدرسة الشيخ
نعمة)، برج الفنار. أما برج
الحمراء، فموقعه في المنطقة المعروفة باسم الحمراء. وقد سمي
نسبة إلى أمراء بني الحمراء أمراء البقاع، وهم أول ما سكنوا
هذه المنطقة قبل عام 539هـ ومن أشهرهم الأمير الشيخ محمد
الحمراء
.
ومن أبراج
رأس بيروت
: برج قدورة، وبرج البواب،
وبرج فايد، وبرج الشيخ دعبول وكان موقعه شمالي سراي الصنائع
(مدرسة الصنائع سابقاً) وكان موقعه تحديداً حيث المصرف المركزي
اليوم، وبرج ربيز حيث شارع عمر بن عبد العزيز في شارع الحمراء
حيث مقهى مودكا(سابقاً)، وبرج اللبان في شارع الحمراء خلف
المحلات التجارية المعروفة باسم (A.B.C)، وبرج شهاب قرب برج اللبان في شارع
الكومودور، برج شاتيلا في منطقة ساقية الجنزير بالقرب من الحرج
القديم الذي كان يتوسط هذه المنطقة، وبرج عرمان في شارع
المعماري قرب آل الارقش خلف مبنى جيفنور. ومن الملاحظ أن هذه
الأبراج من
الأبراج المدنية التي سميت بأسماء العائلات البيروتية،
بما فيه برج المصيطبة. وقد أشار صالح بن يحيي إلى هذه المنطقة
بقوله: " .... كان ملك الأمراء قد رسم لمتولي بيروت يقطع رؤوس
قتلى الفرنج، وأن يعمر على ابدانهم مسطبة على باب بيروت ...."
وأضاف في مكان آخران " السلطان نزل على المسطبة التي كانت
معروفة بمنزلة السلاطين قبالة الأشرفية ...." كما أشار إلى أن
الأمير بيدمر الخوارزمي هو الذي جلب الصناع وعمّر المسطبة
قريباً من البحر لعمارة السفن
.
هذا، وقد تميزت بيروت عبر تاريخها بالعديد من الملامح المدنية
والعمرانية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعسكرية
وسواها .
2- دور
ميناء بيروت المحروسة
في تطور التجارة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في بيروت
تقع بيروت على ساحل مميز، يتضمن بعض
الخلجان والأجوان، وقد سهل هذا الموقع إنشاء مرافئ في بيروت
وفي بقية المدن الساحلية الشامية. وبيروت من المدن القديمة،
ويعود نشاطها إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين ويستدل على ذلك
من سورها العتيق الذي كان يوازي في القديم شاطئ البحر، فكان
يمنع تدفق المياه إلى داخل البلدة.
وقد أشار صالح بن يحيي بأن " بيروت مدينة قديمة جداً يستدل على
قدمها بعتق سورها .... ومما يستدل على كبر بيروت وسعتها ما
يجدوه الناس في الحدايق بظاهرها من الرخام وآثار العماير
القديمة .....".
ولقد نشأ في بيروت مرفأ هام منذ العهد
الفبنيقي، على غرار مرافئ صيدا وصور وطرابلس وسواها. كما
اتخذها الإفرنج مقراً لسفنهم وعساكرهم. ولما خضعت بيروت للحكم
الإسلامي، كان ميناؤها مركزاً لصناعة السفن الإسلامية لا سيما
في عهد معاوية بن أبي سفيان. ويذكر صالح بن يحيي في كتابه
"تاريخ بيروت" "بأن بيروت دار صناعة دمشق وبها عمر معاوية
المراكب وجهز فيهم الجيش إلى قبرس ومعهم أم حرام
وأسمها العميصا بنت ملجان زوجة عبادة بن الصامت رضي الله عنهما
....".
كان مرفأ بيروت من المراكز
الاستراتيجية الهامة في المنطقة، ذلك أن من يستولي عليه يستطيع
التقدم نحو المدينة وبقية المناطق، لأن أكثر العمليات العسكرية
كانت تتم بواسطة البحر، وبعضها الآخر بواسطة البر. ولهذا حرص
الإفرنج في العصور الوسطى بعد سيطرتهم على بيروت ومدن الساحل،
على الاهتمام بتحصين مرفأ بيروت، وبالتالي تحصين المدينة،
ليتمكنوا من الدفاع عنها ضد المسلمين.
ولما استعاد المسلمون بيروت ومدن
الشام، حرص الأمير بيدمر الخوارزمي (المتوفى 1387م) على
الاهتمام بمرفأ بيروت وتحسينه، لا سيما وأنه استخدمه لتعمير
وصناعة السفن الحربية، فأمر بقطع الأخشاب من حرج بيروت، لصنع
الشواني والسفن،
فصنعها ما بين المسطبة أي
المصيطبة وساحة بيروت والميناء.
ومما يلاحظ أن المنطقة المحاذية لدارة آل سلام في المصيطبة ما
تزال تعرف حتى اليوم باسم "العمارة". وكان الأمير فخر الدين
المعني قد أمر بردم مرفأ بيروت تخوفاً من الأسطول العثماني
واتقاء لهجماته
.
ولما سيطر العثمانيون على بيروت وبلاد
الشام عام 1516م، شعروا بأهمية مرفأ بيروت، كما شعرت الدول
الأجنبية بأهمية هذا المرفأ، سواء على الصعيد الاقتصادي أم على
الصعيد الاستراتيجي. ولهذا بدأت أهمية بيروت كمدينة ناشئة تظهر
بوضوح. وفي القرن الثامن عشر الميلادي بدأت بيروت تحتل مكانة
اقتصادية بارزة
، وأصبحت أكثر مدن الساحل الشامي تجارة وسكاناً وذلك بفضل
مينائها وعوامل اقتصادية أخرى. وهذا ما دفع التجار الأجانب لا
سيما الفرنسيين المقيمين في صيدا، الكتابة إلى حكومتهم في عام
1753،
وطالبوا إرسال بعض التجار
والصناع إلى بيروت وجوارها من بين الذين يفهمون في غزل القطن
لتوجيه الصناعة والتجارة بأسلوب مناسب.
وأشارت الدراسات التاريخية والتقارير
القنصلية بأن مرفأ بيروت كان منذ القدم من أصلح الموانئ لرسو
السفن، وهو الميناء الذي تجد فيه المراكب الأمان في جميع
الفصول. وكانت السفن ترسو قديماً في داخله، فيضع البيارتة
العاملون في المرفأ "الصقالات"
–
وهي ألواح عريضة من الخشب
–
ليستعملها المسافرون جسراً وهي ألواح عريضة من الخشب، يستعملها
المسافرون جسراً للنزول إلى البر، وإنزال البضائع إلى الرصيف.
ومن هنا دخلت كلمة "سقالة" (SCALA) الإيطالية إلى اللغة التركية بمعنى "اسكلة" أي رصيف، وإلى اللغة
العربية "سقالة" بمعنى لوح الخشب.
أما السفن الكبيرة القادمة إلى مرفأ
بيروت، فكانت تقف في الصيف تجاه بيروت، في حين تضطر في الشتاء
للالتجاء إلى خليج سيدنا الخضر عليه السلام قرب الكرنتينا، أو
عند مصب نهر بيروت.
وكانت منازل الأجانب، ومنازل
بعض قناصل الدول
الأجنبية، تقع في الجهة الجنوبية من ميناء بيروت. كما تركزت
الكثير من الخانات
– الفنادق
–
إزاء المرفأ
وبجانبه، وذلك لتسهيل إقامة التجار والوافدين من الخارج.
وأشارت التقارير والدراسات التاريخية إلى أن
مرفأ بيروت لا سيما في القرن التاسع عشر، كان بمثابة "خلية
نحل" حيث يلتقي التاجر البيروتي، بالتاجر الفرنسي، والتاجر
الإيطالي، والتاجر المالطي، والتاجر النمساوي. كما يلتقي بتجار
الإسكندرية ودمياط والمغرب وتونس والجزائر. ويلتقي التاجر
البيروتي بتاجر الجبل اللبناني، والتاجر الدمشقي، والحلبي،
والحمصي، والحموي وهكذا
.
وأكد القنصل الفرنسي هنري غيز ، بأنه بعد أن عاد إلى بيروت عام
1824 " استطعت أن أتتبع ازدهارها خلال فترة أربعة عشر عاماً،
في إبان نهضة صناعتها الحقيقية وتضخم ثروة سكانها. وهذه
المدينة بالنسبة لعدد سكانها، تعد رابعة مدن سوريا، فهي دون
طرابلس التي تأتي في الرتبة بعد الشام وحلب ..." غير أنه أكد
في مكان آخر " بأن بيروت تتقدم باضطراد وتوشك أن تعد بعد
الاسكندرية وإزمير. لقد أنشئت فيها قنصليات لجميع الدول
تقريباً، ومؤسسات تجارية، وفنادق ....".
وكانت حركة التجارة في ميناء بيروت
حركة نشطة، حيث كان الجبل اللبناني يزود تجار بيروت بـ 1800
قنطار من الحرير، ويتم تصديرها عبر مرفأ بيروت بواسطة مراكب
أوروبية ومحلية، يصدر معظمها إلى دمياط والإسكندرية والمغرب
وتونس والجزائر. وتعود هذه المراكب محملة بالأرز والكتان
والأنسجة وجلود الجواميس من مصر، وتحمل العباءات من تونس. كما
تحمل من موانئ المغرب العربي بعض السلع الأوروبية التي تحتاج
إليها بيروت ومدن الشام. وقدر مجموع ما استوردته بيروت سنوياً
في أوائل القرن التاسع عشر حوالي (200) مئتي ألف قرش
.
ويرى جون كارن – وهو معاصر – بأن بيروت مركز تجارة الدروز
والموارنة، إليها يصدرون قطنهم وحريرهم ، فيأخذون عوضه الأرز
والتبغ والنقود، ثم بهذه يشترون القمح من سهول البقاع وحوران.
ولا شك أن الحرير الخام أهم مادة تجارية تتعاطاها بيروت تأتي
بعدها مواد القطن والزيتون والتين ، وهي كلها تصدر إلى القاهرة
ودمشق وحلب.
وأضاف قائلاً : " وما زال النشاط التجاري في بيروت يزداد يوماً
بعد يوم ". ونظراً لأهمية مرفأ بيروت ، فقد أكد جون كارن
المعاصر للقرن التاسع عشر هذه الأهمية قائلاً : " لعل ميناء
بيروت أفضل الموانئ على طول الشاطئ، يؤمن الرسو فيه إلى حد
بعيد، وقد بدرت في الآونة الأخيرة بوادر من حركة جديدة، أغرت
بعض أصحاب المناسج في أوروبا أن يهتموا لإنشاء الأعمال
والمتاجر في هذه البقعة، فأقدم تجار كثر على النزول في
المدينة، وهم فيها يعيشون عيشة بذخ في منازل مريحة، ذلك بأن
المنازل التي ابتناها الأوروبيون مؤخراً جيدة متينة، بينما
المنازل التي ابتناها الأهلون أقل مادة، فهي ترشح شتاء وتدخلها
الرياح ....".
ونتيجة لتطور التجارة في بيروت، وتزايد
أهمية مرفأها، فقد ظهرت مرافئ
متخصصة في المرفأ نفسه وبمحاذاته. ومن بين هذه المرافئ
والموانئ: ميناء الأرز، ميناء البطيخ، ميناء الخشب، ميناء
القمح، ميناء البص
. وكانت بعض هذه الموانئ لاسيما ميناء
الخشب ما يزال موجوداً قبيل الحرب اللبنانية عام 1975
.
وبسبب هذا التطور الاقتصادي الضخم
لمدينة بيروت ولمرافئها، فقد حرصت الدول الأوروبية على اتخاذ
مقار لها، بافتتاح قنصليات لم تكن موجودة في الأصل، بعد أن
صارت هذه المدينة مركزاً تجارياً واقتصادياً هاماً. وقد بلغ
معدل السفن الإنجليزية في مرفأ بيروت (150) سفينة في كل عام.
وكانت قلعة بيروت الشهيرة بالقرب من
الميناء. وهي تعتبر من الملامح الأساسية لميناء بيروت. وقد
أشار الرحالة محمد بيرم
الخامس
التونسي
في أواخر القرن التاسع عشر
في كتابه "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" إلى مرفأ
بيروت واصفاً إياه بقوله:
"
وصلنا إلى مرسى بيروت أعظم مراسي ولاية الشام المعروفة بسورية
...
فنزلت هناك، وكانت المرسى صعبة جداً، لبعد إرساء الباخرة عن
الشط وركوبنا في زوارق مع هيجان
البحر. وبعد أن خلصنا رحلنا
من
الكمرك الذي لم نر من أهله إلا خيراً. دخلنا إلى البلاد راجلين
لقربها وعدم وجود ما يركب حول الكمرك. فدلني رجل من المتشبثين
بخدمة المسافرين على منزل للمسافرين، قريب من جهة طريقنا، كاشف
على البحر، فإذا هو منزل لأحد الإفرنج، مثل منازل أوروبا
المتوسطة الحسن وأخذت به بيتاً
واسعة
ذات حجرة للنوم والصناديق وحجرة للجلوس، واغتسلت في حمامه
وبتنا تلك الليلة والأكل فيه حسن……"
.
بالإضافة إلى ذلك
، فقد استأثر المرفأ بعدد
كبير من المؤسسات الرسمية العثمانية منها مبنى البنك العثماني
ومبنى البريد وسواهما من المباني والمؤسسات. وقد أشار الرحالة
الروسي كريمسكي من خلال رسائله المعروفة إلى ذلك بقوله:"……من ينتظر رسالة يأتي بنفسه
إلى مبنى البريد قرب المرفأ الذي ينقسم إلى مراكز يختص كل منها
بالبريد الوارد من بلد أجنبي معين. هناك مركز للبريد الوارد من
النمسا وآخر من فرنسا أو روسيا أو انكلتره……"
.
وبصورة عامة
، فإن الاهتمام بدأ يتزايد تباعاً
بمرفأ بيروت، ففي سنة 1863 تقدمت شركة "مساجيري مار يتيم"
بمشروع مرفق بالخرائط لتحسين هذا المرفأ، وقدمته لأحمد قيصرلي
باشا حاكم ولاية صيدا حيث كانت بيروت تتبع لها، وقدرت نفقات
هذا المشروع بـ 6,371,300 فرنك (ستة ملايين وثلاثمائة وواحد
وسبعين ألف، وثلاثمائة فرنك)، غير أن هذا المشروع لم ينفذ ولم
يوضع موضع التنفيذ إلا عام 1880 بعد أن فشلت بلدية بيروت عام
1879 في نيل امتيازه، وبعد أن فشلت شركة طريق بيروت
–
دمشق من الحصول على امتياز هذا المشروع.
وبعد اتصالات مكثفة صدرت إرادة سلطانية
مؤرخة في 19 حزيران 1887 نال بموجبها يوسف أفندي المطران
امتياز مشروع تطوير وتحسين مرفأ بيروت ولمدة ستين عاماً تنتهي
في 19 تموز عام
1947،
وقد اشترط على صاحب الامتياز المباشرة بالعمل بعد
سنتين وانجازه في خمس سنوات على أن
يكون طول الرصيف (1200) متر. واحتفظت الحكومة العثمانية بحق
ابتياع هذا المشروع بعد ثلاثين سنة. واشترطت الإرادة السلطانية
على السفن الداخلة إلى المرفأ دفع رسوم الدخول والرصيف
، أو دفع الرسوم إذا كانت هذه السفن لا تقترب من الرصيف
.
وفي سنة 1888 - وكانت بيروت قد أعلنت
ولاية - تألفت الشركة العثمانية لمرفأ بيروت وأرصفته ومخازنه،
برأس مال قدره خمسة ملايين فرنك. وكانت هذه الشركة فرنسية، مما
أثار حفيظة الإنجليز الذين أشاعوا أن هذا المشروع غير مفيد،
لعدم وجود خط حديدي بين بيروت والمرافئ الشامية، على غرار ما
أشاعوه ضد الفرنسيين عند قيام مشروع قناة السويس في مصر.
لقد بوشرت أعمال تحسين المرفأ عام 1889
وقامت بها شركة "موزي وطونن ولوزي" غير أن المشروع واجه الكثير
من التعقيدات، مما اضطر هذه الشركة للاستدانة من شركة خط حديد
بيروت
–
دمشق
–
حوران، مبلغاً وقدره خمسة ملايين فرنك لمتابعـة أعمالها.
وبعد انتهاء مشروع تطوير المرفأ عام
1894
لاستقبال السفن الكبيرة التي بقيت لفترة طويلة عاجزة عن تفريغ
السفن مباشرة على رصيف المرفأ فقد
وقعت خلافات بين شركة المرفأ وبين الحكومة العثمانية ووزارة
البحرية العثمانية، ومن أسباب هذه الخلافات مسألة دخول البوارج
الحربية العثمانية إلى المرفأ، والخلافات بين شركة المرفأ وبين
إدارة الجمارك بشأن رسم الحمالين والمخازن وتعيين حدود منطقة
شركة المرفأ. كما وقع خلاف حول زيادة رسوم الدخول للمرفأ مما
أثر على حركة الصادرات والواردات، حيث تحولت إلى بقية المرافئ
الشامية القريبة. كما أن بعد المسافة بين نهاية خط حديد بيروت
–
دمشق وبين مرفأ بيروت كان من جملة أسباب الخلافات بين الجانبين
ومن أسباب تأثر حركة المرفأ التجارية.
والحقيقة فإن هذه الأزمة بين الجانبين
سرعان ما انتهت، بل إن المرفأ ازدادت أحواضه وأرصفته ما بين
رأس الشامية إلى رأس المدور.
وبدأ يستقبل سفناً أكثر
وأكبر
اتساعاً بما فيها قوافل
الحجاج. غير أن امتداد مشروع سكة الحديد إلى محاذاة رصيف
المرفأ في أوائل القرن العشرين في عهد السلطان عبد الحميد
الثاني، دعا الحجاج المسلمين للتوجه للحج إلى الأراضي المقدسة
عبر هذا الخط
.
ومهما يكن من أمر
، فقد شهد مرفأ بيروت قبل
الحرب العالمية الأولى وبعدها تطوراً ملموساً أثر تأثيراً
مباشراً في الحياة الاقتصادية البيروتية واللبنانية والشامية.
ولا يزال بعض البيارتة يذكرون نزول الطائرات الخاصة المائية في
مرفأ بيروت وذلك قبل إنشاء مطار بئر حسن في منطقة المدينة
الرياضية اليوم
.
|