الفصل الأول
حرص اللبنانيون بمختلف طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم على تكوين
الأسرة الصالحة، لعلمهم أن أعمال الأسرة الصالحة بأفرادها
الصالحين لا تنعكس إيجاباً على أفراد الأسرة فحسب، وإنما تنعكس
إيجاباً على مختلف أفراد المجتمع اللبناني والعربي، وفي مختلف
الميادين الإجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية
والتربوية والإنمائية وسواها. لهذا حرص اتفاق الطائف والدستور
اللبناني على أن يتضمن نص خاص حول "توحيد كتابي التاريخ
والتنشئة الوطنية".
وفي لبنان تقوم التنشئة الوطنية الصالحة والهادفة على العناصر
السباعية التالية:
1.
الدين
والقيم الدينية باعتبارهما أهم عناصر الخير.
2.
الأسرة باعتبارها العامل الأساسي في المجتمع.
3.
القيم
والمثل العليا والبيئة الإجتماعية.
4.
القدوة الحسنة في المجتمع.
5.
المدرسة والمؤسسات التربوية.
6.
وسائل
الإعلام والتوعية الوطنية.
7.
الحرية الفردية والحريات العامة.
وفي ضوء هذه السباعية في كل بيئة لبنانية، تنعكس النتائج:
إيجاباً أم سلباً على طبيعة الأسرة اللبنانية التي يبقى لها
ولأفرادها الفضل الأول في تنمية المجتمع اللبناني، بل ولا
نبالغ مطلقاً إذا قلنا، أن للأسرة اللبنانية دوراً مميزاً في
تنمية المجتمع العربي.
ومن يطلع على تاريخ الأفراد والأسر اللبنانية منذ مئات السنين
يدرك تماماً كم كان – لهؤلاء- الأفراد والأسر دور بارز في
نهضة وتقدم المجتمع اللبناني والعربي، وذلك من خلال إقامة
الجمعيات والمؤسسات والمدارس والجامعات والمستشفيات ودور
الأيتام، ودور العجزة، ومؤسسات الرعاية والخدمات الإجتماعية،
فضلاً عن المساجد والكنائس، وإعلان الأوقاف الخيرية العامة
وسواها من المؤسسات والمنشآت الهادفة إلى تنمية المجتمع
اللبناني.
ومن يطلع على المؤسسات اللبنانية الأهلية وأعدادها وأدوارها،
يدرك تماماً بأنه لولا هذه المؤسسات الأهلية، لكان لبنان عانى
الكثير، وتعثر في مسيرته في مختلف المجالات، لأن المؤسسات
الرسمية منذ العهد العثماني حتى اليوم لم – ولن – تستطيع أن
تقوم بتلبية جميع حاجات المجتمع اللبناني. لهذا فمن الثابت أن
مؤسسات المجتمع المدني ما تزال تقوم بدور فاعل في سبيل نهضة
ورقي الأفراد والجماعات والأسر اللبنانية، وبمعنى آخر نهضة
ورقي المجتمع اللبناني.
وبما إن المجتمع اللبناني غني بنماذج وأمثلة لا حصر لها تمثل
خير تمثيل دور الأفراد والأسر والجمعيات اللبنانية في تنمية
المجتمع اللبناني، سواء في إطار الطوائف المسيحية أو الطوائف
الإسلامية، أو مؤسسات المجتمع المدني، لهذا، فإننا سنقوم
بدراسة بعض النماذج منها على سبيل المثال:
أولاً: جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت 1295هـ -
1878م.
كانت الأسر البيروتية حريصة على معتقداتها الدينية، وعلى
عاداتها وتقاليدها وقيمها ومثلها العليا. وقد لاحظت هذه الأسر
تعاظم نشاط المؤسسات والمدارس والجامعات الأجنبية، في ظل تخلف
المؤسسات والمدارس العثمانية. لقد نقل اليسوعيون معهد اللاهوت
اليسوعي الى بيروت عام 1875، الذي كان قد تأسس في غزير عام
1846، وكان نواة لجامعة القديس يوسف.
ومنذ عام 1860 أنشأت الارسالية الانجليزية السورية مدارس
للبنين والبنات في بيروت ومناطق أخرى. كما أنشأ البطريرك
غريغورس يوسف المدرسة البطريركية الكاثوليكية في منطقة زقاق
البلاط عام 1865. كما أسس المعلم بطرس البستاني المدرسة
الوطنية في زقاق البلاط عام 1862، ومدرسة الثلاثة أقمار للروم
الأرثوذكس التي انتقلت من سوق الغرب إلى بيروت عام 1866،
ومدارس راهبات مار يوسف، ومدرسة الحكمة لمؤسسها المطران يوسف
الدبس عام 1874-1875، وسواها من مدارس ومؤسسات.
وفي عام 1866 تأسست الكلية السورية الانجيلية (الجامعة
الأميركية فيما بعد) بمسعى القس الدكتور دانيال بلس الذي كان
رائداً للتبشير الانجيلي في بيروت والبلاد السورية مدعوماً من
الحكومة الأميركية، ومن بعض الأفراد المحليين، لاستقطاب
المسيحيين والمسلمين على السواء.
في
ظل هذه الظروف الصعبة والتنافس التبشيري الحاد، وفي إطار تخوف
الأسر الإسلامية البيروتية على واقع المسلمين ومستقبلهم، نشأت
جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت في غرة شعبان 1295هـ
- 31 تموز 1878م، وكان اجتماع التأسيس في منزل الشيخ عبد
القادر قباني – صاحب ثمرات الفنون -. أما أفراد وأعضاء الأسر
البيروتية المؤسسون فهم السادة: أحمد دريان، بديع اليافي، بشير
البربير، حسن بيهم، حسن الطرابلسي، حسن محرم، خضر الحص، راعب
عز الدين، سعيد الجندي، سعيد طربيه، طه النصولي، عبد الله
غزاوي، عبد القادر سنو، عبد القادر قباني، عبد اللطيف حمادة،
عبد الرحمن النعماني، محمد ديه، محمد الفاخوري، محمد اللبابيدي،
محمد أبو سليم المغربل، محمود خرما، محمود رمضان، مصباح محرم،
مصطفى شبارو، هاشم الجمال.
ويشير "الفجر الصادق" لعام 1297هـ، كيف انطلق المقاصديون
الأوائل في جمع الأموال والتبرعات من المسلمين والمسيحيين على
السواء، باعتبار أن مؤسسة المقاصد، ومنذ نشأتها الأولى كانت
مؤسسة وطنية، ولم تكن مؤسسة طائفية.
ومما يلاحظ، وبالرغم من أن جمعية المقاصد كانت جمعية حديثة
التأسيس، غير أنها رأت أن تنمية المجتمع اللبناني عامة
والإسلامي خاصة، إنما يتطلب تأسيس مدارس للبنات قبل مدارس
الذكور، على اعتبار أن الفتاة المتعلمة والمثقفة هي أساس
الأسرة وعمادها في الحاضر والمستقبل. فتم تأسيس المدرسة الأولى
في شوال 1295هـ - ايلول 1878 في محلة الباشورة، بلغ عدد
طالباتها 230 تلميذة. وفي السنة التالية 1296هـ - 1879م،
افتتحت المدرسة الثانية للإناث في باطن بيروت، وبلغ عدد
طالباتها 200 تلميذة.
وفيما بعد افتتحت مدارس مقاصدية للذكور، بلغ عدد طلابها الذكور
394 تلميذاًوفيما بعد افتتحت مدارس مقاصدية للذكور، بلغ عدد
طلابها الذكور 394 تلميذاً. كما افتتحت المقاصد مدرسة داخلية
ضمت خمسين تلميذاً. وقد ركزت المقاصد على التعليم الحديث بما
فيه اللغات الفرنسية والانجليزية والعربية، في حين اهملت تعليم
اللغة التركية.
ومما ينبغي الإشارة إليه، أن الألف تلميذة وتلميذ من
المقاصديين الأوائل، هم ممن كان لهم الفضل فيما بعد بتولي
مسؤولية نهضة وتعليم ورقي المجتمع الإسلامي في لبنان. وما تزال
آثار المقاصد الإيجابية ماثلة حتى اليوم في جميع المناطق
اللبنانية.
ونظراً لأهمية ما أقدمت عليه الأسر الإسلامية في بيروت في إطار
تأسيس المقاصد، فقد تجاوز الأثر المقاصدي بيروت ليصل إلى صيدا،
طرابلس، بعلبك، مرجعيون، النبطية، اللاذقية، دمشق، حماه، حلب،
القدس، عكا، طبريا، بلقاء، الاسكندرية، بحيث احتذت تلك المناطق
وأسر تلك المناطق بجمعية المقاصد في بيروت، لتؤسس بدورها
جمعيات مقاصدية على النسق المقاصدي البيروتي.
وفي الفترة اللاحقة، اسهمت بعض الأسر البيروتية في خدمة
المقاصد، وفي خدمة المجتمع الإسلامي في لبنان، ففي عام 1908،
انتخب نقيب السادة الأشراف العلامة الشيخ عبد الرحمن الحوت
رئيساً للجمعية، ثم تولى رئاستها مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا،
ثم سليم علي سلام (أبو علي) مع إدارة للجمعية ممثلة بالسادة:
عبد القادر قباني، عمر بك الداعوق، محمد فاخوري، سليم الطيارة،
عبد الباسط الانسي، الشيخ محي الدين الخياط، بدر دمشقية، الشيخ
عبد القادر الجارودي، عارف دياب، محمد جميل بيهم.
ولا بد من الإشارة إلى أن المقاصد شهدت في العهد العمري تطوراً
بارزاً أدى إلى تنمية المقاصد والمجتمع البيروتي واللبناني
عامة. فالعهد العمري هو عهد رئاسة عمر بك الداعوق (1913-1914)،
(1934-1949) لجمعية المقاصد، وهي من أهم الفترات المقاصدية
نمواً وتطوراً.
وممن تولوا رئاسة جمعية المقاصد من الأسر البيروتية السادة:
محمد الفاخوري، محمد سلام، مصباح الطيارة، الرئيس صائب سلام
(1958-1982) الذي كانت المقاصد في عهده لا تقل أهمية عن عهد
عمر بك الداعوق ومن بعده نجله الأستاذ تمام سلام (1982-2000).
أما اليوم فيتولى رئاستها المهندس أمين بن محمد بن عمر بك
الداعوق التي شهدت المقاصد في عهده تقدماً ملموساً، وتجاوزاً
للعديد من الصعاب المالية والإدارية والعقارية.
يبقى القول، أن أسراً بيروتية عديدة أسهمت في تطور المقاصد،
وفي تنمية المجتمع اللبناني نذكر منها على سبيل المثال لا
الحصر أسر: فتح الله، الأزهري، الحسامي، غندور، الشريف،
البواب، المخزومي، حمادة، الانسي، البربير، الأسير، اللادقي،
القصار، العيتاني، مكي، فروخ، النقاش، المشنوق، صلاح الدين،
قريطم، سلطاني، الغلاييني، المدور، حبال، دوغان، ارناؤوط، ابو
النصر، التنير، شبقلو، خرما، طربيه، جبر، الأغر، بحصلي، بدر،
براج، برغوت، بعيون، بكري، بلوز، بليق، بيضون، الترك، تميم،
جلول، الجندي، حرب، حريري، الحص، حلاق، حمود، خالد، دعبول،
الدنا، دندن، زيدان، السردوك، سنو، سلام، سوبره، شاتيلا، شقير،
شهاب، صعب، صقر، الصلح، الصمدي، صيداني، طبارة، طيارة، عاليه،
عانوتي، عبد العال، عجم، عجوز، فتوح، فرشوخ، غزاوي، غزيري،
العريس، عضاضة، عفرة، علايلي، علوان، عويني، فليفل، القاضي،
قدورة، قرنفل، قيسي، قليلات، كبي، الكستي، كنيعو، المجذوب،
محمصاني، محيو، ميرزا، مشاقة، مطرجي، المفتي، مكاوي، ميقاتي،
ناصر، الناطور، نصولي، نعماني، الهبري، الوزان، يموت.
إن
إدارة جمعية المقاصد الممثلة بالأسر البيروتية، أنشأت عشرات
المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، فضلاً عن مستشفى
المقاصد، ومعهد التمريض المقاصدي، والمعهد العالي للدراسات
الإسلامية بالإضافة إلى تسلمها مسؤولية الجبانات وسواها. غير
أن الأسر البيروتية التي عودتنا باستمرار على العطاء والخير،
فإنها لم تكتف بتنمية المجتمع البيروتي، بل حرصت المقاصد على
تشكيل "لجنة تعليم أبناء المسلمين في القرى" منذ العشرينات، كي
تعم الفائدة والخير والعطاء جميع المناطق اللبنانية سواء في
الشمال أو الجنوب أو جبل لبنان أو البقاع. كما قامت الأسر
البيروتية بوقف الأوقاف الخيرية العامة على جمعية المقاصد كي
تستطيع الجمعية أداء مسؤولياتها الجسام تجاه المجتمع اللبناني.
لقد استطاعت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، ومن
خلال الأسر البيروتية الإسهام اسهاماً بارزاً في تنمية وتطور
المجتمع اللبناني. ويكفي فخراً أن المقاصد التي ابتدأت بعدد
محدود من الأساتذة والطلاب، فإذا بعدد الاساتذة يرتفع في فترة
من الفترات إلى 1350 أستاذاً ومعلماً، كما ارتفع عدد الطلاب في
فترة من الفترات إلى حوالي 24000 طالباً وطالبة.
لقد استطاعت المقاصد من خلال مؤسساتها التربوية والتعليمية
والاستشفائية والصحية، ومطابعها ومنشوراتها، ومكتبتها المميزة،
ومدافنها الإسلامية، من أن تقدم جميع هذه الخدمات والتضحيات
ليس للمجتمع البيروتي وحسب، وإنما لجميع مناطق المجتمع
اللبناني.
أعلى الصفحة
|