الفصل الثاني
ثانياً: الكلية العثمانية الإسلامية 1895- 1943
يمثل العلامة الشيخ أحمد عباس الأزهري (1853-1927) ظاهرة فريدة
من نوعها من بين الأسر الإسلامية واللبنانية عامة. فهذا العالم
الجليل رأى أن تنمية المجتمع الإسلامي واللبناني لا يمكن أن
يتم إلا بواسطة العلم والانفتاح على مختلف الطوائف اللبنانية،
والاستعانة بخبرات الاختصاصيين فيها. لهذا أسس عام 1895
"الكلية العثمانية الإسلامية" بالتعاون مع الشيخ عبد القادر
قباني والشيخ عبد الباسط فتح الله. وكان شعار الكلية "أغنى
الغنى العلم، واكرم الحسب الأدب".
لقد استقطبت "الكلية العثمانية" منذ سنتها الأولى أكثر من
أربعمائة طالب من البيارتة واللبنانيين والعرب. وبعد افتتاح
فرعها الداخلي استقطبت الكلية فضلاً عن البيارتة واللبنانيين
عدداً كبيراً من الطلاب من سوريا، مصر، الحجاز، اليمن،
الأناضول، العراق، تونس، مسقط، البصرة، وسنغافورة، وباتت
شهادتها العلمية تخول الدخول للجامعات الفرنسية دون امتحان
دخول. ونتيجة للمستوى العلمي الراقي للكلية، فقد ذاع صيتها في
جميع الولايات العثمانية، مما دعا السيد محمد رشيد رضا صاحب
صحيفة "المنار" لأن يكتب مقالاً عام 1913 منوهاً بالكلية
العثمانية وبشيخها الأزهري وبمستواها العلمي، وبدورها في بيروت
ومختلف الولايات العثمانية.
ومما يلاحظ أيضاً، بأن أثر "الكلية العثمانية الإسلامية" لم
يقتصر على النشاط العلمي فحسب، بل كان للشيخ أحمد عباس الأزهري
أثر وطني وقومي وإصلاحي وسياسي. فقد كان رواد النهضة العربية
من تلامذته وقد تدربوا عليه وعلى تعاليمه، من هؤلاء على سبل
المثال: عبد الغني العريسي، عمر حمد، محمد ومحمود المحمصاني،
وقد أعدم هؤلاء على يد جمال باشا عامي 1915-1916، بينما نفي
تلميذه رياض الصلح مع والده رضا بك الصلح خارج البلاد. ومن
تلامذته أيضاً: الأمير عادل أرسلان، محمد عز الدين، عبد الله
المشنوق، جمال أديب، رشيد بيضون، شكيب الجابري، بشير القصار،
عارف العارف، علي ناصر الدين، شفيق النقاش، محمد شامل، محمد
جميل بهيم، أديب قدورة، عمر فاخوري، حسين العويني، مليح سنو،
عارف النكدي، توفيق الناطور (حكم عليه بالأشغال الشاقة)، بدر
دمشقية، عارف الناطور، مصباح الطيارة، حسن القاضي، فؤاد حنتس،
رفيق براج، سعيد جمال، ناجي الشعار، زكي النقاش، محمود حبال،
سليم عيتاني، محمد كنيعو، محمد خالد، ونفر كبير ممن تبوأ أهم
المناصب العلمية والسياسية والاجتماعية والطبية والاقتصادية في
بيروت ولبنان والعالم العربي، وممن كان لهم فضل كبير في نهضة
وتنمية المجتمع اللبناني.
من
هنا نؤكد، بأن الفرد، كما الجماعات والجمعيات يمكن أن يكون
عاملاً مؤثراً في حياة الأمة، وفي تنمية المجتمع ليس اللبناني
فحسب، وإنما المجتمع العربي، غير أن وفاته عام 1927 أثرت على
مسيرة الكلية، ولم يكن العامل الرئيسي في اعادة احياء مسيرتها
ورسالتها السامية سوى الدكتور بشير قصار الذي تولى إدارتها مع
مجموعة من البيارتة المسلمين والمسيحين على السواء. ولما توفي
الدكتور بشير قصار، حاول أبناء وعائلة الشيخ أحمد عباس الأزهري
الامساك بإدارة المؤسسة انطلاقاً من أنها "ارث عائلي" وليس
ارثاً وطنياً عاماً، أو وقفاً خيرياً عاماً، ونظراً لاعتماد
السياسة الفردية، والابتعاد عن العمل المؤسساتي الجماعي، الأمر
الذي أدى إلى أقفالها عام 1943 بعد مسيرة حافلة بالعطاء بين
أعوام 1895-1943. وفي الوقت الذي أسهم فرد بيروتي اسهاماً
لافتاً في تنمية المجتمع البيروتي واللبناني والعربي، فإذا
بالورثة والخلافات العائلية يؤثرون نهائياً على مسيرة أهم
مؤسسة تربوية بيروتية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهذا
الاقفال اعطى درساً للبيارتة لن ينسوه مطلقاً، ومضمون هذا
الدرس والعبرة، ضرورة تحويل المنشآت إلى مؤسسات تقوم على العمل
الجماعي وليس على العمل الفردي.
ثالثاً: جمعية بيروت الإصلاحية 1913 وشهداء عامي 1915-1916
وأثرهم السياسي والاستقلالي في المجتمع اللبناني:
لا
تقتصر التنمية في أي مجتمع على التنمية العلمية والاجتماعية
والاقتصادية فحسب، وإنما تتعداها الى التنمية والنهضة
السياسية، كما أن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان عوامل
أساسية في يقظة ونهضة الشعوب، التي يمكن أن تنعكس إيجاباً على
جميع الميادين والمجالات.
لقد شعرت الأسر البيروتية الإسلامية والمسيحية بالخطر المحدق
على ولاية بيروت وعلى الولايات العربية نتيجة اهمال العثمانيين
وظلمهم، وتعصبهم الطوراني التركي ضد العرب والعروبة لا سيما
جماعة الاتحاد والترقي، ونتيجة لتزايد الأخطار الأوروبية على
بلاد الشام. لذلك بادرت الأسر البيروتية الى تكوين جمعية
إصلاحية عام 1913 عرفت بإسم "جمعية بيروت للإصلاح"، وعقدت أول
اجتماع لها في منطقة باب ادريس في مقر المجلس البلدي في 14
كانون الثاني 1913، وذلك برئاسة الشيخ أحمد عباس الأزهري. وقد
طالبت الجمعية آنذاك بإحداث الإصلاحات السياسية والإدارية
والوقفية والبلدية، وجعل اللغة العربية لغة رسمية للدولة إلى
جانب اللغة التركية.
وأهمية هذه الجمعية، أنه كان لها الفضل في تنظيم واقامة
"المؤتمر العربي الأول في باريس 1913" وهو أول مؤتمر عربي تم
تنظيمه في التاريخ الحديث والمعاصر. وقد شارك فيه مجموعة كبرى
من البيارتة واللبنانيين والعرب، وانتهى المؤتمر إلى المطالبة
باللامركزية وبتنفيذ الاصلاحات في جميع الولايات العربية.
والحقيقة، فقد كان لجمعية بيروت الإصلاحية، وللمؤتمر العربي
الأول في باريس عام 1913 أثر واضح في اليقظة والتنمية السياسية
في بيروت ولبنان والعالم العربي. وقد سيق الكثير من الإصلاحيين
عامي 1915-1916 إلى حبل المشنقة بسبب اتجاهاتهم الاصلاحية منهم
على سبيل المثال: عبد الغني العريسي، الشيخ أحمد طبارة، عمر
حمد، يوسف الهاني، سيف الدين الخطيب، توفيق البساط، جورج حداد،
سعيد فاضل عقل، باترو بأولي، وفيليب وفريد الخازن وسواهم، في
حين نفي رياض الصلح خارج البلاد، وتم التحقيق مع سليم علي
سلام. ويمكن التأكيد بأن شهداء عامي 1915-1916.كانوا سبباً
رئيسياً وعاملاً هاماً من عوامل التنمية السياسية للمجتمع
اللبناني والعربي، بل كانوا شعلة الحرية والاستقلال للبنان
الحديث والمعاصر.
أعلى الصفحة
|