ومن الثابت من خلال الدراسات التاريخيّة والفقهيّة أن الإمام الأَوزاعي
(رضي الله عنه) غادر دمشق قبل دخول العباسيين إليها، متوجهاً إلى بعلبك
فالكرك في البقاع، ثم توجه بعد أيام إلى حماه لملاقاة عبد الله بن علي، ومن
حماه توجه إلى بيروت في التاسع من شهر رمضان عام
132هـ
رافضاً مشاهدة الفتنة والإقتتال بين المسلمين. وعندما وصل الإمام الأَوزاعي
بيروت مرابطا بأهله وأولاده، قال الإمام الأوزاعي: (وأعجبتني بيروت أني
مررت بقبورها ، فإذا بإمرأة سوداء، فقلت لها: أين العمارة ؟ فقال : إن
أردت العمارة فهي هذه، وأشارت إلى القبور، وإن كنت تريد الخراب فأمامك،
وأشارت إلى البلد، فعزمت الإقامة بها).
وبالفعل فقد سكن الأَوزاعي في باطن بيروت إزاء البحر في منطقة عُرفت لقرون
عديدة باسم منطقة الأَوزاعي، ثم تحول إسمها تباعاً إلى (درب الطويلة) ثم
إلى (سوق الطويلة). وكان منزله يغص باستمرار بأبناء بيروت والشام ومكة
وأبناء ولايات عربيّة عديدة. ثم تحول منزله إلى زاوية يُصلى فيها وتُعقد
فيها الإجتماعات الدينيّة والسياسيّة والإجتماعيّة. وباتت بيروت والأَوزاعي
توأمان لا ينفصلان في الجهاد والرباط على طول الساحل الشامي. ومنذ أن توطن
الأَوزاعي في بيروت إستحدث المسلمون الذين إعتنقوا مذهبه مبدأ جهادياً يقوم
على إرسال المجاهدين إلى بيروت للدفاع عنها وعن الثغور الشاميّة، وكان في
مقدمة من إعتنق هذا المبدأ أبناء بعلبك الذين كانوا يُرسلون سنوياً مجموعة
من الشبان للمرابطة في بيروت، لذا أُنشأ لهم خصيصاً برجاً عسكرياً كان
بمثابة ثُكنة عسكريّة عُرف باسم (برج البعلبكيّة) كان من أهم أبراج بيروت
العسكريّة المدافعة عن الثغر، وإستمر هذا التقليد البعلبكي الإسلامي لقرون
عديدة حتى العهد العُثماني حيث كان ما يزال البرج قائماً. وقد أشار المؤرخ
صالح بن يحيى في كتابه (تاريخ بيروت) إلى هذا البرج وأهميته العسكريّة. كما
نصح سفيان الثوري صاحبه حسان بن سليمان بالرباط في بيروت، ولما سأله لماذا
؟ قال: عليك ببيروت فإن فيها الإمام الأَوزاعي.
لهذا نرى أن مذهب الإمام الأَوزاعي لم يكن مذهباً قائماً على القول
والنظريّة، بقدر ما كان قائماً على الفعل والتطبيق. فقد صنّف الإمام العديد
من المصنفات الفقهيّة والعلميّة يأتي في مقدمتها أربع كتب هي : المسند،
السنن في الفقه، المسائل في الفقه، والسير. كما كتب أربعة عشر كتاباً بعد
مجالسته شيخه يحيى بن أبي كثير في اليمامة. ولكن مما يؤسف أن أكثر هذه
المصنفات، بما فيها بعض رسائله وسبعين ألف فتوى لم نجدها، بل فُقدت نتيجة
للحروب والزلازل والحرائق التي حدثت في بيروت أو في مناطق أخرى عبر سنوات
وقرون عديدة. بينما حفظ لنا الإمام الشافعي (رضي الله عنه) المتوفى عام
204هـ
كتاب الإمام الأَوزاعي (السير ) باثباته في كتابه (الأم). وتشير بعض
الدراسات إلى أن جامعة القروين في المغرب تحتفظ بمجلد ضخم مخطوط من مصنفات
الإمام الأَوزاعي. غير أن تلامذته ومريديه نسخوا في عصره وبعد وفاته تلك
المصنفات أو بعضها، مما أسهم في إنتشار مذهبه في أرجاء عديدة من العالم
الإسلامي، وما تزال بعض آثار تعاليمه ومذهبه قائمة حتى اليوم في بلاد
الشام. وقد إنتشر مذهبه في بلاد الشام حوالي
220
سنة دون إنقطاع، كما أنتشر لمدة أربعين سنة بعد وفاته في بلاد المغرب
والأندلس بواسطة الفقيه صعصعة بن سلام الشامي الذي حمله إلى مصر وحدّث فيها
وروى عنه موسى بن ربيعة الجمصي. ثم إنتقل به إلى المغرب والأندلس فلقي
قبولاً وإستحساناً من المسلمين لتوافقه مع طبيعتهم وعقيدتهم الجهاديّة
فاتبعوه. وأشار الحميدي في (جذوة المقتبس) بأن الفقيه الأندلسي زهير بن
مالك البلوي أبو كنانة كان (يفتي بقول الأَوزاعي) وكان معاصراً لعبد الملك
بن حبيب السلمي.
هذا وقد عمد الكثير من أبناء بيروت والشام والمغرب لقرون عديدة على الإقامة
قرب منزله وزاويته تقرباً وتبركاً. وإشتهرت بيروت بالإيمان والتقوى من خلال
إمامها الأَوزاعي، بدليل أن الشيخ محمد بن خضر إبن عرّاق الشافعي المتوفى
عام 923هـ، حرص على إتخاذ إقامته وزاويته إزاء زاوية الإمام الأَوزاعي،
وذلك في أوائل العهد العُثماني.