المنـسنـيور ميسلن
إنه لمن المفيد جداً أن يعرف أبناء زماننا كيف كانت عاصمة الجمهوريّة
اللبنانيّة يوم كانت مركزاً لولاية بيروت العُثمانيّة ذلك في الهزيع الأخير
من القرن العشرين، أي في عهد أجدادنا الأقربين، وذلك من خلال ما كتبه عنها
المنسنيور ميسلن
Misslin
الذي طبع رحلته عنها في باريس سنة
1876م
تحت عنوان (الأماكن المقدسة) وإن هذا المبعوث الديني الكاثوليكي خصّ بيروت
ولبنان بحوالي أربعمائة صفحة من كتابه المذكور، الأمر الذي يجعله مصدراً
غنيّاً من مصادر التاريخ البيروتي بين يدي العصر الذي نتحدث عنه.
قال مسلن: .... كانت شوارع بيوت وأزقتها لم تزل منذ عهد قريب، مقببة،
معتمة، ذات التواءات واعوجاج وقذارة، أما اليوم فقد أُجري عليها التوسيع،
وقامت هناك بنايات على الطراز الأوروبي عوض البيوت القديمة، وحلت المخازن
العصرية الجميلة محل الحوانيت والدكاكين العتيقة. وأُنشئ رصيف واسع على
البحر، وتزدحم جماهير الناس على اختلاف الألوان والأزياء والألسن على أرصفة
بيروت الضيقة وشوارعها وشواطئها، وحول دور القناصل الخافقة فوقها أعلام
الدول الأوروبيّة.
ويتحدث
عن البحارة فيقول: ... وهناك رجال من البشرة السوداء، ونصف عراة يتشاجرون
متنازعين المسافرين وأمتعتهم فيحملونها على مناكبهم من الرصيف إلى الزوارق
الصغيرة التي تهددها أمواج البحر بالتحطيم.
ثم يقول في موضع آخر: ورأيت الأعراب جالسين في كل مكان، يستظلون أبواب
المتازل والحوانيت أو سجوفاً مضروبة في الشوارع من جانب إلى جانب، ويدخنون
النارجيلة شاخصين بانخطاف إلى دخانها المسكر!
.... ورأيت المكاري اللبناني، يتعصب عمامته الضيقة، متدثراً بعباءته
الدمشقيّة المنبعث من قصبها اللمعان، حاملة على معظمها زخارف الزينة
والتجميل، كأنها كتابات مصريّة قديمة (هيروغليفيّة) وأكمامها مفتوحة
مسترسلة ... وأمام هذا المكاري بغاله يسوقها وئيداً ويننتهرها بصرخات قاصفة
مزعجة يرددها بين الفينة والفينة.
مكاريون مع دوابهم في سوق بيروت
وعلى اليمين بيروتي يحمل نارجيلته
... وإلى ذلك أيضاً بدوي البادية في زي جاف غير مأنوس، يقود قطاراً طويلاً
من الجمال، شادياً حادياً فوق سنام أكبر بعير منها، مزيناً بأصداف البحر
الحمراء.
ويبدي ميسلن رأيه في الزي الشرقي فيقول: على الغالب إن الزي الشرقي واسع
فضفاض ومعرقل مزعج، ذو ألوان زاهية حادة، لكنه على فخامة وروعة عندما يكون
نظيفاً، وهو سراويل واسعة وسترات وقمصان وأردية، وعمائم وزنانير، يلبسها
الرجل كلها في آن واحد! فيعبث بها الهواء على كيفه، وتنزل حتى الأرض في
طيات وثنايا ثقيلة !
ثم إن ميسلن أراد أن يعطي مواطنيه في أوروبا فكرة عن الفوارق الشكليّة التي
يتميز بها أبناء المذاهب الدينيّة بعضهم من بعض من خلال أزيائهم وملابسهم ،
فيقول : أما الدروز، فلباسهم وشاح دون أكمام، ذو أميال وخطوط بيضاء وسوداء
يلبسون فوقه قميصاً ويتمنطقون بزنار له أهداب يضبطون أو يمسكون به محبرة
معدنيّة (دواة نحاسيّة) مع خنجر وغدارة (مسدس) وقلماً يترك الدرزي بارودته
الطويلة التي يتقلدها بحمّالة لها، ينتعلون أحذية حمراء ذات رؤوس أماميّة
مرفوعة ومروّسة وشكل هذه الأحذية يستعمله الجميع في سوريا.
أما الموارنة فيتميزون في ظاهرهم عن الدروز والمتاولة، فيحتفظون بالثوب فقط
بينما أولئك يرسلون اللحية كاملة على مثال سائر المسلمين.
أما النساء فيتحجبن عند الخروج بزي على غاية من الإستهجان بليغة، ولا يرضين
أن يحجبن نصف الوجه فقط كما تفعل نساء إسطمبول، بل يحجبنه كله بإزار من
نسيج هو في الغالب أسود اللون معقود على الرأس عقداً محكماً، ويطرحن فوقه
نسيجاً أبيض يجلببهن من الرأس إلى القدمين، كأنهن في ذلك أشباح وأطياف،
ويتعثرن في سيرهن البطيء بذلك الحجاب الأسود وبأحذيتهن المزدوجة، فيزدن
المشهد غرابة، أو يبدين للعيان خيالات أو وطاويط ! .
وعلى مثال المسلمات هذا، تظهر المسيحيات أيضاً في الشوارع، ما عدا نساء
الإفرنج. ويقال إن هذه المجاراة هي خصيصاً لاستجلاب إحترام الأتراك (أي
المسلمين) والنساء الأوروبيات يخرجن دوماً سافرات ! .
على أن نساء بيروت، يلبسن تحت الزي الخارجي المضحك بغرابته وعدم هندامه،
ثياباً فاخرة مفوَّفة، معممات الرؤوس بكياسة فائقة، وعليها قبعات من الذهب
المطرز بالنقوش، وغدائر من الشعور الكثيفة، تزينها سلاسل طويلة من النقود
الذهبيّة ويرتدين أيضاً صدريّة مطرَّزة بإتقان رائع ومفتوحة على الصدر
وسراويل فضفاضة من الحرير، ويتمنطقن بزنانير ذات ألوان زاهية حادة
متنوعة،وينتعلن خفافاً حمراء أو صفراء، هذا هو الزي المألوف في الطبقات
الميسورة والغنيّة.
بعد هذا الإسترسال العجيب في رسم صورة مثيرة لطبقات المجتمع البيروتي لا
تكاد تقترب من الواقع حتى تبتعد عنه، يعود الأب ميسلن إلى طبيعته
الإنسانيّة فيترك جانباً قلم الكاهن الذي يعيش دهره تحت القباء الأسود
ويتناول قلماً آخر هو أقرب إلى أن يكون قلم شاعر حساس ويغمس ريشته في مداد
من المشاعر المتأثرة بجمال بيروت برها وبحرها وجبلها.. ونراه يقول : على
أبواب بيروت، وفي ساحاتها وهضابها الصغيرة الفاصلة إياها عن تلك الضواحي
والجنائن، وعن تلك الباقة الخضراء من البنايات الحديثة، وأشجار النخيل
والصبير والزيتون والتوت والجميّز والخرنوب، هناك تنتشر هناك خضراء عديددة،
يدير مشهدها في الخلد أن المدينة في حصار، وهذه الخيام مضروبة لحماية
عسكريّة معسكرة تحت تلك السماء الرائعة مفضلة الهواء المعطّر بأريج الليمون
على جو الثكنة الموبوء بالعفونة والنتانة ! .
... وإذا بدت بيروت أجمل مدينة على شواطئ لبنان وسوريا، فهي تجاوب المقترب
منها على ما يعهد هو في داخلية المدن المنتظمة، ومع ذلك فهي عند النظرة
الأولى إليها من الخليج حيالها، تتراءى راقدة برخاوة النعاس على هضبة ممعنة
في الروعة والجمال كأنها تعانق الأحلام.
... وبيروت في إكليل من البيوت المجهزة بالقناطر المدورة ذات البيكارين،
ومن الأسهم والسطوح والأطلال والأسوار المفرَّضة، وقباب الكتائس ومآذن
الجوامع، وأشجار الصنوبر الباسقة، ينتزع البحر، أجمل البحار، نظراتها
الممعنة أيّ إمعان في التأمل والتفكير، ويغمرها بحر من النور كأنها
الأوقيانوس !
.
|