حي فرحات: مثلث
المتشابهين يلتقون في الفقر ..
وينتظرون النسيان لاستعادة الأخوة
الكوفية
السوداء تلف عنق الشاب. تدل الى هويته. هي التي يضعها مناصرو
حزب الله. الشاب يقف
عند أول حي فرحات، بالقرب من فسحة كبيرة تتبع لمؤسسة تتاجر
بالخردة من المعادن.
المؤسسة تعرف في المنطقة باسم «دوّار الكسر». في المساحة
الكبيرة التابعة لها، تفرغ
حمولتها العربات التي نراها منتشرة في كل مكان تجمع ما نتخيله
ولا نتخيله من معادن،
بدءاً من عبوّات المشروبات الغازية، وصعوداً. هذه المساحة هي
أول الحي، وجزء لا بأس
به منه.
إسمه حسين، من «عين قانا» في الجنوب. يمشي في أزقة حي فرحات
بخفّة
العارف. يمشي إبن الحادية والعشرين بالخفة نفسها التي يحكي
فيها. يقفز من فكرة عامة
سياسية إلى أخرى تقنية تشرح عن الحي إلى ثالثة تخصه كعاطل عن
العمل..
في الحي
أبنية من ستة طوابق تعود الى الستينات والسبعينات. ابنية أخرى
أقل ارتفاعا وأقدم.
كثير من ثقوب الحروب ما زالت محفورة على جدران الأبنية
الصفراء. ما يجهله حسين
الجنوبي عن الحي يشرحه المختار محمود فرحات: «سُميّ باسم
العائلة الأولى التي تملكت
وبنت هنا، أي آل فرحات من الغبيري. كانت بساتين مزروعة بالتوت
وكانت العائلة تتاجر
بالحرير. منذ الخمسينات والحقول تتقلص لتكثر المباني. قطنته
عائلات كثيرة من
الغبيري. من السنة ومن الشيعة: آل حركة والخطيب والحجار
والخنسا وكزما. الجنوبيون
أتوا إلى الحي في أعوام التهجير خلال الحرب الأهلية. وامتدوا
إلى منطقة الحرش، خلف
مخيم شاتيلا لجهة السفارة الكويتية. بعد التسعينات، جاء مخيم
شاتيلا قاطنون جدد.
أتوا من وادي أبو جميل.
هؤلاء اشتروا بيوتاً في الأبنية التي ارتفعت في المخيم.
كلام المختار يعيدنا إلى حسين الذي يمشي الآن في الأزقة. ذووه
أتوا من وادي أبو
جميل وابتاعوا بيتاً أرضياً في مبنى في مخيم شاتيلا. حيث يعيش
حسين، يفصل المبنى عن
المبنى المقابل متر واحد تقريباً. يتسع الزاروب لمرور شخص
واحد. تتراصّ الأبنية
وتلتصق بهذه الشدة وتغيب الشمس. فقط حين تتسع الطريق وتطل
الشمس نكون قد خرجنا من
شاتيلا إلى حي فرحات. هذه حدود غير مرئية. الأمكنة الثلاثة
تتداخل بعضها ببعض:
الحرش والمخيم والحي. حسين، الشيعي الذي يناصر الحركة والحزب
معاً، لا مشكلة لديه
مع الفلسطينيين بطبيعة الحال. «أصدقاؤه» ويتفق وإياهم في
السياسة، بدليل صور السيد
حسن نصر الله المرفوعة عند الشارع الذي يؤدي إلى صبرا. لكن
حسين يشير إلى آخر هذه
الطريق. يفضل ألا يذهب إلى «هناك»، هناك طريق الجديدة. «كشيعي،
مثلاً، من الممكن أن
يتعرضوا لك».
كلامه مبني على توجس وريبة. ليس مبنياً على تجربة. يعود حسين
إلى حي
فرحات. في محل فارغ يجلس مسنان وشاب، يدخنون الأرجيلة. أحد
المسنين، أسد فرحات لديه
الكثير ليقوله عن «الماضي الجميل»، بلكنته البيروتية. الماضي
الجميل حيث كانت
الحياة «مشتركة» فلا فرق بين درزي وشيعي وسني. في الماضي حيث
كانت الإلفة والمحبة
وإبن طريق الجديدة وإبن فرحات وإبن الدنا يجتمعون بعضهم ببعض
ويسهرون ويتصاهرون.
يقول أسد إنه إذا قام في لحظته هذه ومشى إلى طريق الجديدة
سيصطف مئة شاب
لاستقباله.
يقول إن ما يحدث اليوم هو من فعل الموساد الإسرائيلي والطابور
الخامس،
ويضع اللوم على الزعماء. يقاطعه الشاب الجالس بجانبه ليشير إلى
المسن الآخر. يشرح:
ترك بيته في الفاكهاني وأتى ليعيش في بيت ابنه هنا، لأنه خائف
من البقاء هناك. لكن
الرجل يشرح بكلمات معدودة أنه مريض ولا يريد البقاء وحده، ولا
يزيد. يعود الشاب،
ليؤكد فكرته، الى مقتل أحمد محمود: «هجموا علينا وقوصوا علينا
وقتلوا صاحبي أحمد
محمود». من؟ «أهل طريق الجديدة». أسد فرحات هو الذي سيختم
نقاشاً بعبارات ترن
كالذهب: «هاي ناس هون وهونيك كلها حالها من حال واحد. ما حدا
راضي. فقر وتعتير
وبؤس. ان شاء الله عن قريب الناس بتنسى. الله يحببنا ببعض».
ثلاثة شوارع تتقاطع
لحي
فرحات مدخلان. الأول لجهة الضاحية الجنوبية، نخرج منه الى
الغبيري. هذا
المدخل يبدو رئيسياً للحي. عليه يرتفع قوس حديدي أخضر لحركة
أمل. حي فرحات يدين
للحركة بالولاء. فيه اندلعت انتفاضة 6 شباط، ومنه كان حصار
شاتيلا في الحرب التي
عرفت يومها بحرب المخيمات». هذا من الماضي البعيد. اليوم، هناك
ولد يقود دراجة
هوائية رفع عليها علماً لحركة أمل. شقيقه الطفل يؤدي، بأمانة
عالية، هتافات ضد
الحكومة وضد الرئيس فؤاد السنيورة. وربما هي المرة الأولى في
تاريخ هذه البقعة من
الضاحية، التي ترفع صورة للجنرال ميشال عون.
المدخل الثاني للحي هو ذاك الذي
لجهة أرض جلول في منطقة طريق الجديدة. الى هنا يعود حسين سعد
ليقف حارقاً الوقت
الذي يطول على عاطل عن العمل مثله. هذا مدخل كئيب، فلا قوس نصر
ولا غيره. عنده
انتصب حاجز للجيش لأسابيع مدققاً في هويات الداخلين الى الحي
والخارجين منه. لماذا؟
إذا وقفنا هنا ونظرنا حولنا، سنرى، ونعرف.
الجيش اقام حاجزه عند تقاطع ثلاثة
شوارع. مشروع الربيع يقوم على زاوية قائمة لشارعين منهما.
أحدهما هو مدخل الحي،
والثاني هو ذاك الآتي بنا من مستديرة شاتيلا. شارع يبدأ
بالمرور بين مقبرتين، واحدة
فلسطينية، والثانية لبنانية، ويطل على الشيّاح وقصقص. بدايته
صارت نقطة ثابتة للجيش
مع قيام اعتصام المعارضة. الشارع الثالث هو الذي يخترق «أرض
جلول». هنا تبدأ طريق
الجديدة.
عند أول هذا الشارع تتدلى الأعلام اللبنانية من شرفات مبنى
يواجهه
مبنى صغير من طابقين:
الطابق الأرضي إسطبل تشغله خيول. على شرفة الطابق الأول ترتفع
صورة صغيرة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى
جانب صورة عملاقة لأحمد
محمود، «شهيد الوحدة الوطنية»، أو «شهيد المعارضة».
هذه شرفة منزل ذوي محمود.
ليس بعيداً عنها سقط الشاب مضرجاً بدمائه في الثالث من كانون
الأول الفائت. هنا
اذاً تقاطع حي فرحات بأرض جلول ببيت شهيد المعارضة الأول إبن
العائلة التي تناصر
حركة امل. هنا أيضاً يقوم مشروع الربيع الذي كان نقطة الدفاع
الأولى عن طريق
الجديدة..
«ربيع» أرض جلول
«الربيع». كتلة الأبنية المتراصة تقع في مربع
واسع ينتهي عند واحد دائري يقف بعيداً عن البقية وأكثر
ارتفاعاً. لا ميزة للمجمع في
صورته من الخارج. لكن الدخول إلى باحته، بين الأبنية، يعني
الخروج تماماً من
المدينة إليه. نحن في حي كامل يرتفع عمودياً. أكثر من 425 شقة.
في الباحة الداخلية
الواسعة والمكشوفة تطل الشرفات على الشرفات بالمئات. معظم هذه
تتدلى منها الأعلام
اللبنانية. في الداخل، كما في الخارج، دكاكاين سمانة وخضار
ومياه شفة وأركيلة.
الداخل سوق للمجمع نفسه. تجلس في دكان الخضار إمرأتان محجبتان
وخلفهما تبتسم صورة
السيد نصر الله. في متجر المياه الملاصق، يبتسم الرئيس رفيق
الحريري.
المجمع الشعبي
الذي ارتفع في التسعينات تقطنه غالبية سنية وأقلية شيعية. بعد
حرب تموز، أُجرّ أكثر
من ثلاثين شقة لمن فقدوا بيوتهم في الضاحية. بعد مقتل أحمد
محمود، والحرب التي جرت
أمام المجمع، بات هذا الفضاء الداخلي المعزول في الشكل مشحوناً
تماماً. ثمة كلام
كثير يقال همساً، أخطره بالطبع شائعات تقول إن النار خرجت من
المجمع نفسه. لكن
النار، من الجهة الأخرى، أتت «بالتأكيد» من الذين «هجموا» على
المنطقة. النار هي
رأس جبل الجليد. الجبل الذي يقف فوقه سكان المجمع هو الاحتقان
السياسي. بعد الحادث،
صار بإمكانك أن تسمع الشتيمة (بحق الزعماء على اختلاف أنواعهم)
علنية. لكن هذه
احتكاكات صوتية بعيدة المدى. لم تتطور. الجيرة تفرض سلوكيات
عامة بعضها التحيات
السريعة الجافة، وبعضها الآخر يغالي في الحب: «أنا من يحمي
إخواننا الشيعة في
المجمع». خارج هذه المظاهر، يصل تبادل الكلام إلى حده الأدنى،
بخاصة في السياسة.
يتحاور الناس برفع صور الزعماء. الوصف القاسي للمكان يقوله
واحد يرفض بالطبع نشر
اسمه: «يبتسمون
لبعضهم ابتسامات صفراء، لكنهم خائفون، كأنما يحملون الخناجر
خلف
ظهورهم». هذه مبالغة في التصوير تعكس خوفه، هو الذي يفكر
بالانتقال من المجمع
والعودة إلى الضاحية الجنوبية. منذ تلك الحادثة، لم يسمع عن
حروب أخرى صغيرة كانت
أم كبيرة في المنطقة. الجيش جاء بثقله. هذا أقرب الاسباب الى
المنطق.
أرض جلّول خليط سني وشيعي وفلسطيني. في
المبنى حيث يقطن الشاب الفلسطيني، مثلاً، خمسة منازل شيعية
وخمسة اخرى سنية وخمسة
ثالثة فلسطينية. «منطقة ضائعة لا دخل لها بأحد». شبانها هم هذا
الخليط بدورهم.
كانوا يتجمعون في زمر يسهرون ويدخنون الأركيلة ويمضون وقتهم في
الكلام. ترتفع
اصواتهم حين يخوضون في السياسة، لكن الأمور لم تتطور يوماً إلى
أكثر من ذلك.
يخوضون في نقاشات يفترضونها في السياسة.
يرفعون الصوت. لكنهم، حين يتعبون، يمشون في الشوارع سوياً صوب
بيوتهم. «لكنك تشعر
كم ان الناس مشحونة. كفلسطيني، يظن الشيعي أنك محسوب عليه،
والسني يظن أيضاً انك
محسوب عليه. أنت فلسطيني وربما لست مع الإثنين. لكن كلاهما
يرتاح في الحكي معك.
وحين يتحدث الواحد عن الطرف الآخر، تشعر بكمية الحقد في
النفوس. حقد بات عنصرياً.
هذا مخيف».
ليس في أرض جلول ما يميزها عن باقي أحياء طريق الجديدة، إلا
موقعها.
هنا تدخل الضاحية الجنوبية في بيروت، والعكس. ويتداخل
المذهبان. ليس من حدود نهائية
بين الناس. بين السني والشيعي والفلسطيني. في حسينية الشهيدين،
بعد يوم على مقتل
أحمد محمود، كان ثلاثة شبان يجلسون على مقعد واحد بلباس أسود
ويبكون. ما لم يأخذك
الكلام معهم الى التفاصيل، لن تعرف من ملامحهم الحزينة أن
واحداً منهم سني والثاني
شيعي والثالث فلسطيني.. وقد أتوا الحسينية وغادروها مشياً على
الأقدام، فوق « معابر»
نبتت في النفوس ذات ليلة لا أحد انتبه فيها الى ضوء القمر.
أعلى الصفحة
|