اللجا
حي المصيطبة
الذي يجمع قرى نزوح جنوبية كثيرة.. وعصبية واحدة
غرق الشاب
الملتحي في شخصية سينمائية تخيلها لنفسه، في فرصة مؤاتية ربما
لن تتكرر.
شد كتفيه
وباعد بين ساقيه في وقوف متأهب. حمل البندقية الحربية بيد
واحدة وعبس. راح يتلفت
يميناً ويساراً راصداً من زاويته عند مفرق حي اللجا المقابل
لمحل «كلاس» في مار
الياس أي حركة خطرة. كثير ممن حاولوا التحدث معه، لم يسمعوا
منه جواباً. مهمته تبدو
خطيرة.
على الرصيف المقابل له تماماً، جلس شبان على حافة الرصيف. واحد منهم
كان
ينظر إلى الملتحي
بالبندقية مبتسماً. سماه «آرنولد» وراح يسخر منه، بصوت عالٍ
أحياناً. «رسوم متحركة». بهاتين الكلمتين عرّف الجالس الى
الرصيف «تحرك» شبان من حي
اللجا، حيه، لقطع شارع مار الياس بقوة بنادق الكلاشينكوف، في
الخميس المشهود لجامعة
بيروت العربية. جدية آرنولد السينمائية بدت مضحكة فعلاً. شارع
مار الياس خالٍ في
هذه اللحظة إلا من شبان حي اللجا، وهؤلاء، جميعاً، يعرفون
بعضهم بعضاً، بل إن خروج
المسلحين منهم رافقه خروج مراهقين وأولاد. وآرنولد لا يمكنه
الآن التأثير في أحد،
اللهم إلا سائق شاحنة عملاقة وصل الى مار الياس من جهة تلة
الخياط ليجد شابا يرفع
بندقية في وجهه طالباً منه الرجوع الى الوراء، فما كان منه إلا
أن شرح له أن الرجوع
في الشارع الضيق مستحيل، فأذعن المسلح لطلب السائق بإكمال
الطريق، مع إبقاء الكلمة
الأخيرة له: لا ترجع إلى هذا الشارع.
في عصر ذاك اليوم خرج شبان حي اللجا إلى
مار الياس من دون أمر من أحد، على ما قالوا. دام تحركهم لثلاث
ساعات. حين ضجروا
غابوا في حيّهم. بعد قليل انتشر الجيش في شارع مار الياس.
آرنولد لم يستخدم
بندقيته، مع أنه كان يتمنى ذلك بكل جوارحه. على خطورة ما حصل،
بدا كأنه تسلية
جماعية لشبان حي يعرف باختلافه عن محيطه. كما يعرف عنه أنه
مبادر. حي اللجا، أو حي
«الي
إجا»، أو، في رواية اخرى، الحي الذي لجأ إليه من حلب وغيرها
الهاربون من جور
العثمانيين. وكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر...
حروب حي اللجا
شارع
اللجا في منطقة المصيطبة.
شارع وليس حيّاً. طغى اسمه على الشوارع المحيطة به.
هكذا
في العادة. يحدث أن منطقة
تنتقل من حالة إلى حالة، ويطغى إسم الحالة الجديدة على ما
عداه. إلى شارع اللجا بدأ النزوح الجنوبي. أتى الشيعة من
الجنوب هاربين من الإهمال
ومن الأرض التي لم تكن تعطي. أتوا شباناً في بدايات القرن
الفائت. منهم من استقر في
بيروت وجلب زوجته وأبناءه من القرى البعيدة، من زبدين مثلاً.
حين أتى إحصاء 1932
سجلوا في بيروت. استمر النزوح في السنوات اللاحقة. يأتي واحدهم
شاباً. يعمل حارساً
ليلياً او «حمال سل» أو في أي من المهن الشاقة. يستأجرون من
الملاكين في المنطقة.
البيارتة من آل عيتاني وعانوتي وغيرهما من العائلات البيروتية الأصيلة
في المصيطبة.
الخليط البيروتي السني الأرثوذوكسي يتراجع امام خليط سني شيعي. في ثورة
1958 تقوم
خطوط تماس مع حي السريان
القريب. يظل الشيعة يصلون في مسجد السنة في المصيطبة.
تهدمت قصور ليقوم محلها عمارات فخمة. نحن في الستينات، وبيروت تشهد
فورة عمران
جديدة. يختلط الجديد
بالعتيق. تظل بيوت كثيرة على حالها، عتيقة وصغيرة. البيت
الأبيض، قصر آل سلام ينتصب قلعة هائلة عند طرف حي اللجا، وعند
الطرف الثاني، يقف
قصر أكثر تواضعاً بحجر أصفر يستأجره كمال بيك جنبلاط ويسكن
فيه. بين القصرين، في حي
اللجا، يقوم سوق خضار شعبي. المنطقة كلها تبتاع خضارها من هنا.
من هذا السوق
المزدحم صباحاً كأنما الناس في تظاهرة. تضيق الأزقة بناسها. في
الخارج تركض
المصيطبة ذات الماضي الأنيق الى مشهدها المديني. في الداخل
يحافظ الحي على قرويته
المتعددة. أجيال من رب تلاتين ومركبا وحولا وخربة سلم وانصار
وتبنين وحاريص تولد
وتنشأ هنا. «مجموعة قرى جنوبية تكوّن حي اللجا»، يقول المحامي
الشاب مجيد مطر الذي
ولد في الحي وما زال يعيش فيه. يكون آخر فلول الروم الأرثوذوكس
قد غادروا غرب
العاصمة إلى شرقها. والأولاد الذين كانوا يلهون في شوارع الحي،
هم أنفسهم صاروا
مراهقين يقفون في جماعات أمام دكاكينه. يتوارثون جيلا بعد آخر،
عصبية أولاد الحي.
وانصر أخاك ظالماً كان أم ظالما، على ما يقول عمر حرقوص،
الناشط اليساري الذي
امضى سنوات طفولته وما بعدها في الحي، وغادر بيت العائلة في
السنتين الأخيرتين،
بسبب من الإنتماء السياسي لليسار الديموقراطي، وما زال يكنّ
حنيناً هائلاً الى الحي
وناسه، لكنه يتوجس من قلّة قد لا ترغب بوجود 14 آذاري بينها.
عائلة عمر تختصر
رحلة شيعية في الزمن اللبناني: الجد نزح من أنصار إلى حي
اللجا. عمل في مطاعم
البلد. تزوج، انجب في الحي. حين شب إبنه، والد عمر، ذهب الى
نزوح شيعي آخر وشهير هو
برج حمود. الحرب اللبنانية اعادته ومعظم شيعة المناطق الشرقية
الى الضاحية وبيروت
الغربية، الى حي اللجا والخندق الغميق والبسطة وزقاق البلاط..
وفي الحرب، كان للحي
حكايات كثيرة.
في الحرب الأهلية، تتكرر السيرة الشيعية نفسها. انخرط الشبان في
المنظمات الفلسطينية واليسارية إلى أن سطع نجم «حركة
المحرومين» والإمام موسى
الصدر. «حي اللجا» تلقى حركة امل بصدر رحب. وصار قلعة صمودها
البيروتية. لم يقدر
البعث العراقي على اسقاطه. ازقته كانت عصية، كذلك السلاح
المتواجد فيه والذي حوّله
خزاناً للسلاح. كثير من أبنائه الحركيين ذهبوا إلى خلدة
لمقاومة الإجتياح
الإسرائيلي وغادروا بعد هذا جنوباً إلى قراهم. لكن غليان
الأحزاب الوطنية المهزومة
بعد الإجتياح على سلطة الرئيس أمين الجميل أعادت هؤلاء إلى
الحي الذي كان عصياً على
الجيش «الفئوي» يومها وعلى عناصر مخابراته الكثر في الحي. لم
يطل الأمر بصورة أمين
الجميل التي رفعها مخبر علني يعيش في الحي. احرقها الشبان ودخل
الجيش بعدها ليفتش
البيوت ويلقي القبض على كثيرين. في انتفاضة الاليانس (مدرسة في
وادي أبو جميل رفض
المهجرون فيها إخلاءها وحصلت مواجهات مع الجيش اللبناني)، قطع
شبان من حي اللجا
الطرقات بالاطارت المحترقة. كان الحي قد صار خزاناً للمقاتلين
والسلاح معاً. وعليه،
وبعدما لم يعد للجيش ومخابراته أي سلطة في الحي، سيصير اللجا
معقلاً لحركة امل،
وسيلعب دوراً رئيساً في انتفاضة 6 شباط.
كما في الإنتفاضة، سيكون الحي لاعباً
في الحروب الأخرى. «لكن العصبية التي تشد ناسه بعضهم الى بعض
ستظل متسامحة مع
الآخر، مع السني في الحرب ضد المرابطون، مع المسيحي ما دام لا
ينتمي الى جهاز
مخابرات، ومع قصر آل جنبلاط الذي حماه الحي نفسه من أي هجوم
محتمل في حرب العلم بين
أمل والاشتراكي». يقول عمر.
الحي المتمرد لم يقبل بالجيش العربي السوري أيضاً.
النقطة السورية لم تبق طويلاً. في كل يوم مشكل مع الجنود حتى
أخلت القوات السورية
النقطة الى خارج الحي. وظلت حركة أمل مسيطرة في زمن الحرب،
كذلك في زمن السلم. حزب
الله لم يجد أرضية له شبيهة بأرضيات الضاحية الجنوبية. لكن صور
الأمين العام لحزب
الله السيد حسن نصر الله مرفوعة الآن في شوارع الحي، ومعها صور
الرئيس نبيه بري
بطبيعة الحال.
الآن
لم يعد سوق الخضار على ما كان عليه. السوق الذي كان
يحتل قسماً كبيراً من الشارع راح يتقلص أمام المد العمراني في
التسعينات. وفي
المدينة التي يختلط عمرانها بين قديم وجديد، يتكثف هذا الخليط
في اللجا ليجعله
مختلفا تماماً عن محيطه. من زقاق مقطوع لبيوت قديمة ترتفع في
طابقين الى شارع تقوم
عليه الأبنية العالية، يبتعد الحي تماماً عن مار الياس الأحدث
والأكثر فخامة
وتناسقاً في صفي أبنيته. وإذا كانت صور الزعماء الشيعة مرفوعة
بكثرة هنا، فإن
الإقتراب من الجدران يخبر تفاصيل أخرى اكثر دقة عن الجنوبيين
البيروتيين الذين
يعيشون فيه. على أوراق النعي، نقرأ اسماء متوفين تقام ذكرى
اسبوعهم كل في قريته،
منها تبنين والسلطانية وعين بسوار وحاروف، يضاف إليها دائماً
عبارة: وعموم اهالي
المصيطبة.
أهالي المصيطبة هم الجيران من المذهبين. يقول المختار محمد علي
العانوتي إن المنطقة ما زالت على حالها والشيعة والسنة متساوون
عدداً. المختار حبيب
نجيب قبيسي يقول إن الغالبية باتت شيعية، وقيودها مسجلة في
الجنوب وليس في
المصيطبة.
الحي يتحول جنوبياً بالكامل، ولا يعود بالإمكان المشي فيه، في
الحروب الإسرائيلية، يضيف القبيسي. في تموز الفائت، امتلأت
البيوت عن آخرها وصارت
الناس تتزاحم بالأكتاف. هكذا كان في حربي تموز 1993 ونيسان
1996.
المختار،
ذو
اللهجة البيروتية، يقول إنه بيروتي أكثر مما هو جنوبي. المختار يهز
برأسه من الحال
التي وصلت إليها المنطقة.
يقصد الإحتقان المذهبي. يتأسف. حي اللجا تغيّر. لم يكن
كذلك. يقول: عم فكر ضب شنطتي وفل. أنا معي الجنسية الأسترالية.
أعلى الصفحة
|