بعض من شارع عريق على بعد جسر من البلد
الشاب ذو الكوفية الفلسطينية على عنقه هو من برج البراجنة. الرجل الذي معه من بريتال في البقاع. هما يعملان على إقامة متراس ترابي. نحن في عام ,2007 في «شارع سوريا» من الخندق الغميق. لا شيء مستبعداً في بيروت. حتى أن رفع المتراس يأتي بعد أخذ الإذن من قوى الأمن الداخلي. المتراس يقف على رصيف بناء مهجور، ويواجه على بعد ثلاثة أمتار صفاً من أبنية عتيقة مهجورة. الرجل هو المدير الفني لفيلم لبناني جديد عن الحرب اللبنانية. الشاب يساعده.
ليست المرة الأولى. الشارع، في قسمه السفلي المنتهي عند جسر فؤاد شهاب، بات موقعاً مفضلاً لهواة نوع من المخرجين السينمائيين يجدون في ابنيته الخمسينية التي ما زالت تحمل آثار الرصاص والقنابل ديكوراً طبيعياً لحرب كانت.
على أن متراساً يرتفع في وضح النهار، سيزعج عميداً متقاعداً في قوى الأمن الداخلي يقطن في بناء خال إلا منه وقد نُصِب المتراس في مواجهته. ينزل ليسأل متذمراً عما سيحدث. هل سيسمع انفجارات وإطلاق نار كما العادة. يطمئنه المدير الفني للفيلم بأن أي إزعاج لن يقع. العميد يستغرب نبش ذكريات الحرب، ثم، ولأن كلاهما من البقاع، يذهبان في حديث القربى الودي. يقطع الحديث رجل يمر بسيارته ماداً رأسه من النافذة محدقاً في المتراس: «شو؟ رِجعت؟» يقصد الحرب.
كنيسة السريان
زال المتراس بعد يوم واحد على إقامته. عاد النصف السفلي من شارع سوريا إلى صمته.
أبنية خالية مغلقة البوابات بجنازير حديد وأقفال. منها أبنية ارتفعت على مداخلها حيطان تمنع الدخول إليها. هذه ابنية استعادها اصحابها ممن تهجروا إليها في سني الحرب، وظلوا فيها الى حدود سنة الألفين. خرائب بأسقف عالية وشرفات رخامية رقيقة، وبقايا نوافذ زجاجية ملّونة بكل الالوان. أبنية تتجاور وتطل على كنيسة تسد منافذها حيطان الحجارة. «كنيسة مار جرجس للسريان الكاثوليك». تسميها الناس كنيسة السريان. على أعلى مدخلها نقرأ: «أنشئت في عهد السعيد الذكر البطريرك اغناطيوس جرجس شلحت 1878».
الدخول إلى صحن الكنيسة ليس عادياً. يحتاج إلى القفز فوق البوابة الحديدية، ثم الصعود في درج ضيق يؤدي الى الشرفات الداخلية للصحن الذي اقفلت مداخله السفلية بجدران. الدرج يكمل صعوداً إلى بقايا حديدية صدئة لآلة جرس لم يعد موجوداً. الدرج نفسه يفضي إلى الشرفة الداخلية التي تطل على صحن الكنيسة. الشمس ساطعة على هذه الباحة. سقف القرميد كنسته الحرب. حيطان من صخر وزخرفة تدل إلى عراقة القرن التاسع عشر. أرض الصحن الواسعة رملية والأعشاب تطل من الجدران. بقايا المذبح تدل الى زمن غابر جميل ولّى. الى يمين المذبح فجوة في الجدار تسمح بمرور رجل منحن. فجوة تدل إلى زمن قريب، يمر فيه رجل مفترض من هذه الفجوة ذاهباً بحذر إلى بيت آخر خلف الكنيسة يخرج الرجل من فجوة فيه إلى متراس ينتصب في مواجهة شارع بشارة الخوري ويقاتل الطرف الآخر. من هنا مرت الحرب، ومرت معها خطوط التماس. أما الكنيسة التي عادت إلى اصحابها سنة ,2004 فهذه «نبذة» عنها، جاءت في موعظة بطريرك السريان الانطاكي مار اغناطيوس بطرس الثامن عبد الاحد التي ألقاها في صلاة الشكر التي أقيمت على أطلال الكنيسة التاريخية في مناسبة استرجاعها:
لقد بدأ السريان الكاثوليك يتوافدون على مدينة بيروت سنة ,1810 ولما زاد عددهم التمسوا من المثلث الرحمات البطريرك اغناطيوس جرجس شلحت ان يبني لهم كنيسة، واختاروا لها الحي السكني الاكثر اكتظاظاً، وهو حي الخندق الغميق في منطقة الباشورة، وبعد ان وجد المثلث الرحمات استعداد ابناء الطائفة لمده بالعون، وضع الحجر الاساس الاول في كنيسة مار جرجس في 25 اذار .1878 وفي سنة 1880 صدر فرمان من السلطان عبد العزيز خان بالسماح ببناء الكنيسة، وفي سنة 1883 انتهى العمل في الكنيسة ودشنت في احتفال مهيب... شارع سوريا كان مسيحياً. عندما ولد فيه أبو فـادي يتيم، لم يكن في الشارع من يقول «الله اكبر» إلا عائلة ابو فادي وعمـره اليوم 76 سنة. هذه واحدة من العائلات الجنوبية التي نزحت إلى بيروت. «وكان شارعاً كالذهب. سكن فيه أحلى الناس. القضاة والمحامون والنواب. أرمن وسريان. كان كالذهب.
شارع سوريا، في نصفه الأعلى المفضي إلى البسطة، يصير اسمه شارع ابراهيم الأحدب. تدب فيه الحياة بصوت عال. تختلط الأبنية فيه بين قديم وجديد. على أحد جدرانه كتابة تمجد «الوحدة الشيعية» بين حركة أمل وحزب الله. وعلى الجدران ترتفع صور «الإستيذ نبيه بري» بملامح اكثر شباباً مما هي عليه الآن. الشارع صار شيعياً. جنوبيون. بعضهم أتى في العشرينات واستقر في المنطقة. وحين جاء الإحصاء سنة 1932 سجل في الباشورة أبناء القرى السبع، حين حازوا على الجنسية اللبنانية سجلوا بدورهم في الباشورة. وجلبت الناس الناس، إلى أن أتت «حرب الخمسة وسبعين». تهجر أهل النبعة وبرج حمود وغيرهما.
وتهجر من تبقى من مسيحيين وأرمن من هذا المكان. شارع سوريا واحد من شوارع الخندق الغميق في الباشورة. اسفله ينتهي عند جسر فؤاد شهاب. يقطعه الجسر بقسوة. قبل الجسر كان الشارع يتابع الى ان يصل البلد. الحرب نالت منه كله، لكنه، بعد سوليدير، انقسم الى شارعين باسم واحد. احدهما الذي قبل الجسر ظل على حاله، والثاني المحظوظ بات جزءاً من البلد، عليه يرتفع فندق فخم. الشارع لا يشبه تتمته.
الأبنية العتيقة استردها أصحابها. وبين شارع سوريا وشارع بشارة الخوري ثمة مساحات خالية وأبنية مهجورة ايضاً. العميد المتقاعد يقول وهو يبتسم: الملاّكون ينتظرون من سيدفع أعلى سعر للأرض.
هذه الأرض تبعد خمس دقائق مشياً عن وسط البلد. تبعد خمس دقائق أخرى عن مونو. في موقف السيارات الملاصق لبشارة الخوري يجلب شبان من الخندق السيارات الفخمة من شارع مونو ليركنوها ليلتي الجمعة والسبت. ينهمكون في الركض الى مونو والعودة منه بالسيارات، ثم العكس مع ساعات الفجر. «فاليه باركينغ». فجأة تتحول الساحة الخالية والشارع القريب منها إلى معرض معتم لكل أنواع السيارات الجديدة. هذه عادة تجري مذ بات مونو على ما هو عليه. بعد 14 شباط 2005 بات السهر الليلي في مونو مرتبطاً بالجو العام، وبالتالي فإن شكل الحياة الخلفية لموقف السيارات يرتبط بمونو، إلا في مرة واحدة إنعكست فيها الآية، يوم قلد برنامج «بسمات وطن» السيد حسن نصر الله. في تلك الليلة، خرج شبان الخندق الغميق وقطعوا طريق بشارة الخوري بحاويات النفايات والنار. ضربوا ثلاثة شبان اتوا من الأشرفية وأصروا على تصويرهم وهم يحرقون إطارات السيارات. لكنهم لم يحطموا شيئاً من الجهة الأخرى، ولم يدخلوا اليها. ولم يتعرضوا للساهرين في أقرب ملهيين ليليين هناك. الموقف خلا في تلك الليلة من السيارات. أبو فادي يتذكر أنه، في حرب شمعون (1958) ، كان قبضايات المنطقة يقاتلون الجيش والكتائب في المكان نفسه. الحاج مختار الكوش، يقول إن رجلاً من آل حامض، كانت شقيقته راقصة إسمها بديعة، يسكن في المكان، هو الذي كان، والله اعلم، يشي بشبان من المنطقة كانوا يتسللون من هناك ليطلقوا النار بالمعدلة على العسكر السنغالي الذي كان يخدم في جيش الإنتداب الفرنسي...
الخندق بين جسرين يقع شارع الخندق الغميق. جسر محمد خالد أو جسر البسطة التحتا، وجسر فؤاد شهاب. شارع وليس منطقة، لكن الشوارع المحيطة به، والأقل شهرة منه، كالزهراوي وأحمد فارس الشدياق وأسعد خورشيد وإبراهيم الأحدب وغيرها، باتت تحسب كلها منطقة الخندق الغميق. شارع الخندق الغميق يمتد مجاوراً للجدار الخلفي لمقبرة الباشورة الهائلة.
في الشتاء يصير نهراً. تمشي الأمطار فيه. من هنا اخذ اسمه. يحكي عادل مطر، وهو أحد مخاتير الباشورة العشرة، عن جمال الحي قديماً. الفيللات والخليط الطائفي والمستوى الإجتماعي للقاطنين فيه من قضاة ومحامين وأطباء.
المختار الستيني يتذكر المنطقة منذ طفولته وهي «عمرانة»، في حين كان معظم طريق الجديدة رملاً، ورأس بيروت صباراً و«واوية»، وكانت بيروت تنتهي بعد البسطا الفوقا.
هذا الرخاء الاجتماعي لاصقه مشهد مختلف: الأحواش. أحواش مطر والعتر والحنبلي. هذه أحياء عتيقة تتفرع بأزقة عن شارع الخندق، ويفصلها عن جدار آخر المقبرة زقاق بعرض متر، يسمى «زاروب الحرامية» زقاق نال حظوة لدى اللصوص الذين كانوا يركضون فيه هاربين من الدرك، ويقفزون عن الجدار الصخري للمقبرة إلى داخلها، فلا يعود للدرك الجرأة على اللحاق بهم. الأحواش حكاية أخرى. غرف صغيرة متلاصقة تحيط بباحات صغيرة مشتركة. فيها سكن العمال الجنوبيون النازحون إلى المدينة عمالاً في المرفأ أو في وسط البلد. عمال من عبّا والدوير وحاروف وزبدين وبافليه وميس الجبل وغيرها. الغرف الصغيرة البخسة الإيجار ظلت ملكاً لاصحاب الأحواش، ووالد عادل مطر واحد منهم.
حوش العتر يقطنه اليوم عمال سوريون وسودانيون. قبله بأمتار، يبدأ حوش مطر الذي يعيش فيه اقارب من آل ترحيني من عبا. عند بابه، وأمام دكان من مترين مربعين، يقف الحاج حسن ابراهيم ترحيني معتمراً قبعة خضراء ترمز إلى نسبه «السيّادي». منذ متى والحاج وزوجته هنا؟ منذ عام .1955 أتى فقيراً من عبّا، هارباً من الأرض وتعب الفلاحة.
سكن غرفة كان آجارها الشهري 13 ليرة. وعمل في المرفأ. ومن المرفأ إلى البلدية حيث ظل عاملاً بلدياً اكثر من أربعين سنة. اليوم يجلس وزوجته امام الدكان. يتذكران. يقول شعراً في الغزل فيها وترد عليه. أمامهما الجدار العالي للمقبرة. يبيعان أغراض الدكان للعمال السوريين جيرانهم. في الصيف يغادران إلى عبّا، الى حيث بيت الحاج هناك كقصر موسى، ملآن بالإنتيكات...
مع الوقت والنزوح، نمت طبقة من الملاّكين الشيعة من التجار أو من العائدين من الاغتراب راحت تشتري في الستينات عقارات من الأرمن أو السريان وترفع ابنية. ومكان ميتم للسريان ارتفع في أوائل الستينات مسجد وحسينية الأمام علي بن ابي طالب، وما زال. حرب 1958 كانت سبباً أولياً في تغيير وجه الباشورة من ذاك الخليط الطائفي إلى صفاء سني شيعي.
اليوم هناك ستة مخاتير للشيعة وأربعة للسنة. هناك 22 ألف ناخب شيعي و19 الف ناخب سني في المنطقة، على ان الخندق الغميق في غالبيتها، شيعية، وإن كان الكثير من القاطنين فيها لا ينتخبون هنا بالضرورة، بل في قراهم الجنوبية.
مطر يقول إن جسر فؤاد شهاب عزل الخندق الغميق عن مداه الطبيعي، أي وسط البلد، وبعدما كان كل البائعين ينزلون من بيروت بعرباتهم عبر شارع الخندق ثم شارع سوريا متوجهين الى اسواق البلد، جاء الجسر ليقطع الطريق عليهم. حولوا سيرهم عن الخندق، وخسرت المنطقة ما تضفي عليها صفة الرافد للوسط من حيوية. يعتقد مطر أن هذا القطع كان «مقصوداً»، لأن الخندق مع الستينات بات محسوباً على الشيعة...
يفصل جسر محمد خالد بين البسطا التحتا ومنطقة الخندق. عنده، لجهة البسطة يرتفع مسجد خلية البسطة التحتا. الحاج مختار الكوش هو امين سر لجنة هذا المسجد. رجل أنيق في السابعة والسبعين بلهجة بيروتية صافية لا تمل الأذن من سماع موسيقاها.
على ما حكى والد الحاج له، فإن المنطقة كانت شجراً وبساتين. الحاج يحكي عن القرن التاسع عشر. كانت الباشورة في حينها تعتبر خارج بيروت. وكان الناس يقطفون الخضار من بساتينهم وكان «الضبع» يأتي الى المنطقة. المنطقة كانت حكراً على البيوت والفيلات، البنايات كانت معدودة، يتذكر الحاج واحدة منها لآل البلطجي على رأس الخندق الغميق.
الحاج يتذكر زاروب الحرامية وفق زمانه وعلى طريقته. كان في العاشرة حين بدأت «القلاقل» ضد الجيش الفرنسي. يرسل الشبان الأولاد إلى الفرنسيين المتمركزين بالقرب من المستشفى الفرنساوي. يرمون الفرنسيين بالحجارة أو بالمفرقعات ويهربون. يطاردهم العسكر الفرنسي فيصطاده الثوّار. قبضايات الأربعينات وقد كان الشقيق الأكبر للحاج، اي عبد الرحمن واحداً منهم. وفي مرة حمل عبد الرحمن«المارتينة موديل 36» (بندقية) ومشى شقيقه خلفه يحمل جعبة الرصاص. وأطلق عبد الرحمن النار على الضابط الفرنسي.. «وولعت الدني». المستشفى الفرنسي اليوم موقف سيارات يطل على البلد، يلعب فيه اولاد من الخندق الغميق كرة القدم.
الحاج مختار حكواتي جميل. تخرج الحكاية من الحكاية. ومقاومة شقيقه تقود إلى «مقاومة» جدته في بدايات الانتداب، وقد كانت شابة وجميلة وتقف في البستان تعمل حين مر الضابط الفرنسي سكراناً فرآها وأصيب بالدهشة وكاد يهجم عليها فأفهمته أن يعود ليلاً وهكذا فعل.
أتى وذبحته في البستان، والحكاية على ذمة الحاج.
من الانتداب إلى ثورة .1958 يقول الحاج مختار: نحن حفظنا الدرس مذ قتلوا لنا رياض الصلح. أعداء العروبة. وكان طلع من عندنا واحد اسمه عبد الناصر وما ادراك ما عبد الناصر. ما نحنا بس، كل البلاد يللي بدها تحرير كانت تحلف فيه. غاندي ونهرو وتيتو».
ووقعت الثورة. واستلم الخندق الغميق أحمد الأرناؤوط أبو مصطفى، وكان من القبضايات الذين لا يرف لهم جفن، ينزل الى البرج ويقاتل هناك...
نوغل في ذكريات الحاج أكثر؟ حسناً. نعود الى آخر الثلاثينات. كان مختار طفلاً في التاسعة، ولم تكن جادة بشارة الخوري قد شقت. مكانها كان هناك بيوت متباعدة وحشائش. يذهب بالخروف الذي يجلبه شقيقه عبد الرحمن (وهو كان أول مدرس من وزارة التربية أوفد إلى شمسطار في اوائل الثلاثينات) من شمسطار ليرعاه هناك. من يرعى الخروف مع مختار؟
إيفيت وسعاد صديقتاه اللتان تقطنان في أحد البيوت من المكان، في محيط تمثال بشارة الخوري اليوم. وكان يرى شقيقتهما الصبية جانيت تمشي على رؤوس أصابعها. جميلة وأنيقة وفخورة. تكاد لا تلمس الأرض في مشيها. جانيت فغالي. الشحرورة صباح.
أعلى الصفحة
|