الفاكهاني: «عاصمة منظمة التحرير»
تتحول من منطقة «الثعالب» إلى منطقة «الفهود»
هنا الفاكهاني... «عاصمة منظمة التحرير الفلسطينية»، ما زال اللقب راسخاً في ذاكرة أهالي المنطقة التي تحولت الى مقر القيادات الفلسطينية خلال مرحلة شديدة الاضطراب في الحياة السياسية اللبنانية، بدأت في السبعينيات وانتهت بالاجتياح الاسرائيلي في العام 1982.
مكتب القائد أبو عمار، ومكاتب خمسة قيادات لفصائل المنظمة من أصل سبعة، هي كل من حركة فتح، والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، وجبهة التحرير الفلسطينية، وجبهة التحرير العربية، وجبهة النضال الفلسطيني، بالإضافة الى مراكز الأمن التابعة لها. هل يمكن بعد ذلك الحديث عن تاريخ للمنطقة أكثر تأثيراً بأهلها من ذلك التاريخ؟ عن نسيج سياسي واجتماعي مرتبط بغير النسيج السياسي والاجتماعي الفلسطيني؟
تكاد حدود الفاكهاني تشبه الحدود الجانبية مع فارق في صغر المساحة والمعنى: هناك الحدود مباشرة مع فلسطين، وهنا مباشرة مع فلسطينيي الشتات في كل من مخيمات الداعوق وصبرا وشاتيلا، لا بل كان الارتباط هنا أشد وطأة، لأن مراكز القيادة كانت في قلب المنطقة: كم رسمت فيها خطط وكم قيلت أسرار وكم اتخذت قرارات؟
قبل ذلك كانت منطقة الفاكهاني مثل سائر الأراضي المحيطة بها، انتقلت إليها عائلات بيروت الصغيرة... وعائلات مصرية وسورية وفلسطينية.
يشكل مكتب مختار المنطقة محمد السماك في شارع الفاكهاني مكاناً للقاء رجال الحي تماماً كما كان الحال منذ انتقالهم الى هناك، يتناولون القهوة التي يشترونها من محل مجاور ويتداولون في شؤون المنطقة والمدينة والبلد.
يوضح السماك أن الشارع كان يدعى في بداية السكن فيه البغدادي، نسبة إلى شخص من آل البغدادي بنى أول مبنى كبير فيه وهو عبارة عن ثلاثة بلوكات، لكنه في الترتيب العددي كان ثالث مبنى بعد مبنيين لكل من أنيس ميقاتي وعمر الشيخ. بعد ذلك سمي بالفاكهاني نسبة الى محل الفاكهاني لبيع الألبان والأجبان الذي تفرعت منه محلات عدة للعائلة نفسها في بيروت. ثم تفرع من الفاكهاني في ما بعد كل من شارعي أبو سهل والحسنين نسبة الى أسمي عائلتين ايضاً.
تتبع المنطقة عقارياً للمزرعة، تبدأ حدودها من محلات حلويات «صفصوف» عند الملعب البلدي وتمتد حتى كاراج درويش الذي يقع خلف الجامعة العربية غرباً، ومخيم الداعوق الذي يقع على تخوم مخيم صبرا. تشكل عائلاتها جزءاً من نسيج عائلات منطقة طريق الجديدة، وهي عائلات لم تكن لديها أملاك في بيروت القديمة، وسط البلد وما حوله. انتقلت تباعاً الى المناطق غير المسكونة في بيروت، لأن اراضيها كانت متدنية الأسعار، بنت فيها منازل بسيطة مقارنة بمنازل بيروت، عبارة عن غرف أرضية، جدرانها من الحجارة الرملية وسقوفها من خشب.
كان يجري تحويل سقف كل منزل الى سطيحة تغرس عريشة عند زاويته أو في برميل حديد كبير الحجم، تلتف عندما تنمو حول السطيحة عبر الأعمدة، وتتحول الى ستارة ، بينما تتحول السطيحة بدورها الى مكان لجلسات العصرونية لأهالي الحي.
ما زال عدد قليل من تلك المنازل قائماً في المنطقة حتى الآن، أما غالبية العائلات فهي قنواتي، سلطاني (سورية الأصل)، الزين، المصري، قمر، محفوظ، الأيوبي، وبعض العائلات التي اصبحت كبرى مثل قباني ومنيمنة.
يشبه السماك انتقال العائلات البيروتية الى منطقة طريق الجديدة في الخمسينيات بانتقال العائلات البيروتية حالياً الى منطقتي عرمون وبشامون. هي في الحالتين عائلات ذات مستوى اقتصادي متوسط وما دون.
يجمع محمد ميقاتي ابو أنيس، أحد رجال الحي، في شخصيته صفات البيروتي صاحب الروح المرحة، لكنه الذي يبحث عن أمان اجتماعي من خلال انتماء سياسي. قارب الستين من العمر، يخصص سيارته التي يعمل عليها سائق أجرة، للاحتفالات الخاصة بمناسبات فريق الرابع عشر من آذار، يعشق الرئيس الراحل رفيق الحريري وابنه سعد، يضع صورتهما بشكل دائم على السيارة ويدور بها في الأحياء.
انتقل والده من وسط البلد في بداية التسينيات الى الفاكهاني بناء لنصيحة جده الذي قال لابنه: «روح عمر هونيك، لأن المنطقة هادئة شو بدك بضجة بيروت». اعترضت والدته على نصيحة والد زوجها قائلة له: «إلى أين ستأخذنا إلى منطقة الواوية والثعالب؟»، يعقب ابو أنيس على قول والدته الذي مر عليه أكثر من ستين عاماً مازحاً: «أما الآن فقد أصبحت منطقة الفهود»، وقد درج استخدام وصف الفهود على مجموعة من شبان طريق الجديدة بعد حصول معركة الجامعة العربية، عندما «تصدوا لهجوم الشبان الآتين من برج البراجنة والشياح».
يحمل جهاز إرسال يخصصه للاتصال بزوجته، أي أنه إرسال ضمن الحي نفسه: «آلو معك سبعمئة وواحد إين البنت؟»، يشرح سبب الاتصال قائلاً إنه يريد سماع صوت طفلته الصغيرة، مبدياً حبه الشديد لها، ثم يضيف ضاحكاً: «هم لديهم رعد واحد ورعد اثنين أنا عملت رعد ثلاثة وأنجبت البنت»، وعندما سئل أين يسكن أجاب في الشارع المقابل، أي أنه يستطيع رؤية زوجته من على الشرفة لو أراد ذلك.
يروي جاره أبو محمد الأنصاري أن جده لأمه، وهو من آل الغوش، كان أول من عمل في صناعة الحجارة الرملية لبناء منازل الحي، كانوا يسمونها «حجارة الصب» وقد صمدت تلك المنازل لمتانتها أمام الصواريخ الاسرائيلية خلال اجتياح العام1982.
كانت النساء في الحي تكنى بجنسياتها، كما يروي الرجال في مكتب المختار، عندما يردن تناول القهوة تحت عريشة أحد المنازل تنده صاحبة المنزل لأحد أبنائها لكي ينده بدوره لنساء الحي: «أم محمد المصرية، أم محمد السورية، أم أحمد البرجاوية»، وهكذا... وقد استخدمت تلك الكنيات لتمييز الوافدات عن بعضهن.
يعرف مروان الأيوبي المسؤول في إحدى المؤسسات التابعة لتيار المستقبل كل مبنى في المنطقة التي ولد فيها، يعرف كل تحولاتها السياسية، لأنه يشارك في العمل السياسي منذ وجود المقاومة الفلسطينية.
في هذا المبنى كان يقيم أبو عمار، يشير مروان بيده الى قطعة أرض بحجم مساحة مبنى مسحته الطائرت الاسرائيلية خلال الاجتياح، إلى يمينه المبنى الذي كان يضم مكاتب حركة فتح، يسكنه حالياً مستأجرون، بينما ضم المبنى الذي الى اليسار غرفة العمليات المركزية وقد هدم نصفه تقريباً من جراء القصف الاسرائيلي، تقيم فيه حالياً عائلات فلسطينية تدخل الى منازلها عبر درج حديدي جرى تركيبه بعد تدمير الدرج الأصلي، ولم تقم وزارة المهجرين بترميمه أسوة بالمباني التي هدمت في بيروت خلال الحروب المتتالية، يقول بعض الجيران ربما لأن سكانه من الفلسطينيين.
كان العميد سعد صايغ الملقب بأبو الوليد مسؤول غرفة العمليات المركزية وقد جرى اغتياله في البقاع بعد الاجتياح، وهو من أطلق العبارة الشهيرة لدى دخول القوات الاسرائيلية الى بيروت: «قاتلنا اسرائيل بجيش من النور» كان يقصد بتلك العبارة أن المقاومة الفلسطينية صمدت في بيروت لمدة ثلاثة أشهر في وجه الجيش الاسرائيلي ولم يكن لديها قيادة مركزية تدير الحرب وإنما تنظيمات متشرذمة».
قرب مركز القيادة كانت توجد مدرسة العرفان التابعة لعائلة من آل المقداد، تحولت في ما بعد إلى منازل ومحلات تجارية. صعوداً باتجاه الجامعة العربية يقع مقهى صيداني الذي صورت الصحف صاحبه وهو يحمل السلاح بعد أحداث الجامعة العربية عام 2007، ومازال متوارياً عن الأنظار.
من الجامعة العربية باتجاه الفاكهاني ما زال المبنى الأصفر الذي كان يضم قوة الـ17 مكانه، لأن الطائرت الاسرائيلية لم تقصفه، كان عناصر القوة مسؤولين عن الأمن الشخصي لأبو عمار بإشراف المسؤول أبو الطيب. مقابل المبنى تقع صالة الدامرجي للأفراح وقد تحولت الى نادٍ رياضي.
في زاروب كتوعة، كان يوجد مركز الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين وقد أقام فيه الأمين العام للجبهة نايف حواتمة، بينما كان مركز الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مخيم شاتيلا. عند نهاية شارع أبو سهل كان يوجد مركز جبهة النضال الفلسطيني، وعند مدخل مخيم الداعوق أقام مسؤول جهاز الأمن في حركة فتح الملقب بابو الهول وقد اغتيل في تونس.
ساهم تعاطف أهالي المنطقة مع منظمة التحرير الفلسطينية في التغاضي عن كثير من الممارسات التي كان يقوم بها عناصر الفصائل الفلسطينية، خصوصا فريق الكفاح المسلح الذي كان يؤدي دور المنظم للحركة فيها، كما كان يجري التغاضي عن تحكم المنظمة بالقرار السياسي تحت عنوان الدفاع عن القضية الفلسطينية. لكن حصلت مشكلتان كبيرتان مع عائلتين من المنطقة جرت خلالهما اشتباكات مسلحة، الأولى مع عائلة ستيتية وقتل فيها قسم من أفراد العائلة، ويقول بعض أهالي الحي إن سبب الاشتباك الخلاف على حيازة اسلحة، والثانية مع شاب يدعى هاشم الزين. يقول الأيوبي إن الزين كان يرأس مجموعة مسلحين، كلما نفدت منه النقود يفتعل مشكلاً مع عناصر فتح من أجل الحصول على تمويل مالي، وقد توفي الزين ولم يقتل.
بعد مغادرة منظمة التحرير بيروت، انتقل قسم من الشباب الحزبيين الى التنظيمات الاسلامية، لكن لم يستمر ذلك سوى لفترة قصيرة، لأنه في العام 1984 عاد النشاط الحزبي القومي والناصري الى حد ما، من خلال تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي «المرابطون».
بعد معركة حركة أمل والمرابطين، برزت حركة السادس من شباط وضمت في صفوفها مجموعة من الشبان الذي كانوا في تنظيم «المرابطون»، بزعامة شاكر البرجاوي، بالاضافة الى مجموعة من الشبان الفلسطينيين. جرت المعركة بين حركة السادس من شباط وبين حركة أمل، ثم المعركة بين أمل والحزب الشيوعي ودخل على أثرها الجيش السوري مرة جديدة إلى بيروت في العام 1987.
مرت كل تلك المعارك من منطقة الفاكهاني. قبل مرحلة منظمة التحرير كانت عائلات المنطقة جزءاً من تيار القوميين العرب، تأثراً بالمد الناصري. ساهم وجود الجامعة العربية ثم مدرسة عمر بن الخطاب التي تسمى «بالفاروق» قرب المنطقة في نمو المد القومي فيها، فشكلت كل من الجامعة والمدرسة مركزاً لانطلاق التظاهرات الطلابية في الستينيات من الملعب البلدي، باتجاه ساحة البربير، ثم إلى وسط البلد.
كان الأهالي في حينها يدعون أبناءهم الى المشاركة في التظاهرات، يستمعون الى خطابات الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأغنيات أم كلثوم مساء كل خميس، عبر «صوت العرب».
كان الزعيم الراحل كأنه فرد من كل عائلة، يضيف الأيوبي أنه لكثرة ما كانت والدته تبدي حبها لعبد الناصر أصبح هو يحبه قبل أن يعرف من هو، ثم يعلق قائلاً: «كان سالب عقول الرجال والنساء.
◄التحول وأسبابه
شكلت معارك حركة أمل مع الفلسطينيين في المخيمات ومع «المرابطون» منعطفاً في المزاج البيروتي تجاه الشيعة.
كان اهالي الفاكهاني متضامنين مع الفلسطينيين، وقفوا إلى جانبهم اثناء حصول حرب المخيمات، عبروا عن موقفهم بالقول إن «الشيعة يقاتلون الفلسطينيين».
يعيد المحامي اسامة العارف موقف أهالي بيروت من حركة امل خلال معاركها مع «المرابطون» والفلسطينيين الى سببين: الأول هو سياسي عندما اعتبروا أن سوريا تدفع حركة أمل الى تلك المعارك والثاني يتعلق بالممارسات التي كان يقوم بها عناصر الحركة في بيروت، يذكر منها على سبيل المثال دخولهم الى جامع الامام علي بن أبي طالب وتكسير اللافتات التي كتبت عليها اسماء الخلفاء الراشدين وترك إسم الامام علي، يضيف العارف أن حركة المرابطين لم تكن التنظيم القومي الذي يعتد به، لكن المعركة التي خاضتها حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي في حينها ضد «المرابطون» اعتبرت انتهاكا لتنظيم عربي.
اختلفت نظرة أهالي بيروت الى حزب الله كثيراً عن نظرتهم الى حركة أمل، كما يقول العارف، لأنه الحزب المقاوم لإسرائيل، لكن ذلك استمر حتى العام 2000، بعد ذلك بدأت الأسئلة عن سلاح الحزب، بعد اغتيال الرئيس الشهيد الحريري بدأ الكلام يتردد داخل المنازل وضمن العائلات عن صعوبة قيام سوريا باغتيال الحريري من دون معرفة الحزب، لم يكن من الضروري التحقق من الموضوع قبل ترديده.
أما أخطر ما في نظرة الأهالي حالياً الى الحزب هي القول إنه لم يعد حزباً مقاوماً إنما حزب يحاول السيطرة على القرار الشيعي، يضيف العارف أنه ظهر في الآونة الأخيرة متشدوون يعتبرون أن حزب الله يحب النبي محمد (صلى الله عليه وسلّم)، لأنه والد السيدة فاطمة الزهراء، وليس لأنه نبي المسلمين: يقال هذافي المنازل من دون أن يعني أن من يقوله ينتمي الى جماعة إسلامية.
أما الأيوبي فيضيف من ناحيته أن الانفصام السياسي مع الشيعة بدأ بعد تظاهرة الثامن من آذار، غضبوا من دفاع الشيعة سوريا المتهمة بقتل الرئيس الحريري، ربطوا العملية باغتيال كل من المفتي حسن خالد والشيح صبحي الصالح، لكي يقولوا إن الشيعة يقفون الى جانب من يريد قتل قياداتنا. يعتبر أن مقتل الحريري حوله الى شخص مقدس، لأنهم شعروا انهم خسروا آخر رجل قوي في الطائفة.
لم يكن ذلك الكلام بعيداً عن مشاعر الرجال الذين عبروا في الفاكهاني عن معركة الجامعة العربية بقولهم: نحن في منطقتنا وهم هجموا علينا، لم يعد الأمر بالنسبة لهم من تسبب بالمشكلة، إنما الهجوم على منطقة تابعة لهم.
لم يقتصر تحول الأهالي على نظرتهم الى حزب الله، إنما تجاه الفلسطينيين وإن بطريقة مختلفة. كانت سميرة صلاح عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تسكن في الفاكهاني خلال وجود منظمة التحرير فيها، تقول عن تلك المرحلة إن المد العربي والقومي المساند للقضية الفلسطينية ساهم في إيجاد علاقات وثيقة مع أهالي المنطقة: «كانت جارتي تهتم بإبني ربيع لدى ذهابي الى العمل، يأكل ويغتسل عندها». تضيف أنه عندما يقصف الطيران الاسرائيلي مراكز منظمة التحرير يتوجه الأهالي بالدعاء على اسرائيل لأنها السبب، لم يكن أحد يحمل الوجود الفلسطيني المسؤولية، بعد خروج منظمة التحرير تردد كلام يعبر عن راحة الناس لتخففهم من الوجود الفلسطيني.
ساء الوضع أكثر الآن كما تقول صلاح، أصبح البعض ينظر الى الفلسطينيين بوصفهم أبناء المذهب نفسه أكثر من وصفهم أبناء أرض محتلة وأصحاب قضية، هناك من يدعو الفلسطينيين الى تأييدهم في الخلاف السياسي الحاصل حالياً في لبنان. لكن صلاح مع ذلك ما زالت تحافظ على علاقات وطيدة بالجيران السابقين، تزور سيدة من آل الجارودي هي صاحبة المنزل الذي كانت تسكنه في الفاكهاني، وعندما تتحدث مع الأهالي في الشؤون السياسية تسعى الى القول لهم دائماً إن عدونا جميعاً هو اسرائيل، وإن المؤامرة علينا وعلى حزب الله، وإن اسرائيل تريد أن تكون تل أبيب بديلة عن بيروت، لذلك تسعى الى تخريبها لدى كل عدوان تقوم به على لبنان، مع ذلك ساء الوضع فعلاً، تؤكد صلاح.
|