من أرض «الواوية» إلى أغلى منطقة في بيروت الروشة والرملة البيضاء: الشقق الفخمة للأثرياء والكورنيش للفقراء
هنا أبنية عالية وكورنيش طويل. هنا سكان نازحون وسكان أصليون من كل الطوائف والملل. هنا لا جامع ولا كنيسة يلتجئ اليهما أي مؤمن. وهنا بيوت هرمة تبدو «فاقدة للذاكرة» بين أبنية حديثة شاهقة. هنا الروشة والرملة البيضاء وقصة أرض قاحلة تحوّلت بسحر ساحر الى أمتار تباع بأغلى الأثمان. لكنها أيضا قصة أغنياء وفقراء يجتزئون منها اماكنهم الخاصة ولا شيء يجمعهم الا زرقة البحر وصخرة الحمام، أي صخرة الروشة.
فالابنية العالية للأغنياء والكورنيش الطويل للفقراء.
لم يكن الدخول الى شقة طوني حداد بالامر السهل. فهو سأل عن سبب التحدث اليه وهدف التحقيق الصحافي وما اذا كان يفرض عليه الدخول في السياسة. فالسياسة «اللبنانية» كما وصفها في آخر اهتماماته، لا سيما أنه يحطّ رحاله في الوطن لفترة لا تتجاوز بحدها الأقصى الأسبوع، نظرا لمتابعة اعماله التجارية في أفريقيا.
في تلك الشقة التي تنتصب فوق أربعة عشر طابقا من مبنى فخم شيّد حديثا على حدود الرملة البيضاء، ما زال الزمن يقف عند يوم الخميس 23 تشرين الثاني. «الوقت دائما متأخر في تلك الشقة»، يلفت طوني ضاحكا، ولو أن هذا يتناقض تماما مع كل الآلات التكنولوجية التي تبدو كأنها قفزت من منشئها في اليابان لتملأ المكان. ترك طوني شقته في الرملة البيضاء في ذاك التاريخ عائدا الى أفريقيا، ومنذ ذاك الوقت لم يدخل أحد بيته، لا سيما ان تبديل الديكور الذي يلحقه به فصليا، كان قد انتهى منه في تشرين الأول.
ورثت عن أبي فيلا في قريتنا الشمالية، أقصدها لعطلة نهاية الأسبوع، ولا أستطيع ان أمكث فيها أكثر من يومين نظرا لنمط الحياة في القرية. هنا يختلف الأمر كثيرا. بت أشعر بأن الرملة البيضاء تعنيني أكثر من قريتي. فهنا تمرّ الأيام بهدوء، لا أحد يهتم لخصوصية الآخر، أدخل وأخرج ولا أحد يراقبني كما في القرية. بالمقابل، هناك دائما من يلقي عليّ التحية في الصباح، وأنا متوجه للركض على الكورنيش»، يقول طوني، مشددا على أن ما يعنيه في الرملة البيضاء هو المكان بحدّ ذاته وليس الناس.
بالنسبة له، لتلك المنطقة ميزة يجب ان تمتد على كافة الأراضي اللبنانية، «أشعر كأن هذه المنطقة تطوّع نفسها بشكل يرضي جميع سكانها، فيمكن ان نجد فيها روح القرية وصخب المدينة، هدوء البحر وزحمة الكورنيش... أنا لا اعرف احدا من السكان لكني أشعر بأن الجميع يشعرون بالانتماء الى هذا المكان».
حين يطل طوني من شرفة شقته «المليونية»، يرى المارة على الكورنيش كالنمل المتحرّك. مخلوقات صغيرة جدا، بعضها سريع الحركة وبعضها الآخر بطيء جدا، لكنها في الحالتين صغيرة جدا ومتشابهة. هو نفسه يقصد الكورنيش لممارسة الرياضة، يترك البذخ الذي ينعم فيه ليمشي جنبا الى جنب مع من يرى في الكورنيش مكان النزهة الوحيد، الأرخص والأوفر كما تصفه نجاة.
تأتي نجاة الى الكورنيش، تقريبا كل يوم، وهي ام لفتاة في الثالثة وصبي لم يتجاوز سنته الأولى. على الكورنيش، كانت تلتقي وزوجها خالد قبل زواجهما، لم يكن بالإمكان أن نقصد المقاهي والمطاعم كل يوم، فكنا نلتقي هنا، كما يفعل عشاق آخرون. كان المتنفس الوحيد لنا واليوم هو المتنفس الوحيد لأولادي. فابنتي تركض وتلعب مع الأطفال وتسمي المكان «الملعب» على أساس أنه مكان اللعب الوحيد بالنسبة لها. هو اليوم يحمل طفولتها كما حمل قبلا كل الأفراح والاحزان التي رافقت حبّي لأبيها.
تتمنى نجاة أن يسكن ابنها يوما ما في شقة من شقق الرملة البيضاء والروشة، «أتمنى ان يكون حظه أفضل من حظنا في الحياة، وأن يشاهد الكورنيش من شقة عالية وفخمة، فأنا أتمتع بمراقبة أصحاب تلك الشقق حين يقصدون الكورنيش للمشي والركض. أعرفهم من عطرهم، والأجهزة التي يضعونها في آذانهم لسماع الموسيقى. يدهشني منظرهم وأحسدهم لأن لحبهم أماكن متعددة ولأولادهم ملاعب لهو مقفلة ومجهزة بألعاب... ».
هكذا يمرّ طوني بجانب نجاة، هو يركض ويفكّر بالأعمال وما تطلبه من أسفار. وهي، حين يلفحها عطره، تترك التفكير بهموم الحياة وتبدأ بالحلم والدعاء كي يقتني ابنها يوما ما شقة من شقق الروشة. وينزل الكورنيش مع جهاز الموسيقى والعطر، فيلفح المارة ـ الفقراء برائحة زكية تنتشلهم من همّ الواقع الى سعادة الاحلام.
طوني ونجاة ليسا من سكان الروشة والرملة البيضاء الأصليين، فـ«احذروا التقليد» يقول أبو محمد «الدكنجي» ممازحا.
بالنسبة الى أبي محمد، فقدت المنطقة صورتها العريقة وتاريخها النضالي وحصانتها التي ضمنها تنوع أبنائها منذ زمن. «تلك الأبنية الشاهقة، يقطنها سكان لا طعم لهم ولا لون. هم لا ينظرون الى منطقتنا إلا كمكان آخر من الأمكنة المتعددة التي يمتلكونها. بينما نحن، السكان الأصليين، من يحفظ للمنطقة مكانتها وصورتها الحقيقية: صورة التعايش وصورة القرية داخل المدينة».
يعتبر أبو محمد ان الوافدين الى المنطقة جزء من العولمة التي تضرب المدن «هم شيء يشبه «الماكدونالدز»، الموجود أينما كان بالطعم نفسه وبالرائحة نفسها». يؤلمه، كما يشير، أن تصارع البيوت العريقة ليبقى لها مكان بين الأبنية الشاهقة، وأن تعيش المنطقة على إيقاع الوافدين، و«قد حولوا المنطقة الى منتجع سياحي كبير يلبي رغباتهم، بعدما كانت بساتين مزروعة يلتقي فيها أبناء رأس بيروت. بالأمس، حين كانت تذكر الروشة، كان يحكى عن أصالة وكرم في الضيافة وأبناء عروبيين مناضلين ورجال فكر وثقافة. أما اليوم كلما هزّت صبية خصرها على الشاشة يشاع انها تمتلك شقة في الرملة البيضاء... ».
من الرمل والبساتين إلى الأبنية الشاهقة
أتى اسم الروشة تعريبا لكلمة la roche الفرنسية التي كان يطلقها الفرنسيون أيام الانتداب على المنطقة التي تطل على الصخرة البحرية الكبيرة، والتي كانت تعرف بمغارة الحمام أي la grotte au pigeons، كما يروي مختار رأس بيروت محيي الدين شهاب. حينها، كانت المنطقة كناية عن بساتين مزروعة بالخضار والفاكهة والصبير البحري... وكان يملكها ويعمل على زراعتها أبناء رأس بيروت، «وقد خلت إلا من عدد قليل من البيوت المتفرقة بين البساتين، حتى بداية الستينيات حين فرض وجود الجامعة الأميركية في بيروت تمدد السكان والبناء في منطقة الروشة. وبلغت حركة البناء ذروتها في السبعينيات، لا سيما مع وفرة اموال النهضة النفطية»، كما يقول شهاب.
في تلك الحقبة أيضا، بدأت حركة العمران تتسارع في منطقة الرملة البيضاء التي اكتسبت اسمها من لون الرمل الأبيض الذي يفصل بين الشاطئ ومنطقة الرمل ذات اللون الاحمر التي كانت تصل الى حدود شارع فردان اليوم.
لم يكن سكان رأس بيروت ليشيدوا الأبنية في تلك المنطقة تخوفا من البناء على الرمل، يلفت مختار رأس بيروت كمال ربيز، «لكن زيادة السكان من جهة، ووجود الجامعة الاميركية من جهة أخرى، وتطور الاستثمارات الاجنبية من ناحية ثالثة، أدت الى فورة العمران في المنطقة. مع ذلك لا تشبه حركة العمران في الروشة تلك التي حصلت في الرملة البيضاء. ففي الاولى كان توسع لأبناء رأس بيروت، ادى بهم الى البناء في الروشة، بينما أتت الحركة في الثانية نتيجة لاموال الاستثمارات، ما جعلها منطقة أكثر نخبوية، بحيث تضمنت مختلف السفارات والمنتجعات السياحية والفنادق الفخمة... ».
لكن الحالة الاقتصادية لسكان رأس بيروت وارتفاع سعر الأراضي في المنطقة كونها امتدادا للعاصمة ومطلة على البحر، أديا بأهلها الى بيع أراضيهم. يشير المختار شهاب بهذا الخصوص الى أن «حالة إغراء قوية أدت بالأهالي الى بيع أراضيهم لا سيما تلك التي امتلكها ورثة متعددون. هكذا حولت رؤوس الأموال سكان المنطقة من مئة في المئة أصليين الى عشرين في المئة أصليين مقابل ثمانين في المئة من الوافدين، كما بدّلت من الهوية الشعبية للمنطقة لتتراجع امام هوية نخبوية تتميز بالسكن الهادئ، لكن الباذخ». ومع أن المنطقة حافظت على نسيجها الطائفي المتنوع «بقيت خالية من أي جامع أو كنيسة، فهي كانت تسمى أرض «الواوية» وفجأة أضحت أغلى منطقة لبنانية. وما من صاحب أرض أو مستثمر جديد يمكن ان يشيّد دار عبادة على أرض دفع ثمنها ثلاثة ملايين دولار».
هذا الواقع بدّل من روح المنطقة كما يؤكد ربيز «فتحولت من منطقة ثقافية الى منطقة تجارية، ومع ذلك اعتبر انه أتى اليها من يعرف قيمتها اكثر من اهلها».
ابن المنطقة، حين يُسأل عن الرملة البيضاء، هو احتفالات «أربعة أيوب» التي كانت تقام كل آخر يوم أربعاء من شهر نيسان، فيروي أن «اهل بيروت كانوا يمضون ذاك اليوم على شاطئ الرمل، ينصبون الخيم ويأكلون «المفتقة» و«البطاطا المسلوقة» ويصنعون طائرات من ورق، وذلك احتفالا بشفاء النبي أيوب. إذ يقال انه كان يعاني من مرض جلدي نصحه الاطباء بطمر نفسه بالرمال للشفاء منه. وحين شفي طلبوا منه السكن في منطقة جبلية، فكان ان توجه الى بلدة نيحا الشوفية حيث ما زال قبره قائما. وقد استمرّ أبناء المنطقة بإحياء تلك الذكرى حتى بداية الفورة العمرانية». في تلك الحقبة كانت منطقتا الروشة والرملة البيضاء مزروعتين بمختلف انواع الخضار والفاكهة وكانت تعرف بـ«أرض الواوية»، «كان اهل رأس بيروت يقصدون البساتين فجرا لمشاهدة الحمام وهو يحلّق من صخرة الروشة، ثم يزورونها قاصدين قهوة «الغلاييني» فيما كنا كأطفال نهرب من المكان مع حلول الليل بسبب الخوف».
كانت المنطقة اشبه بقرية متنوعة ومختلطة الطوائف والملل، حتى انها كانت تعيش الروتين المألوف في القرى، وما كان ليكسر ذلك الروتين إلا المناسبات الخاصة التي كان يتشاركها اهل المنطقة. لكن حادثة غرق إحدى البواخر نفضت عن المنطقة انطواءها. وتقول الرواية، بحسب عرقجي، إن «الباخرة شامبوليون غرقت أمام الشاطئ، وكانت تقلّ أناسا. فتمت الاستعانة بالجيش الإنكليزي من قبرص لنجاة الغارقين لكنه لم يفلح بعد عدة محاولات. فتطوع أشخاص من آل البلطجي للمساعدة وقد نجحوا في انقاذ عدد كبير من الركاب، وكان ان تفوقوا على الإنكليز فحازوا وساما من رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون.
تعتبر معظم أراضي الروشة والرملة البيضاء من الاملاك الخاصة، فبلدية بيروت لا تمتلك الا قسما صغيرا منها، «وليزيدوا من قيمة الاملاك الخاصة، أقيم بولفار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وكان ان شيّد اول مبنى وهو مبنى الأونيسكو، وبدأت عملية الإعمار الفعلية على أيدي متمولين سوريين ممن تمّ تجنيسهم لبنانيين في ما بعد وذلك مع مشاركة حثيثة لمتمولين ومغتربين لبنانيين في أفريقيا.
كان كوكتيل الطوائف التي يتألف منها سكان رأس بيروت يتبع سياسيا زعامات من المنطقة ومنهم آل سلام واليافي والصلح والخـوري... و«كانت العائلات تتبع تلك الزعامات، إذ لم تظـهر حركة تأييد الاحزاب الا في سنة ,1955 ولم تبدأ خلافات الأحزاب الا مع اندلاع الحرب سنة 1975 حين بدأ الحديث عن توطين الفلسطينيين وإخراج الموارنة من لبنان... لكن أهـــل رأس بيروت حموها من المشاكل الحزبية عبر إقامة الجبهة الموحدة التي كانت تتألف من مسلمين ومسيحيين».
هكذا، يعتبر ان أهل بيروت بقوا بعيدين عن الخلافات الحزبية الضيقة على الرغم من تعدد الطوائف فيها.
|