ذاكرة بيت القرميد.. وحكايا «الحاج نقولا»
خليط من مركزية مدينية وروح القرية. الأشرفية: سياسين ـ سيوفي. سحر آخر. تركيبة المقهى الأميركي، مع بيوت من عشرينيات القرن الماضي... مذ كانت أصوات الحيوانات الداجنة تتجاوز «أرض الديار» إلى الساحة، وقبل أن تصبح ساحة. تنتبه كم أصبحت مشتهاة تلك الثقة الريفية الطابع.
ساسين، أم الساحة الشهيرة والحديثة نسبياً. وجارتها السيوفي، المتشبثة بهدوئها الطبيعي، وكانت قبل عقود قليلة مقصد هواة الصيد من أهل الجوار، علامتها حديقة حقيقية ترفرف الطيور بين أشجارها بلا خوف، ومعها «عشاق اثنين صغار» على ما تغنّي فيروز. لم تنس المنطقة «قبضنة» الحاج نقولا مراد. وتستمر في استضافة نشاطات تأكيد الذات، تنظمها ميليشيات الأمس وقد باتت «أحزاباً سياسية« .
◄مقلع وبوظة وليرات ذهب
تستقبلك السيدة كفوري، على باب منزلها، الأثر الحي في شارع ساسين، والذي استؤجرت طوابقه ذات يوم بأربعين ليرة ذهباً في السنة. أناقة «ثياب البيت»، وشعر أشقر معتنى بارتفاعه عن الوجه، وكلمة «يا طانت» لطيفة تلي سؤالها عن سكّر قهوتك وإصرارها على تذوقك معمول العيد. هو البيت الذي يفصل صالونه عن غرفة طعامه حائط «مفرّغ» بقناطر تترأس أعمدة داخلية رشيقة. يحافظ على ترتيب ودهان وصيانة حاضر لا يخدش عمارة العام ,1924 عندما كانت المساكن تعد على أصابع الكفين: آل القلفات وشويتي وآخرين، وطبعاً آل ساسين الذين كانوا يوماً أكبر الملاكين في المنطقة، حتى أسبغوا اسمهم على «شارع ساسين». وجُيّر الاسم تالياً إلى الساحة التي ارتآها ضرورة تنظيمية لتدفق السير، في منتصف السبعينيات، مدير التنظيم المدني في عهد الرئيس الياس سركيس، متري النمار.
كانت المنطقة وقتها قد بدأت تزدحم بحركة المرور عبر الأشرفية، من «أوتيل ديو» إلى المرفأ ومن ساحة البرج إلى الدورة. فكانت الساحة، وتحتها النفق القصير. هذه تطورات سنستزيد منها ذاكرة أحد أحفاد المرحوم جبران ساسين الذي شيد «بيت القرميد» قبل أكثر من مئة عام...
والآن، فإن زندي الجدّ الزحلاوي لإيلي كفوري، وعافيته الأسطورية، هما أكثر ما يتذكره عنه حفيد في الخامسة والثمانين من العمر: «تعرّف هنا على جدتي، مريم مكنّة، وكانت ابنة عائلة غنية من الأشرفية. كانت حلوة ونشيطة وأخت الرجال. لم يكن جدّي ابن مال، لكن الناس كانت على البركة، والجدع يساوي شيئا». وتعرّف الجدّ أيضاً على أحد وجهاء الحي، متري الحايك. هذا الكلام من أواخر القرن التاسع عشر. كان الحايك يعيش في فيللا فخمة غيّبها الهدم، بعد قيام الورثة ببيعها، ليحل محلها «مستشفى كرم» الراهن.
يخبر إيلي كفوري أن «القصر» كان عبارة عن «منازل عديدة من حجر رملي أبيض، متراصة، وتصوينة تمتد من أول شارع أديب اسحق وحتى فرن الحايك. امتلك المرحوم متري مقلع حجارة، حيث مقر «ليبان بوست» (في وسط ساحة ساسين)، فضمّنه منه جدي، وظل يعمل فيه 15 عاماً، كان يرفع كل حجر بحجم هذه الطاولة في وسط الصالون.
حديقة فيللا الحايك نفسها أدت في الحي وظيفة إضافية إلى ظلالها الوارفة، إذ قصدها إيلي الطفل للعب بصحبة الرفاق. إلى الحديقة، حيث البلحة، تنادى الصغار لمباراة كرة قدم في «ملعب البلحة»: «بعدني فايق للقصر، مدخل مرصوف بالبحص البحري، وفي الداخل غرف مزخرفة وخدم وحشم».
ينتهى «الماتش». وإذ يقفل الفتى عائداً، فمن المرجح أن يصادف في طريقه المعلم يوسف الحلبي. البائع المتجول، حبيب الجماهير الصغيرة. لا يخيّره، فلا يحيّره: يجرّ عربته بمنتج واحد تصنعه يداه كل صباح: في الصيف مثلجات، علبة تنك وبسكوتة و«سكبة» بوظة على حليب، وأحياناً بنكهة الليمون. وفي الشتاء سحلب ساخن. الطلب بعشرة قروش، وقتما كانت «يومية الفاعل» 25 قرشاً. تندثر عربة المعلم يوسف بحلول العام 1950 ويكبر إيلي كفوري ويتزوج ويربي أولاده في البيت الذي عمّره أشهر «معمارجي» في المنطقة، لحساب والد كفوري العائد من اغترابه البرازيلي ومعه مئة وعشرين كيلو من الذهب: «وبهيديك الأيــام، كان معلم العمار مقدّراً، وفي وقت الراحة كانوا يقدمون له الغداء ويحطولو كاس عرق». كان هذا «المعمارجي» من آل مراد، وسيصبح ابنه أشهر «قبضايات» الأشرفية: الحاج نقولا مراد الذي تكفي كلمة منه لتخليص الرقاب من حبل المشنقة.
◄شيخ الشباب
طربوش وقمباز وهيبة. وابنة الحاج، التي تعلّق بها فلم يطق لها فراقاً لدرجة أنه استبقاها في بيته مع زوجها وأولادها، كانت تسأله إثر اتصالات من القصر الجمهوري لاستدعائه: «هيك بدك تطلع عند الرئيس؟ لماذا لا ترتدي البذلة؟» فيحسم: أنا افرنجي ما بلبس!.
لم يكن طربوش الحاج نقولا مجرد استكمال لملبسه، بل علامة وإشارة: ينشرح فيرجعه إلى قبّة الرأس، ويغضب فينكّسه ولا يبعده عن جبينه إلا بعدما ينزاح غمّه.
حكايات الحاج نقولا مراد (1898ـ1961) لا تنضب. الموعد مع ابنته، في بيت العائلة الحالي في ساسين، مقابل مجمع ABC حيث كانت «محطة الحاج نقولا» (محطة محروقات). لكن البيت الأساسي، الذي أزيل في العام 1964 كان يقع في مربع مقهى «تشايس» و«مطعم فرح». طابق واحد، وأمامه حديقة فيها دجاج وبقر وحصان يرمح أحياناً في المساحة التي صارت الآن ساحة. يجتمع لفيف من الأحفاد والأصدقاء في صالون تشغل صدره صورة عملاقة للقبضاي. الكل يريد أن يحكي عنه. إنه الإجماع على ما يقوله حفيده أندريه كرم: «من بعد وفاة الحاج، لا زعامة في الأشرفية». تأتي خلاصة كرم من بعد خبريات من نوع أن الرئيس حبيب أبو شهلا والمطران إيليا الصليبي (مطران الروم) أرادا ترشيح غسان تويني للانتخابات النيابية في أوائل الخمسينيات، «لكنه كان قومياً، واعترضوا عليه (حزب) الكتائب، وكان الحل أن يتم تعريفه بالحاج نقولا لدعمه، ونجح فعلا». وعلى ذكر الانتخابات، فقد كان تعليق مراد صورة لمرشح ما، على جدار محطته، التي عمّرها قبل أكثر من خمسين عاماً بعدما استأجر الأرض من وقف الروم، كافياً لإعلان الدعم «المحلي» لصاحب الصورة. ثم يتم التنسيق بين الحاج وبين «أصدقائه» من وجهاء أحياء الأرمن والسريان والرميل وغيرها، عندما كانت الدائرة الأولى تمتد من البسطة حتى النهر.
هنا إغراء بوقفة في الزمن: ففي العام 1999 استأجر أصحاب مجمّع ABC الأرض نفسها من الوقف، ولمدة ثلاثين عاماً. قبل أكثر من ثماني سنوات، كان في المكان ملعبا «نادي السلام» لكرة القدم و«أبناء نبتون» لكرة السلة. ومقابل الأخير، أي مكان «فلافل فريحة»، كانت «خمارة» تقدم العرق بالكأس (بالمفرق) لشبان الثلاثينيات من القرن الماضي، و«المازة» لا تحيد عن القضامة المالحة. وبين قضامة الملهى المنقرض وبين «جاتوهات»ABC، ذي القبة السماوية المنيرة فوق نشوة التسوق المكيّف ومواقف السيارات المتعددة الطوابق، سنوات ضوئية في معيار انقلاب وظائف الحي وأهواء سكّانه وزواره.
ففي ماض ليس ببعيد، امتدت هنا بساتين افترشها الأولاد ملاعب كرة قدم و«غِلّة»، أحياناً بصحبة أقران من المصيطبة. وإذا تعذّرت الطابات الزجاجية الصغيرة، نابت عنها بذار المشمش تصوّب على حفر عفوية في التراب.
ما زلنا في الماضي القريب، مع «قبضنة» الحاج نقولا الذي عرف بمواظبته على الجلوس أمام مدخل العدلية، لحل بعض الإشكالات حبياً، موفراً العناء على القضاة. ولم تقتصر مقدرات الحاج في الوساطة على الباحة الخارجية لقصر العدل، بل غالباً ما كان يصل بها إلى غياهب القضايا وسجونها. كان «حبس الرمل»، في الأربعينيات والخمسينيات، محجّاً للقبضاي يومي الخميس والسبت من كل أسبوع.
يروى أن نقولا مراد كان يزور أحد المساجين، فأقبل عليه «رفيق زنزانة» طرابلسي يرجوه أن يساعده لأنه بريء من تهمة قتل حميه، فوعده خيراً. بعد يومين أصيب الحاج بنزلة برد، فعاده صديقه، رئيس الوزراء سامي الصلح، واغتنم مراد الفرصة ليحكي قصة المتهم الذي لم يكن على سابق معرفة به لكنه اقتنع ببراءته. لم يكن الصلح يرد للحاج طلباً. بل لفتته وساطة قبضاي الأشرفية لرجل سنّي من طرابلس. حصّل الصلح توقيع الرئيس كميل شمعون على قرار العفو وأحضره بنفسه إلى منزل الحاج نقولا. ثبتت في ما بعد براءة الرجل، بل صار اليوم ميليارديراً معروفاً، على حد قول آل مراد، ولم ينس إنقاذ الحاج لحياته التي قدّر لها أن تطول وتغتني.
وبالرغم من انشغاله بكبريات المشاكل، لم ينأ القبضاي بنفسه عن أزمات الرجال والنساء. يروي أندريه كرم أن زوجين، وصل بهما العراك إلى قرار الانفصال، فقصدا منزل القبضاي لإنهاء الموضوع. الزوج يميل إلى الاحتفاظ بامرأته، وهي مصرة على الطلاق. تحايل عليها الحاج نقولا. سايسها ورغّبها، وهي تمعن في العناد. أخيراً، سحب خيزرانه وهجم عليها كمن يهم بضربها، فقفزت بلا وعي إلى حضن زوجها تحتمي به. ضحك الحاج نقولا قائلاً: «شفتي؟ ما إلك غيره، يللا غمروا بعضكم». وهكذا كان.
هكذا ظل الحاج نقولا مراد حتى توفي. يومها، حضر الجميع: الكتائب والأحرار والقوميون.. الكل. ينقل عن العائلة ان أكثر من حزب وجهة سياسية عرضت «إخراج» الجنازة، لكن الأبناء رفضوا: «فالحاج نقولا مراد لم يحسب على أحد طوال حياته، ويجب أن يبقى كذلك في مماته».
وبعد مرور قرابة خمسين عاماً على رحيل الحاج، تصر «حلقة ذكره» المنتظمة في بيت العائلة على أن «لا زعامة مطلقة في المنطقة من بعده. صحيح أن الأشرفية أحبت بشير الجميل، والاعتقاد السائد هو أن ساسين ومحيطها معقل للقوات اللبنانية، لكن الأشرفية ليست لأحد. يعني حتى نحن، كروم أرثوذكس، نعتبر أننا لم نحظ بنائب يمثلنا». وتنتهي الجلسة بخلاصة أخيرة: «في الستينيات كان يقال إن الناخبين روم، والزعماء موارنة، والأموال كاثوليكية... اليوم، ما زالت الأرض أرثوذكسية، لكن الأموال حريرية، والزعامة مفقودة».
◄« قتلوا الرئيس! »
لا يتفق آل كفوري مع الرأي السابق: «كل عمرها المنطقة للكتائب والأحرار، ثم جاء نفوذ القوات اللبنانية كحضور طبيعي». تذكر السيدة كفوري، بصوت لا يخلو من حنان، يوم اغتيال بشير الجميل: «كنا نصيّف في بحمدون، ومرض ابني فهرعت به إلى المستشفى، وسمعنا خبر الاغتيال على راديو السيارة. فلاش ورا فلاش، وتضارب في الأخبار. ساعة يقولون انه قتل وساعة انه تم تهريبه ولم يمت، وبعدين عرفنا انو ما انكتبلو عمر، تكمل كفوري أنها ما إن عرفت أن الانفجار، وكان يوم ثلاثاء، قد وقع في مركز الكتائب في ساسين، حتى أيقنت أن «الرئيس» قد مات: «كان معتاداً على عقد اجتماع أسبوعي في بيت الكتائب، وكان الشارع يزدحم بالسيارات التي تفيض عن البورة المواجهة لمقر الحزب والذي تعمرت فيه بناية الآن. في البداية كنا ننزعج من العجقة، لكننا ما لبثنا أن اعتدنا عليها، وأحببنا الرجل. عدت إلى البيت بعد ثلاثة أيام، وكان الحي مغلفاً بالسواد والحزن. كان الناس معلقين بحبال الهواء، وإجت كل الطوائف لتهنئه بالرئاسة. الله يرحمه».
تحولت ذكرى بشير الجميل الى موعد احتفال سنوي حاشد. أولاً، ضمن جناز في كنيسة سيدة الأيقونة العجائبية في دير اللعازارية للموارنة، ثم في «تجمع شعبي» في ساحة ساسين التي يتوسطها نصب خاص وتحته أهرام صغيرة نقشت عليها أسماء من سقطوا معه. «البلاك» الأصلي ما زال يلمع فوق بضع أزهار طازجة: «وفاء لذكرى فخامة الرئيس الشيخ بشير الجميل 10/11/1947 ـ 14/9/1982». لكن ثمة «بلاك» جديداً: «وفاء لفخامة الرئيس الشهيد بشير الجميل وشهداء المقاومة اللبنانية، لتبقى الـ10452 كلم سيدة بأرضها وحرة بشعبها، تم جلاء جيوش الاحتلال عن لبنان في 26 نيسان 2005». لوحة نهر الكلب ـ2؟ فلتقسم مربعات الكيلومترات العشرة آلاف ـ وكسور على اثنين. أنت الآن في نصف البلد، الذي مشى نصفه الآخر في تظاهرة تحت شعار «شكراً سوريا». وفي النصفين لا أحد ينسى شيئاً.
تتذكر الفصل المخصص للأشرفية، ضمن كتاب «هذه ليست سيرة» للكاتب والصحافي حازم صاغية الذي يروي أنه «حين سقطت تلك القذيفة في السيوفي، تراءى كأن قذيفة واحدة تكفي لحمل ذاك العالم على التداعي. فسكينة الأشرفية تكاد ترقى إلى علّة وجود، وأهلها كأنهم لم يوجدوا على هذه الأرض إلا للعيش في لحظات سلمها العابر. (...) ولم يمض غير يومين أو ثلاثة على سقوط القنبلة حتى رد أهل البناية (التي كان الكاتب يقطن فيها) شاهرين تفسيرهم لما جرى. فقد قالوا إن في الحي طبيباً شيوعياً يوجه العمليات العسكرية في المناطق المسلمة، ويدل المسلمين والفلسطينيين إلى النقاط التي ينبغي قصفها. وعندما حاولت أن أجادل أحد ناقلي الرواية، مذكراً إياه بأن الطبيب المذكور تجاوز الخامسة والسبعين، لا يكاد يقوى على المشي، بأدرني بأنه «شوهد» ذات مرة يقفز من سطح بناية إلى سطح أخرى وفي يده بندقية يمارس فيها القنص «علينا». يومذاك كانت الحرب لا تزال احتمالاً، وكان رئيس الحكومة رشيد كرامي يوالي التأكيد على أن «الجولة الرابعة» لن تقع.
◄كل يوم لأصحابه
ربما يتجاوز ثمن فنجان القهوة المعولمة في «ستاربكس» ـ ساسين الخمسة آلاف ليرة، ولا يزيد عمر المقهى على خمس سنوات. يعج بالزبائن المتلطين خلف شاشات الكومبيوتر المحمول، أو المسترخين على الكنبات في الداخل. في هذه الرقعة بالذات كان، في يوم، بيتاً بحديقة، لآل عبود، الذين اشتهروا كتجار سمانة وكمستوردين للحنكليس (نوع من السمك) من سوريا. مقهى ملاصق: الـ«تشايس» الذي أقفل وأعيد افتتاحه أكثر من مرة منذ أواخر السبعينيات. ومقهى «تشايس» هو المقهى بالنسبة إلى شباب الأشرفية، فيما يُعتبر جاره الأميركي لـ«الوافدين» من طلاب القهوة و«السناك». فميشال مثلاً (أربعيني أعزب) لم يدخل إلى «ستاربكس» في حياته لأنه «مش لإلنا».
لمن منطقة ساسين ـ السيوفي أمس واليوم؟ تتنوع الآراء، سياسياً. لكن «جميل الحلاق»، الخارج من ذكريات صاغية في ""هذه ليست سيرة""، اعتبر، قبيل اندلاع الحرب الأهلية، أنه يمتلك إجابة قاطعة. يكتب صاغية انه اعتاد أن يتركه جميل، والمقص في شعره، أو الصابون يغطي معظم وجهه، ليفض إشكالاً: «وعن سلوكه هذا لم يغب حس بالمسؤولية العامة، ربما كان مصدره، فضلاً عن الوجاهة اللبنانية المعهودة، أن جميل كتائبي يثبت زر الحزب على سترته ويزعم أنه مسؤول بيت الكتائب في إحدى قرى الجبل القريبة. وهي مهابة لم تكن يوماً كبيرة، غير أنها، مع اقتراب الحرب، تضاءلت في صورة محزنة». يكمل صاغية أن جميل بارح صالونه مرة، «قاصداً تبديد توتر أحدثه يافعان في الخارج، ورجع مكسوراً ومهاناً. فهو حين قال لمن يهم بضرب الثاني أن ""اضربني أنا بدلاً منه»، استجاب الضارب دعوته ولم يترك له إلا الغضب العارم المكتوم. وتلك كانت المرة الأخيرة التي أزور صالون جميل، والمرة الأولى التي يقر فيها الكتائبي التقليدي الذي كأنه بهزيمته أمام جيل مسيحي صاعد.
لمن ساسين ـ السيوفي أمس واليوم؟ كانت، في الملكية العقارية، بغالبية لآل ساسين، «لكن، مع الأسف، لم تعد العائلة أكبر الملاكين، فالمنطقة الآن مقسّمة إلى ملكيات صغيرة ومتنوعة، وجزء كبير من أصحابها ليس من المنطقة»، بحسب حفيد المرحوم جبران ساسين (عمره الآن 70 عاماً ويؤثر عدم ذكر اسمه). يتذكر الحفيد بقايا عربات الخيل، وقد بدأت تحل محلّها سيارات السرفيس السوداء من نوع «فورد أبو دعسة» التي استحقت التسمية بسبب رفرافيها اللذين يتسعان لراكبين إضافيين في حال امتلأت السيارة بركابها الخمسة. أما ذكرى بيت الجد، الذي كان صاحب معامل حرير ومزارع دود قز في الشويفات، فمحزنة بالنسبة إليه. إذ تسبب بهدمه قرار «التنظيم المدني» بإنشاء مستديرة ساسين التي «اتخذت سريعاً وظيفة اللقاء في المقاهي كما في النشاطات السياسية واحتفالات فوز الفرق الرياضية». فسقطت الطبقات الثلاث المطربشة بحمرة القرميد، وزالت الحديقة التي كانت تتوسط شتلات ياسمينها الفواح بركة ماء، وصعدت بناية العائلة (الحالية) في أرض متاخمة، مقابل مقر «ليبان بوست».
لم تنجب العائلة في السياسة سوى الوزير والنائب السابق ميشال ساسين، الذي عين وزيراً تسع مرات، بحسب قريبه، كما شغل منصبي نائب رئيس مجلس نواب ونائب رئيس حكومة.
ولأواخر الستينيات أيضاً، وفي السيوفي القريبة، ذكرى أخرى لصاغية أوردها في كتابه. يكتب أن وجهاً دخل حياة البناية التي عاش فيها: اسمه جيلبير، وحملته إلينا علاقة غرامية ربطته بإحدى فتيات البناية. وأكثر من الغرباء الآخرين الذين تتفحصهم عيون السكان، وتبالغ في التفحص، أخضع جيلبير للرقابة. فهو ملتح يواظب على ارتداء الجينز الذي تمجه أذواق الجيران المحافظة. واللحية، عندهم، إن نزهت عن الاقتران بالقذارة اقترنت بغيفارا وكاسترو، ومن بعدهما «الناطق بلسان الثورة الفلسطينية ياسر عرفات»، «والأدهى»، وفقاً لكتاب صاغية، «أن جيلبير، كما وصف «يقاتل مع الفلسطينيين، الشيء الذي يطلق للحيرة عنانها حيال «ابن عائلة» درس في فرنسا ليعود على هذه الهيئة المزرية. (...) لكن حين تأكد أن العلاقة وثيقة ومفضية إلى زواج، استُدرك التحليل فقيل إن المقاتلين الفلسطينيين كلهم خريجو جامعات رفيعة وأبناء عائلات. وفي إشارة مداورة إلى الحضور المسيحي بينهم، كان غالباً ما يستشهد بجورج حبش، وهو، فوق هذا، طبيب. بيد أن الأحكام المذكورة كانت تخرج من يقين مهتز، كما لو أن أصحابها يوفرون أعذاراً للفتاة وأسرتها يتفادون بها فضيحة، أو يدرجون فعلتها في معقولهم ومقبولهم.
|