إذا كان اللبنانيون يعرفون الكثير عن شهداء السادس من أيار، الذين عُلقوا على أعواد المشانق في الساحة المعروفة باسمهم اليوم أي (ساحة الشهداء)، فإن العديد منهم لا يكاد يعرف إلا القليل عن هذه الساحة، والتطورات التي تعاقبت عليها من اليوم الذي كانت تحمل فيه اسم (بستان فخر الدين) إلى اليوم الذي أصبحت تحمل إسم ساحة البرج أو ساحة الشهداء، ومن اليوم الذي كانت فيه مركزاً لتجميع عربات الخيل، الوسيلة الوحيدة للانتقال أيام زمان.
إن ساحة البرج أو ساحة الشهداء هذه، ظهرت إلى الوجود في عصر الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي كان يحاول أن يُدخل إلى بيروت اللون الأجنبي من المؤسسات والعمارات والمنشآت، وذلك إثر عودته من توسكانة في إيطاليا حيث كان قد التجأ خوفاً من بطش الدولة العُثمانيّة به، وكانت عودته إلى لبنان في الثلث الأول من القرن السابع عشر للميلاد.
وتذكر المصادر التاريخيّة أن فخر الدين إصطحب معه لتحقيق رغبته العُمرانيّة المهندسين الإيطاليين الذين كلفوا بتشييد قصر لائق لهذا الأمير المعني في ضاحية بيروت الشرقيّة حيث تقع اليوم الساحة المعروفة باسم ساحة البرج، وقصر الأمير هذا، قد تهدم مع الزمن، ولم يبقَ منه إلا أنقاض أو أطلال أُزيلت آخر مرة في عهد الانتداب الفرنسي عام 1932م حينما شيّد المرحوم عبود عبد الرزّاق مكانها سينما أوبرا التي حلّت محل البورصة القديمة في بيروت.
وقد حرص الأمير فخر الدين على بناء قصوره من حجارة قصور خصومه آل سيفا حكّام عكّار، ولكن الزمن دار دورته فإذا بواحد من ذرية آل سيفا يثأر لأجداده من حيث لا يشعر، فيهدم بقايا قصر غريمهم ويشيّد مكانه أملاكاً خاصة به.
ولكن الساحة القائمة إلى اليوم لم تكن كذلك بالأمس، لأن الأمير المعني حرص على أن يجعل من الأراضي المحيطة بقصره حديقة غنّاء عامرة بأنواع الأشجار المثمرة، كما حرص على أن يجعل فيها مرابط لخيله، وأفرد في جانبها ناحية حشر فيها الأنواع المختلفة من الحيوانات الأليفة والمفترسة مما هو متبع عادة في حدائق الحيوانات الأخرى في العالم.
ولا يزال أجدادنا الأقربون يتحدثون عن خان الوحش الذي كان قائماً مكان سوق سرسق فيما بعد، والذي يشكل إمتداداً لحديقة البرج، وهذه الحديقة، المليئة بالأشجار ومرابط الخيل ومحاجر الحيوانات، كانت تُعرف عند باسم بستان فخر الدين، وهكذا يكون بستان فخر الدين أول اسم أُطلق على ساحة البرج.
ساحة المدفع
وقد طرأت على الساحة تطورات عديدة بعد ذلك، ففي أواخر القرن الثامن عشر حكم بيروت أحمد باشا الجزّار، الذي استطاع أن ينفرد بالسلطة على المدينة بعد أن إستخلصها من حاكمها السابق وسيّده السابق أيضاً الأمير يوسف الشهابي، فالأمير يوسف كان في الواقع حاكماً على المنطقة المعروفة يومذاك بجبل الدروز، محافظة جبل لبنان اليوم، وكانت بيروت من جملة أملاك الأمير، وقد تحصّن بها الجزّار وإمتنع عن الولاء لسيّده السابق، مما إضطر الأمير يوس ، إلى أن يُوسّط أحد الإقطاعيين ظاهر العمر الزيداني، المتسلط على منطقة الجليل في فلسطين، ليقنع أصدقاءه القرصان الروس المرابطين بأسطولهم في البحر لكي يسترجعوا بيروت من الجزّار للأمير مهما كانت الوسائل، وبالفعل، استجاب قائد الأسطول الروسي لطلب ظاهر العمر الزيداني وقذف بيروت بقنابله، ولكن المحاولة باءت بالفشل لأن الجزّار كان قد حصّن بيروت جيداّ، ورمّم قصر الأمير فخر الدين وإتخذ منه برجاً لرد غارة المغيرين.
وإضطر الأسطول الروسي بعد ذلك، إلى أن ينزل مشاته في ضواحي بيروت ليضرب البرج عن كثب بالمدافع التي نقلها إلى البر ووضع هذه المدافع في الساحة التي تقع قرب البرج، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الناس بطلقون على الساحة إسم: ساحة المدف ، وعُرفت عند الأجانب باسم Les Place des Canons.
إبراهيم باشا وساحة البرج
كل هذه الحوادث كانت تجري وساحة البرج لا علاقة لها بمدينة بيروت التي كانت محصورة في ذلك التاريخ ضمن سورها وأبوابها في طول لا يتجاوز سبعمائة وخمسين متراً وعرض لا يزيد عن نصف طولها، حتى إذا كان عام 1831م ودخلت الجيوش المصريّة إلى بيروت تحت أقواس النصر، وعلى رأسها القائد إبراهيم باشا، أتُّخذت ساحة البرج معسكراً لهذا القائد مع جيوشه، وقد أراد الفاتحون أن يستفيدوا من حصون الجزّار فعملوا أول ما عملوا على ترميم البرج الذي كان يقوم بناؤه الرئيسي محل سينما متروبول اليوم، قرب كاراج العسيلي، وأطلقوا عليه أسم البرج الكشّاف وكان ارتفاعه 60 قدماً وسمك جداره 12 قدماً، ثم اتخذوا منه قاعدة يرصدون منها الغزاة الذين قد يأتون لإحتلال البلاد من البر والبحر.
ومنذ ذلك الوقت أطلق الناس على هذا البرج إسم برج الكشّاف لكن العامة من البيارته حرفت هذه التسمية وأطلقت عليه إسم برج الكشاش.
سهلة البرج
ولقد لفت الفراغ الأرضي المجاور للبرج القديم أنظار المسؤولين، وعلى رأسهم فخري بك رئيس الدائرة البلديّة، فأشار بتنظيم الفراغ الذي كان معروفاً في أيامه باسم سهلة البرج، والسهلة كلمة عامية تعني الساحة، وإفتتح فخري بك العمل بمبلغ 50 ليرة تبرع بها من ماله الخاص لتصرف على تسوية السهلة وجعلها منتزهاً جميلاً.
وفي هذا الصدد قالت جريدة (ثمرات الفنون) لصاحبها المرحوم عبد القادر القبّاني العدد 178 عام 1878م:
(وجناب الرئيس فخري بك، عازم على وضع مسلّة من الرخام في ذلك المنتزه بارتفاع أربعة أمتار فوق قاعدة الرخام تحاط بدرابزون متقن، وينقش عليها مقدر ما يتبرع به كل إنسان على ذلك العمل مع التنويه به بحيث يكون أثراً جميلاً، كما أن في عزم جنابه أن يكون ذلك المنتزه في غاية الحسن والإتقان، ويجعل فيه محلات للجلوس، وقهوة تصلح لجلوس الجميع وتحضر فيه الموسيقى العسكرية وغير ذلك من المحسنات التي ستبرزها فكرة جناب الرئيس وفطنته النقادة بما يكون إن شاء الله من أحسن الآثار ، ونتيجة لرغبة فخري بك خصّص المجلس البلدي في بيروت في موازنته ثلاثماية ليرة تضاف إليها ثلاثماية ليرة أخرى تركتها مكارم عزتلو فخري بك من معاشه لإصلاح فسحة البرج وإنشاء الممرات والحدائق فيها، وأُطلق حينئذٍ على المكان إسم منتزه الحميديّة ، نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، وقد رصفت سهلة البرج بأمر الوالي رشيد بك أفندي عام 1903م وبلغت تكاليف كل متر مربع فيها ريالاً ونصف ريال.
ساحة الحرية
على أثر الانقلاب الذي أودى بعرش السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م، شهدت ساحة البرج انقلابا آخر، إذ امتلأت جنباتها بأهالي مدينة بيروت على مختلف فئاتهم، وهم يهتفون بشعارات جمعية الإتحاد والترقي، وهي الجمعية التي أطاحت بعرش السلطان المذكور عبد الحميد، كما شهدت هذه الساحة سوق عكاظ، تبارى فيه الخطباء مباركين العهد الجديد ولاعنين العهد القديم، كما هي العادة في كل زمان ومكان.
ساحة الإتحاد
وحتى يزيل الناس كل أثر للسلطان المخلوع، تنادى المسؤولون وأفراد المؤسسات الشعبيّة إلى اجتماع انتهى بإزاحة الستار عن لوحة رفعت فوق ساحة البرج مكتوب عليها ساحة الحريّة ، كما رفع الستار عن لوحة أخرى علقت فوق الباب الشمالي من الحديقة الحميديّة منشيّة الصنائع، الحالية، كتب عليها حديقة الحريّة، ولكن الاسم الجديد لم يستمر طويلاً، إذ قرر الرأي العام في بيروت إعادة النظر في هذه التسمية ووضع إسم جديد مكانها للساحة وهو (ساحة الإتحاد).
ساحة الشهداء
وتتوالى الأيام، وساحة البرج تشهد أصنافاً من الناس وأصنافاً من الحكام وأصنافاً من الأسماء، حتى إذا كان عام 1918م الذي وقعت فيه البلاد العربيّة صريعة تحت وطأة الغزو الأوروبي، إذ بالسلطات الفرنسيّة المحتلة تتجه إلى ساحة البرج لتترك عليها بصمات فارقة، فوجد الطاغية الفرنسي الجنرال غورو في هذه الساحة خير مكان لتخليد ذكرى ضحايا جمال باشا السّفاح، فأصدر أمراً بأن تصبح ساحة البرج مرة أخرى .... ساحة الشهداء.
دائرة الشرطة في ساحة الشهداء
وأرادت السلطات الفرنسيّة الحاكمة أن تطبع ساحة البرج بالطابع الذي يتلاءم وفكرتها عن الاستشهاد، فأوعزت بأن يقام نصب كان يمثل الذل والخنوع، وهو عبارة عن امرأتين مسلمة وأخرى نصرانيّة تندبان فوق قبر يرمز إلى مدافن الشهداء، لكن هذا التمثال هُدم واستبدل بآخر ، كما هو عليه اليوم.
سراي البرج تشهد ولادة الاستقلال
أما السراي التي هدمت في العام 1950م بأمر من المرحوم رياض بك الصلح، وذلك حباً في توسيع ساحة الشهداء وتحسين المناطق المجاورة لها تجارياً، وأطلت بعدها بناية الريفولي، فقد شيدت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وكانت مركزاً للولاية التي تضّم جميع المؤسسات الحكوميّة المحليّة إعتباراً من رئيس البلدية حتى آخر شرطي، ومن هذه السراي كانت تدار الأعمال الرسميّة في ولاية بيروت الممتدة من اللاذقيّة حتى بئر السبع، وقد شهدت هذه السراي نهاية الإنتداب الفرنسي وولادة الاستقلال عام 1943م حين وقف رجال البلاد السياسيين بعد الإفراج عنهم من قلعة راشيا ، معلنين من على شرفاتها المُطلّة على الساحة، زوال الإنتداب وقيام الاستقلال.
ساحة الحرية
إثر أغتيال رئيس الوزراء الأسبق الشيخ الرئيس رفيق الحريري ودفنه قرب جامع محمد الأمين الذي أنشأه على حسابه الخاص ، قرر مجلس الوزراء اللبناني تسمية الساحة بإسم { ساحة الحرية } ، تكريماً للرئيس الشهيد.
الساعة الناطقة في وسط ساحة البرج في أواخر الستينات
|