شهر رمضان
إن العادات والتقاليد البيروتية، هي في جذورها عادات عربية، وفيما يتعلق بالعادات التقليدية الدينية، فهي في جذورها إسلامية، ومن بين هذه العادات التي هي في إطار السنة النبوية، الإستبانات لغرة كل شهر عربي، ومن أهم هذه الإستبانات، إستبانة هلال شهر رمضان، تبعاً لأهمية هذا الشهر المبارك، وساد عند الطبقة العامة، وللأسف عند الخاصة، استخدام لفظ (سيبانة رمضان) التي هي في الأصل آستانة، حيث كان البيارتة ينتشرون على شواطئ بيروت في 29 شعبان بهدف إستبانة هلال وغرة شهر رمضان المبارك، وكانوا يأخذون معهم إلى شواطئ الأوزاعي، الرملة البيضاء، الروشة، المنارة، الصمطية، بعض المواد الغذائية وبعض الأطعمة لأنهم كانوا يقضون ساعات طويلة قبل المغيب انتظاراً بالإستبانة وبمقدم شهر رمضان المبارك الذي أُنزل فيه القرآن الكريم، وإذا تبيّن لبعض المسلمين ممن هم من ذوي الصدق والأخلاق الحميدة ظهور هلال رمضان توجهوا إلى المحكمة الشرعية للإدلاء بشهاداتهم الشرعية، ومتى تأكد للمفتي والحاكم الشرعي وقضاة الشرع من أن هؤلاء الناس موضع ثقة، تداول الجميع بهذه الإستبانة ويتمّ الإعلان عن بدء الصوم، وتطلق المدافع من على هضبة السراي الكبير في العهد العُثماني.
في العهد العُثماني كان مفتي بيروت يعلن ويحدد اليوم الأول من شهر رمضان المبارك، وتكون مساجد وزوايا بيروت مزدانة بالزينات والأعلام وتعلوها الآيات القرآنية الكريمة، كما تزدان شوارع بيروت ومركز الوالي والسراي الكبير، والمؤسسات الرسمية كافة بالزينات احتفالا بقدوم الشهر الكريم، وما تزال بيروت المحروسة حتى اليوم تزدان وتحتفل بقدوم الشهر الكريم، ومما يؤسف له أن البيارتة منذ عقود عديدة لم يعودوا يقومون بالإستبانة في 29 شعبان من كل عام، بل يحرصون على الخروج للتنزه والغداء مع ذويهم في مختلف المناطق الساحلية أو الجبليّة، ويحرصون على الخروج في يوم الأحد قبل رمضان، مهما كان تاريخه وليس المهم أن يكون في 29 شعبان ويطلقون على هذا الخروج والتنزه على أنه سيبانة رمضان، ومهما يكن من أمر فإن هذه السُّنة هي إستبانة الهلال، وليست (السيبانة).
وكان المسحراتي ظاهرة رمضانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بليالي شهر رمضان، حيث يكون عادة من أبناء الحيّ، فيبدأ قبل الفجر بإيقاظ الصائمين حتى يتناولوا الطعام قبل الإمساك ، وكان يضرب بواسطة عصا على طبلة خاصة، في حين أنه كان يلبس الجلباب المعتاد أو القنباز والطربوش، ومن عادة البيروتي في شهر رمضان المبارك أن يستيقظ كالمعتاد بعد أن يصلي الفجر ويقرأ القرآن الكريم، بينما الشعوب الإسلامية الأخرى تستيقظ في شهر رمضان المبارك عند العاشرة صباحاً أو الحادية عشرة، ومنهم من يبقى طوال النهار نائماً مقفلاً دكانه وبعد الإفطار يفتح محله ليلاً حتى قبيل الإفطار، ولكن البيروتي بما اشتهر عنه من نشاط وحب للعمل يستيقظ كالمعتاد متوجهاً إلى عمله أو مدرسته أو جامعته، وكان مركز العمل الأساسي في باطن بيروت أي في داخل السور.
إن الاحتفالات بقدوم شهر رمضان تبدأ مبكرة، فمنذ اليوم الأول من شهر رجب المعروف باسم (الهلة) يبدأ الصوم ليوم واحد، ومن يود الصوم في أيام أخرى فله الحرية تقرباً لله تعالى، ثم يصوم المسلمون في النصف من شهر شعبان تقرباً إلى الله عزّ وجّل استناداً إلى السُنة المُطهرة، وفي هذا اليوم ينشغل المسلمون في بيروت في العادة بإعداد الوجبات والحلويات مثل أيام شهر رمضان تماماً، غير أن ما يميّز هذا اليوم شغل وصناعة المشبّك، الحلوى متعددة الألوان التي يحرص بعض الأبناء على إهدائها للأهل والأقارب، والمشبّك هو تعبير اجتماعي وفلسفي عن تشابك وتوطيد أواصر القربى، وعن تعميق صلة الرحم.
وكان المسلمون في بيروت ومختلف المناطق العُثمانيّة يحرصون قبل قدوم شهر رمضان بأيام على إعداد ما يلزم لاستقبال الشهر الكريم الذي كرمته مختلف الديانات والعقائد، وقد قيل بأن التوراة أنزل في اليوم السابع من رمضان، في حين أنزل الإنجيل في اليوم الرابع عشر منه، وأن القرآن الكريم أُنزل في الواحد والعشرين في ليلة القدر من رمضان المبارك وقيل في السابع والعشرين، لذا فإن المسلمين يعظّّمون هذا الشهر الكريم لتعظيمه في القرآن الكريم في أكثر من آية.
ولا بد من الإشارة إلى أن المسلمين في بيروت في العهد العثماني كانوا يطلقون على أولادهم الذكور أسماء الشهور الكريمة: رجب، شعبان، رمضان، محرم، ربيع، لاسيما إذا ولدوا في هذه الأشهر بالإضافة إلى تسمية أولادهم باسم هلال.
وبعد الانتهاء من العمل بعد الظهر، يتوجه البيروتي لتبضع حاجياته لليوم ذاته ولليوم التالي من سوق الخضار وسوق اللحامين، كما يتوجه لسوق القطايف، قرب البرلمان اليوم، لشراء القطايف والكنافة والسوس أو الجلاب أو التمر هندي والقمر الدين، ومن عادة البيارتة لا سيما في اليوم الأول من شهر رمضان أن يجتمع أفراد العائلة في منزل كبير الأسرة، ويبدأ الجميع بمعاونة الوالدة في تحضير المأكولات الرمضانية الخاصة، ومن بين هذه المأكولات شراب قمر الدين والسوس، الفتة (تسقية) شوربة العدس، الفتوش (الزريقة)، مأكولات من اللحم والدجاج والخضار، ثم ينتهي الأكل بتناول القطايف أو الكنافة أو الكلاج والعثملية، والشعيبيات، أو الحدف (الزغلولية) أو البقلاوة أو المفروكة كما إبتدع البيروتي في السنوات الأخيرة حلوى نسبت إلى مبتكريها مثل: بُحصالينو، داعوقية، قاروطية، ومن ثم يحرص البيروتي على شرب القهوة أو الشاي، ونصب الأراكيل، في حين تبدأ السهرات الرمضانية التي تنقسم إلى أربعة أقسام:
1. سهرات داخل المنزل تبدأ بتلاوة آيات من القرآن الحكيم، وذكر الأحاديث الشريفة ومن المهم ختم القرآن الكريم في هذا الشهر، وتُسمى (الختمة).
2. سهرات عند الأقارب أو الجيران تبقى حتى مطلع الفجر لحين موعد السحور.
3.سهرات دينية في المساجد والزوايا حيث تتلى آيات قرآنية وتُنشد الأناشيد الدينية والمدائح النبوية، ومنها إقامة الشعائر في الجامع العمري الكبير وزاوية المجذوب والحدرة وبقية الجوامع والزوايا، كما يحرص البيروتي على أداء الصلوات في المساجد ومنها صلاة التراويح تقرباً لله تعالى.
4. سهرات للتسلية في المقاهي الشعبية حيث تُروى القصص والحكايات الشعبية مثل قصص عنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي وألف ليلة وليلة، ومن المقاهي المشهورة في العهد العثماني: مقهى السرايا، مقهى سوق الإسكافة، المقهى الكبير، مقهى المعلقة، مقهى القزاز، مقهى الناعورة، بالإضافة إلى المقاهي التي نشأت فيما بعد، أهمها قهوة البسطة الفوقا لصاحبها المرحوم الحاج سعيد حمد المعروفة باسم (قهوة المتوكل على الله)، ثم مقهى دوغان وسواها.
وبلغ من أهمية اهتمام أهل بيروت بشهر رمضان المبارك، أن بعضهم كان يستقدم، وما يزال، خصيصاً من مصر ودمشق المنشدين الدينيين المشهورين في بلادهم بأصواتهم الشجيّة وأناشيدهم المبدعة، وذلك لكي يقيموا السهرات الرمضانية الدينية.
ومن الاحتفالات الدينية المميّزة في شهر رمضان المبارك الاحتفال بذكرى موقعة بدر الكبرى في 17 رمضان، والاحتفال بذكرى فتح مكة في 21 منه، ثم الاحتفال الكبير بليلة القدر في ليلة 27 رمضان المبارك، وتكون هذه الاحتفالات فرصة لإثارة الروح العسكرية والدينية عند المسلمين في بيروت ومختلف المناطق العُثمانيّة، وتكون هذه الاحتفالات عادة في مساجد بيروت وزواياها بحضور مفتي ووالي بيروت والأعيان ورجال العلم وجمهور المسلمين.
ومن عادة البيروتي أنه في أواخر رمضان، يبدأ بممارسة (التوحيش) في العشر الأواخر منه، تعبيراً عن تمسكه بهذا الشهر الكريم، وعن حزنه بسبب قرب انتهائه فيبدأ الصائمون والفرق الدينية بالانتقال إلى المساجد يصلون ويبتهلون لله تعالى، وينشدون الأناشيد التي تعبّر عن وحشة المسلم لرمضان المبارك، وما تزال هذه العادة مستمرة حتى اليوم في بعض العواصم والمدن العربيّة.
أما فيما يختص بالاستعداد لعيد الفطر السعيد الذي يصادف في الأول من شهر شوال، فإن الاستعداد له يبدأ قبل أسبوع من انتهاء رمضان المبارك، حيث يصطحب الأب أولاده معه إلى باطن بيروت (إلى البلد) لشراء الألبسة والأحذية الجديدة من أسواق البلد المتعددة، كما تشتري المرأة لبناتها الاحتياجات اللازمة للعيد، من سوق الإسكافة، سوق البازركان، سوق بوابة يعقوب، سوق الساحة، سوق سرسق، سوق الأرمن، سوق الطويلة، سوق أياس، سوق باب إدريس، سوق الدلالين، سوق الخياطين، وسواها من الأسواق.
كما ينهمك أفراد الأسرة بتحضير لوازم وحوائج المعمول من سكر وخميرة وطحين فرخة وسمن بلدي وسميد وتمر وجوز وفستق حلبي وماء الورد وماء الزهر، وذلك بصناعة المعمول بأنواعه الثلاثة، معمول بالتم ، معمول بالجوز، معمول بالفستق، وقبل يومين أو يوم على الأقل من قدوم العيد، تقوم النسوة البيروتيات بتحضير المعمول وإرساله إلى الفرن، وبعد الانتهاء من خبزه يعيد صانع الفرن (الصواني والصدور) إلى المنزل ويأخذ الفرّان أجرته عادة بعض الحلوى من المعمول أو بعض القروش وبذلك تصبح الأسرة جاهزة للعيد السعيد.
وتشير سجلات المحكمة الشرعية في بيروت إلى أن مشاهدي رؤية هلال شوال من المسلمين يأتون إلى المحكمة لإثبات رؤياهم أمام مفتي بيروت وحاكمها الشرعي، ومتى ثبت صحة هذه الرؤيا مع شهود آخرين، يعلن المفتي بالاتفاق مع الوالي أول أيام عيد الفطر السعيد الذي يُسمى العيد الصغير لأن أيامه ثلاثة، في حين أن عيد الأضحى يُسمى العيد الكبير أو (بيرم) لأن أيامه أربعة، وما يزال تقليد إثبات هلال شهر شوال يعمل به حتى اليوم في بيروت، ويحرص المسلمون في بيروت على توزيع زكاة الفطر وزكاة أموالهم في شهر رمضان وقبل صلاة العيد حتى تتم الفرحة للفقراء وللمعوزين، يتمّ الإعلان عن أول أيام العيد في المساجد والزوايا، ثم يتمّ الإعلان والاحتفال بالعيد بطلقات عدة من المدفعية بواسطة المدفعجي، وذلك في بيروت وصيدا وطرابلس ومختلف المدن والمناطق الإسلامية، وينتشر الأطفال في الشوارع ينشدون:
بكره العيد وبنعيّد وندبح بقرة سعيّد
|
وسعيد ما لو بقرا بندبح بقرة الشقرا
|
وبيت العم ما بيريدوا بندبح بقرة بيت سيدو
|
وبيت سيدو ما بيريدوا بندبح بقرة بيت عيدو
|
في صباح أول أيام العيد يتوجه والي بيروت إلى منزل المفتي ليصحبه معه إلى المسجد العمري الكبير في داخل البلد، ويكون بانتظارهما العلماء ورجال السياسة والقادة والجماهير البيروتية وسط احتفال رسمي ومهيب، ووسط الموسيقى العُثمانيّة المميّزة بقيادة (الجوسقي) أي قائد الفرقة الموسيقية.
يؤم المفتي المصلين في صلاة العيد ثم يلقي الخطبة، وبعد ذلك تبدأ المعايدات وتبادل التهاني بالعيد السعيد بقول عبارة (كل عام وأنتم بخير) أو (كل عام وأنتم سالمون)، وفي هذه الأثناء يعج المسجد الكبير وبقية المساجد بجمهور المصلين والمهنئين.
بعد أداء صلاة العيد ينتقل الوالي إلى القشلة العسكرية (السراي الكبير)، حيث يقدم التهنئة إلى قائد الموقع وكبار العسكريين، ثم ينتقل مع مرافقيه إلى مستشفى العساكر الهمايونية (الخستة خانه) (الأستخانه) التي أصبحت فيما بعد قصر العدل، فتقدم الهدايا للمرضى، ويعود الوالي بعد ذلك إلى دار الحكومة ليستقبل تهاني كبار المأمورين والأعيان والوجوه والذوات.
ويذكر أنه قبل توسيع سوق الفشخة وفتح الباب الشمالي للجامع العمري الكبير، كان موكب الوالي يتوجه من دار الحكومة سيراً على الأقدام ويدخل الجامع من الباب الغربي، وذلك لتعذر مرور العربة في الأزقة والزواريب الضيقة.
ويحرص المسلمون في بيروت بعد الانتهاء من صلاة العيد على زيارة قبور موتاهم، ووضع أغصان خضراء عليها لا سيما الأغصان المعروفة باسم (الآس) وهي أغصان تشبه أغصان (الحنبلاس) التي باتت قليلة في هذه الأيام وذلك اقتداء بما كان يفعله الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي المقابر يبدأ الزائرون بقراءة الفاتحة على روح المتوفى والدعاء له.
والبيروتي مشهور بأخلاقه الكريمة ودماثة خلقه وتدينه، لذا يحرص الأبناء على زيارة الآباء والأمهات والجدود والجدات وكبار أفراد العائلة امتثالاً لأمر الله والرسول عليه الصلاة والسلام، بضرورة العمل بصلة الرحم.
واليوم الأول من العيد يكون عادة يوم (العيديّة) وكم تكون هي عظيمة فرحة الأطفال بقدوم العيد، الذي يسمونه (عيد المصاري) أي عيد النقود، فبعد تبادل التهاني يقوم الكبار بمعايدة الصغار ببعض النقود العُثمانيّة من القروش، أو المتليك أو البرغوت، علماً أن القروش العُثمانيّة القديمة كان كل قرش منها يساوي أربعين ليرة مصرية، ثم تدنت قيمتها فيما بعد.
أما العيديّة بعد انتهاء حكم العثمانيين في بيروت، فكانت أيضاً من (القرش المبخوش) أو أكثر أو أقل، ومن كان ينال ليرة لبنانيّة في تلك الأيام كان ذلك يعتبر حدثاً بارزاً واستمرت للّيرة قيمتها في الأعياد حتى قبيل عام 1975م فالطفل أو الولد الذي ينال عيديّة من خمس ليرات أو عشر ليرات يعني ذلك الشيء الكثير، على عكس هذه الأيام التي لم يعد للّيرة قيمتها أو رونقها.
ولا ينسى أهل بيروت في هذه المناسبة إعطاء العيديّة للمسحراتي الذي سهر الليالي لإيقاظهم عند السحور، فيقوم مسحراتي الحيّ أو الطبّال في أول عيد الفطر السعيد بالتجوال بين البيوت والحارات لقبض عيديته، وبذلك تعمّ الفرحة جميع البيارتة، وجميع المناطق البيروتية لا سيما ساحة السور (السبيل الحميدي) وحرج بيروت حيث تقام أحلى المهرجانات والاحتفالات بهذه المناسبة، ومن خلال مطالعة مؤرخ بيروت الدكتور حسان حلاق لروزنامة الكلية الإسلامية (مدرسة الشيخ أحمد عباس الأزهري) تبيّن له أن عطلة عيد الفطر السعيد بالنسبة لهذه المدرسة وسواها من مدارس المسلمين عشرة أيام سواء في عيد الفطر أو عيد الأضحى المبارك.
|