يتقاسم المسحراتيون الشوارع خشية المزاحمة والمنافسة و"المضاربة" فترى مجموعة هنا في هذا الشارع وتكون مؤلفة من أبنائه، ومجموعة أخرى هناك في الشارع المقابل مكوّنة من أبناء الحي نفسه. وما يسلّي أكثر هو التقاء فرقتين من المسحراتيين في أحد الشوارع الجامعة بينهم فتندلع شرارات المنافسة بينهم ويشحذون قريحتهم لاستخراج العبارات الجميلة وكل ذلك في سبيل الفوز بقلوب الصائمين ونقودهم، لكن هذه الصورة قد تنقلب إلى ما هو أسوأ عندما تكون المنافسة عمياء بين فرق المسحراتيين، حيث تقع في بعض المرات مشاحنات ومضاربات بينها تتسبب ببعض الإصابات المؤسفة.
وهناك شبان مسحراتيون يتقنون "فنّ الإيقاظ" وإحياء شهر رمضان، بينما هناك آخرون لا يفكرون إلا فيما قد يدره عليهم من نقود من الناس، وهذه الفئة تكون عادة من العاطلين من العمل وينتظرون شهر رمضان للتكسب والاسترزاق من "صناعة" المسحراتي، ولذلك فهم لا يصرفون من جيوبهم شيئاً فثيابهم هي وقد اعتادوا على ارتدائها في أيامهم العادية، بينما المسحراتي الأصلي تراه لابساً ثياباً خاصة به تشبه ثياب الفولكلور والزيّ البلدي الشائع في كل بلد، ففي لبنان يرتدي عباءة وسترة رقيقة القماش ويعتمر طربوشاً مناسباً لرأسه.
ودرجت طريقة جديدة في لبنان لدعوة الناس إلى السحور، إذ تمرّ سيّارة تضع على سقفها مكبّرات الصوت وتصدح منها الأناشيد الدينية والإسلامية وكأنّ فرقة موسيقية بكاملها تعبر الطريق على مهل، وتتخذّ من بعض الأماكن محطات مؤقتة للوقوف ثمّ تكمل سيرها حتّى تنتهي من المنطقة المكلّفة بها.
وكما في لبنان كذلك في معظم الدول العربية، ينتظر الصائمون بفرح عارم، هذا المسحراتي الذي هو واحد منهم أحب أن يحيي شهر رمضان على طريقته بخدمتهم وإنعاش قلوبهم بالابتسامات، فضلاً عن اكتساب أجر رباني وتحصيل بعض النقود في نهاية هذا الشهر ممن يرغب في دفع المال له من الصائمين فيصرفها في شراء ثياب العيد الجديدة لأبنائه.
وقد يكون هذا المسحراتي شاباً وحيداً يجول الطرقات في الليل غير خائف من الظلمة، أو مجموعة من الشبان ترافقهم أدواتهم المتمثّلة بالطبل والدربكة والدفّ ويصدحون بالعبارات والكلمات التي تدعو الصائمين إلى اليقظة ومنها:" يا نايم وحّد الدايم"،" قوموا على سحوركم إجا رمضان يزوركم".
ولكن بعض هذه العبارات قد تخرج عن مفهوم شهر الرحمة والغفران عندما يلتقي هؤلاء الشبان بأحد أصدقائهم أو معارفهم العائد من السهر، أو عندما يصلون إلى تحت منازل أهلهم وأصحابهم، ويأخذون في الغناء وكأنّ هناك احتفالاً ما، ويسرع الأطفال إلى الشرفات لملاقاتهم بالابتسامات على الرغم من أنّهم سيتوجّهون في اليوم التالي إلى مدارسهم.
بدأت مهنة المسحراتي أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أصدر أمراً بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور، أما أول مسحراتي فعلى في مصر فكان «عتبة بن اسحق» والي مصر أيام الفتح الإسلامي وكان يخرج بنفسه في مدينة الفسطاط لتسحير الناس وهو يردد «يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة»، وإن كان «السحار» ظهر بسرعة في المجتمع الإسلامي فإن «التسحير» لم يصبح حرفة إلا في بغداد زمن الدولة العباسية حيث ابتكر البغداديون فن الحجازي وفن «القومة» وهما من فنون الأدب الشعبي والقومة بالتحديد كان مختصاً بالغناء في سحور رمضان وإن كان التاريخ لم يحفظ لنا منه إلا نماذج قليلة معظمها منسوب لصفي الدين الحلي وموضوعها التسبيح والابتهال، وكان سحار بغداد يستعين بمختلف الآلات الموسيقية في عمله، كما اختص بعض السحارين بمنزل الخليفة وأهل بيته وفي زمن الملك «الناصر» ظهر في مصر أول سحار محترف وهو «ابن نقظة» الذي اختص بتسحير الملك الناصر ثم خلفه ابنه في مهمته وحتى عهد قريب كان المؤذن في الريف يصعد المئذنة لتنبيه الناس إلى موعد السحور بالإضافة إلى المسحراتي التقليدي الذي يقرع «البازة» ـ وهي عبارة عن طبلة صغيرة ـ بقطعة من الجلد، مع نداء منغم على سكان الحي أو الشارع وذكر ألقابهم وأسماء أولادهم بكثير من المبالغة والمجاملة أملا في مكافأة يحصل عليها مع أول أيام عيد الفطر المبارك.
صحيح أن الأحوال تبدلت واختفى المسحراتي في كثير من الأحياء إلا أن بعض المناطق الشعبية والريفية ما زالت تحتفظ بمسحراتي يورث المهنة لأبنائه، وبعد أن كانت مكافأة المسحراتي عبارة عن «كعك العيد» أضيفت إليها النقود أيضاً.
ومهنة المسحراتي اتخذت بعداً فنياً على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي وفي عام 1964 انطلق مسحراتي الإذاعة وانتظره الساهرون بعد أن اعتادوا سماعه ومع انتشار التلفزيون أبدع «مكاوي» في مزج فن التسحير بالوعظ والإنشاد في حب الوطن وأضاف «حداد» بعداً سياسياً اجتماعياً إلى «التسحير» حينما قال «وكل حتة من بلدي حتة من كبدي.. حتة من موال.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال».
وبدأ المسحراتي الجوال فعلا في ترديد الأدعية كما يقول محمود أبو المكارم الذي ورث التسحير عن والده بحي امبابة والذي يمارسه الآن خلال الشهر الكريم.
«أبو المكارم» مسحراتي قارئ وداع قال إن أباه حكى له أن مسحراتي زمان كان ينشد القصائد التي يذكر بها النائم على أربع مرات في الأولى يقول «أيها النوام قوموا للفلاح واذكروا الله الذي أجرى الرياح.. إن جيش الليل قد ولى وراح وتدانى عسكر الصبح ولاح.. اشربوا عجلى فقد جاء الصباح»، وفي التذكير الثاني يقول «تسحروا رضي الله عنكم.. كلوا غفر الله لكم.. كلوا من الطيبات واعملوا الصالحات».
أما في التذكير الثالث فيقول: «يا مدبر الليالي والأيام يا خالق النور والظلام.. يا ملجأ الأنام ذا الجود والإكرام»، وفي المرة الرابعة ينادي «كلوا واشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح واذكروا الله في القعود والقيام وارغبوا إليه تعالى بالدعاء والثناء».
أما الآن فيكتفي المسحراتي بدق الطبلة قائلا: «يا عباد الله وحدوا الله» ويفرح الأطفال في الشارع وأغلبهم يحرص على السهر لمشاهدته وترديد كلماته.
* .. وفي لبنان.. مهنة موروثة أباً عن جد
* منهم من يوزع بيانات توضح أنه الطبال الوحيد المعترف به في منطقته
* عدته طبلة وعصا وجملة اليفة هي: «يا نائم وحد الدائم، يا نائم وحد الله».
حضوره جذاب محبب الى النفوس، فهو شخصية ترتبط بطقوس شهر رمضان المبارك لأن السحور سنة نبوية شريفة، لا يقتصر الهدف منها على دعم صمود الصائمين بتناول الطعام قبيل الامساك، بل يرمي الى احياء مناخ من الادعية والتسابيح تمهيداً لصلاة الفجر.
هو المسحراتي او (الطبال) في الثقافة الشعبية اللبنانية، لم يستطع منبه الساعة منافسته والغاءه ولم تغلبه مظاهر الحياة العصرية في لبنان، مع انها غيرت ابعاد حضوره الموروث من عصر المماليك والمستورد من مصر، حيث كان اغلب الذين يتولون هذه المهمة من المتصوفين والدراويش، وذلك طمعاً في الثواب والتقرب من الخالق عز وجل.
وغالباً ما يكون لكل حي، سواء في بيروت او بقية المناطق المسلمة والمختلطة الطوائف، طبال من ابنائه، يؤدي مهنة عائلية، يتوارثها اباً عن جد، في مقابل اكراميات او بعبارة ادق «عيديات» ينالها آخر ايام الشهر الفضيل او صبحية عيد الفطر. وقديماً كان يرتدي الجلباب البيروتي او «القمباز» والطربوش الاحمر. اما اليوم فالبعض يرتدي الدشداشة البيضاء، والبعض الآخر يكتفي بالزي العادي.
وتشكل الطرافة جزءاً لا يتجزأ من شخصية المسحراتي، اذ لا يكتفي ان يسير مع رفيقه وفانوسه ويقرع طبلته منادياً «قوموا على سحوركم خلوا النبي يزوركم»، او ان ينادي على كل شخص باسمه ليمنح مهمته مزيداً من الالفة، لا سيما في الاحياء القديمة حيث الناس يعرفون بعضهم، وانما يقرن دعوته للقيام الى السحور بعبارة طريفة وفق معطيات خاصة بأهل الحي. وأحياناً يعرف ان فلانا نومه ثقيل فيقف تحت نافذته وقتاً اطول ويصر على مناداته باسمه، مع اضافة لقب يستفزه حتى ينهض هذا الفلان، ويفهمه انه استفاق ولا لزوم للاصرار.
وقد يطيب لبعض الشباب تحويل فترة السحور الى وصلة تواشيح دينية وأدعية نبوية، لا سيما اذا كان صوت احدهم عذباً، حينها تنساب الانغام العفوية مع طبال وزمار ومنشد وكورس وتبرز المواهب، ويطل جمهور الفجر من النوافذ وعلى الشرفات. او قد ينزعج احدهم، فيصرخ طالباً من الشباب الصمت مذكراً اياهم بأن لديه عملاً في الصباح وعليه ان ينام ليتمكن من الاستيقاظ قبل ان يفوته الدوام، او ان ينبههم الى وجود مريض لا يجوز ازعاجه.
وكل مسحراتي غيور على ساحة نشاطه، يمنع اي دخيل من التطبيل فيها. ولا يتورع عن ردعه بالقوة اذا لم ينقض الامر باللطف والذوق والتفاهم. واحدث وسائل الذود عن حمى المسحراتي اعلان مكتوب يعلق على مداخل الابنية في المنطقة الجغرافية التي يجول فيها ويصول كل ليلة من ليالي الشهر الفضيل.
ففي منطقة فردان حرص المسحراتي على وضع بيان جاء فيه «انه الطبال الوحيد والمعترف به من قبل المسجد والعائلات في المنطقة»، ومؤكداً «انه لا يوجد طبال غيره» وطالباً الى الاهالي «ان يخرجوا الى شرفات منازلهم لدى قيامه بايقاظهم الى السحور»، مشدداً على «انه يقوم بمهنة ورثها عن اجداده».