الصّفر 0 Zero
أهميته :
لا شك أن ما يشهده الناس اليوم من تطور وثّاب في الحضارة المادية، قائم على
هذا الصفر السحري الذي سُهِّل به الترقيم والحساب، والذي يسّر الله تعالى
به طرق أبواب الفضاء، وسخره ليكون قلب التَّقانة الحديثة على اختلاف
أشكالها.
وظيفته الأصلية :
للصفر وظيفتان عظيمتان هما : الدلالة على معنى : لا شيء، وملء المنزلة
الخالية لحفظ ترتيب المنازل .
أصـله :
اختلف المؤرخون في أصل الصفر ومنبته : فرجح أكثرهم أنه هندي الأصل . كما أن
العلماء السابقين الذين تكلموا عن الأرقام الهندية والحساب الهندي، ذكروا
الصفر ضمن كلامهم في هذا المقام .
(وقد زعم البعض أن كلمة الصفر العربية تعريب لكلمة الصفر الهندية (Sunya
شونيا)، وليس هذا بشيء . يقال أن "الصفر بمعنى الخلو كلمة عربية أصيلة،
وُجدت من قبل الحساب الهندي، ومن قبل الإسلام.
ومال البعض إلى أن الصفر ربما كان من اختراع الإغريق أو الرومان، لأن جداول
بطليموس الفلكية (المجسطي) {التي كانت في القرن الثاني الميلادي} فيها
إشارة للصفر، كما أن بعض المخطوطات العربية في الحساب تتكلم عن الصفر
الرومي. إلا أن منهم من اقتصر على نسبة صورة الصفر الدائرية للإغريق دون
اختراع أصل الصفر، وذلك لأن الصفر من ابتكار الحضارة البابلية، وزعموا أن
الهنود أخذوا الشكل عن الإغريق. وذهب البعض كما في الفقرة السابقة - إلى أن
الصفر من صنع الحضارة البابلية: فالبابليون لم يستعملوا رمزا للصفر، لكنهم
تركوا مكانه فراغاً إلى أن كان آخر عهد الكَلدانيين - وهو من أصحاب الحضارة
البابلية أيضا - فجعلوا للصفر رمزا مميزا .
ورأى بعضهم انه من وضع عربي .
ومنهم من جنح إلى أنه صيني الأصل. لكن دُفع بأن الصينيين إنما اقتبسوا
الصفر من الهنود أو العرب .
ويبدو أن القول الأول هو الأسبه لاعتماد المتقدمين له، لأن الأقوال الأخرى
لا تستند إلى دليل مقنع.
الصفر والعلماء المسلمون
لم ينس الذين نسبوا الصفر لغير المسلمين، أن ينوِّهوا بدور المسلمين الرائد
في تمكين وتوسيع استعماله، قال الدكتور أحمد سليم سعيدان : "إن العرب لم
يبتكروا فكرة الصفر ولا شكله، وإنما أخذوهما مع الحساب الهندي، فإن لم يكن
لهم فضل في هذا الصدد فلعل فضلهم في ترسيخ استعمال الصفر ليملأ المنزلة
الخالية في كل حال بلا استثناء" .
الحضارة الإنسانية لم يكن في مقدورها أن تتطور وتصل إلى ما وصلت إليه من
تقدم ازدهار بدون الأرقام العربية، فهي القاعدة الأصلية للعمليات الرياضية
وللتقدم العلمي في المجالات الهندسية والاختراعات التقنية، كما أن استعمال
الصفر والاستفادة منه وتطويعه من قبل علماء المسلمين يعتبر أعظم ابتكار
وصلت إليه البشرية، ومن دونه لما تمكن الإنسان أن يفرق بين مواقع الأرقام،
فالرقم العربي بعد ابتكار الصفر أصبح له قيمتان، قيمة مع نفسه أي أنه يمثل
العدد المرسوم والمدون، وقيمة أخرى بالنسبة إلى المنزلة التي يقع فيها، أي
موقعه بالنسبة للخانات الحسابية، أما الصفر فيملأ الفراغ من المنازل
الخالية من الأرقام وهو الذي يعين المرتبة العددية للرقم، والخانة
المتواجدة فيها الصفر تعني أنها فارغة من أي رقم حسابي .
شـكله :
ذكر اليعقوبي {وهو أقدم من كتب في هذا الأمر مما وصل إلينا}، والإقليدسي،
والبيروني، وكوشيار، وجمشيد، في معرض حديثهم عن أرقام الهند وحسابه أن
الصفر دائرة (دائرة أو حلقة) صغيرة. وكذلك ذكر ابن الياسمين الفاسي، وإبن
البناء المراكشي عند حديثهم عن أرقام وحساب الغبار .
قال الدكتور أحمد سليم سعيدان : "ومع مجموعتي المشرق والمغرب على السواء
إشارة للصفر، هي دائرة صغيرة قد تتخذ الشكل (O)،
وقد يصغرها الحاسب حتى تبدو كأنها نقطة(
o
) . . . ثم إن المخطوطات الكثيرة في الحساب
الهندي، كلها تجمع على كتابة الصفر بشكل دائري، إلا المتأخرة منها فتكتب
الخمسة على شكل دائرة وتجعل الصفر نقطة، يستثنى من هذا التعميم بعض كتب
حساب اليد . . . وفي هذه الكتب نجد الصفر دائرة أصغر من المألوف وأقرب إلى
شكل النقطة . . والجدير بالذكر أن التقليد الهندي لكتابة الأرقام كان يقتضي
أن يوضع خط فوق الرقم، وعلى هذا تكون الصورة الكاملة للصفر هي ذاتها الصورة
الإغريقية (0) . { لذا نرجح أن شكل هذا الصفر
دخيل على الترقيم الإغريقي، وأن أصله هو الصفر الهندي نفسه . . . أما في
الحساب الهندي فأخذوا يتخلون عن فكرة وضع خط فوق الرقم أو العدد، فبقي
الصفر دارة صغيرة، وفي المشرق أخذت هذه الدارة تصغر حتى صارت نقطة} .
(لكن جاء في تاريخ العلوم عند العرب للدكتور فروخ أن الصفر رُسم نقطة في
كتب عربية ألفت منذ سنة
274
هجرية (787م.).
وفي الموجز في التراث العلمي العربي الإسلامي، والمدخل إلى تاريخ الرياضيات
عند العرب والمسلمين : "أن المسلمين لما اكتشفوا - أو طوَّروا - الصفر
عبّروا عنه بدائرة منقوطة الوسط، ثم اختار المشارقة مركز الدائرة وهو
النقطة، واختار المغاربة الدائرة دون مركزها. وذكر الدكتور بخاري في كتابه
الأرقام العربية أنه وُجد في الصين في أوائل القرن الثامن الميلادي، وفي
كمبوديا في أوائل القرن السابع الميلادي التعبير عن الصفر بالنقطة، وكذلك
وجد في الأدب الهندي القديم. كما نحب أن نشير هنا إلى أن نسخة مكتبة غازي
خسرو بيك بسراييفو من رسالة أبي الحسن علي بن محمد الاندلسي المعروف
بالقَلْصادي - نزيل باجة إفريقية - في الحساب، التي سماها: (كشف الأستار عن
علم حروف الغبار)، رسمت فيها الأرقام على الطريقة المشرقية - مع أن البعض
زعم أن القَلْصادي استعمل الأرقام الغبارية.
ينظر : مشكلة الأرقام لعبد الستار فراج - . والذي نريده هنا أن القَلْصادي
لما ذكر الصفر في الصفحة الأولى من الرسالة المذكورة قال : "وهي نقطة
صغيرة"، فهذا قد يستدل به على أن القَلْصادي رسم الأرقام على الطريقة
المشرقية ولم يكن ذلك من تصرف النساخ . والله أعلم . هذا ، ولينظر الفهرست
لابن النديم") .
هل يُعد الصفر رقماً :
اعتبر المؤرخون والحسّابون العرب {حتى عصر متاخر} الأرقام تسعة أحرف فقط .
ويوردون الصفر على أنه إشارة لملء المنزلة الخالية، ولا يعدونه رقماً. وقد
صرح ابن الياسمين الفاسي بذلك في قوله: "لأن الصفر ليس بعدد، وإنما يدلك
على ما بعده إذا كانت المنزلة فارغة" . والله أعلم .
منازل الأرقام :
لقد رتب العرب منازل الأرقام، فالخانة الأولى للأعداد هي خانة الآحاد يليها
بعد ذلك خانة العشرات ثم خانة المئات . . . وهلم جرا . . . فإذا أردنا أن
نكتب
105
فإننا نضع الخمسة في خانة الآحاد والواحد في خانة المئات وتحديد موقع العدد(1)
بالنسبة للخمسة
(5)
لا يتم إلا عن طريق وضع الصفر فيما بين الرقمين، أي أن خانة العشرات خالية
من أي رقم فوضع الصفر فيها هو ملء الفراغ الذي يعني "لا شيء"، وكذلك إذا
أردنا كتابة
1005
فإن موقع الواحد ينتقل إلى خانة الألف ويملأ الفراغ الناتج بصفر في خانة
المئات وصفر آخر في خانة العشرات وتبقى الخمسة
(5)
في خانة الآحاد .
والواقع أن الأرقام العربية مع سهولتها وتطورها ومزاياها العديدة إلا أنها
لم تستعمل بانتشار واسع في أوروبا إلا في القرن السادس عشر الميلادي لعدة
أسباب أهمها التعصب للأرقام الرومانية التي كانت تمثل السلطة الدينية
المرتبطة بالكنيسة، كما أن القسم الأكبر من الناس لم يتمكن من أن يستوعبها
الاستيعاب الصحيح وخاصة بالنسبة (للصفر)، فهو بالنسبة لهم سرّ غامض أتى
إليهم من المشرق لا معنى له بمفرده لأنه لا شيء ، ولكنه في نفس الوقت لديه
القوة السحرية لأن ينقل رقم بالنسبة لموقعه من الواحد إلى العشرة أو المائة
أو الألف وفي نفس الوقت في إمكانه أن يتعامل مع عمليات الحساب جميعها
كالجمع والطرح والضرب والقسمة . . . إلخ .
حديث الساعة :
لقد بقى الصفر حديث الساعة وموضوعها للجدل لدى الأوروبين في القرن السادس
عشر ولم يتمكنوا من فهمه إلا بعد جهد كبير، وتقول المستشرقة الألمانية
زيغريد هونكه في كتابها "شمس العرب تستطع على الغرب" : "وكان تفهم الناس
لمعنى الخانات وقيمة الأرقام في العشرات والمئات أكبر مشكلة واجهت الراغبين
في تعلم الأرقام العربية ، وركزت عشرات من كتب الحساب مجهودها في إفهام
الناس معنى الخانات وطرق استخدام تلك الأرقام" .
ويتحدث هذا الكتاب عن منظومة ألمانية من شعر العصور الوسطى تبين أهمية موقع
الصفر بالنسبة للأرقام العربية وتبين كذلك الصعوبة التي واجهها الناس في
تلك الفترة، حتى تحفّظ إليهم في منظومة شعرية تذكرهم بطريقة الترقيم
العربية الجديدة التي جاءت إليهم من بلاد المشرق، وقد سُجلت المنظومة
الشعرية الألمانية على النحو التالي :
الأرقام تســــعة فاحترس |
تنطق كلـــــــها دون لبس |
ولكن انتبــــــــــه |
أيضا لي
أنا الصـفر لا ينطق بي |
دائرة مستديرة متكاملــــة
|
في قيمة في المـعـــامـــلة |
إن أضفتني إلى يمنى عــدد |
أصبح
عشرة أمثــــــــاله |
وبي تستطيع الترقـــــيم |
فتتضح الأعداد وتستقــــــيم |
* (لاحظ المقطع "دائرة مستديرة متكاملة" يوضح كتابة الأرقام بشكل الصفر
على دائرة، وهذا يعني الأرقام العربية الغبارية) .
ويتحدث نفس الكتاب عن الصفر في تعليق منقول عن ترجمة لكتاب الخوارزمي
باللغة اللاتينية وُجِد في دير سالم ويرجع تاريخه إلى عام
1200
ميلادية فيقول : (إن الله يتمثل في ذلك الصفر الذي لا نهاية له ولا بداية .
وكما لا يمكن للصفر أن يتضاعف أو يقسم، كذلك الله لا يزيد ولا ينقص. وكما
أن الصفر يجعل من الواحد الصحيح عشرة، إن وُضع على يمينه، كذلك فإن الله
يضاعف كل شيء آلاف المرات، والواقع أنه يخلق كل شيء من العدم ويبقيه
ويسيره) .
استقامة الأرقام :
إن الحقيقة التاريخية المؤكدة هي أن علم الأرقام والأعداد والحساب
والرياضيات لم ينهض بمستوى علمي معقول متميز فعال إلا على أكتاف علماء
المسلمين، في حوالي القرن الثاني الهجري، حيث تمكنوا من إخراج الأرقام
والأعداد من نطاق محدود ضيق، إلى أفق واسع متطور، ارتبط بعلم الحساب والجبر
والهندسة، وأن المسلمين إبان نهضتهم قد وضعوا مفهوم الصفر الذي هو في
الواقع أعظم ابتكار عرفته الإنسانية، وأسست عليه علومها، وتقدمها، وحضارتها
الحديثة.
لقد غير إدخال الصفر على الأرقام العربية المفاهيم البالية، وجعل الأرقام
تستقيم في مواقعها الصحيحة بسهولة ويسر دون لبس أو تعقيد، والواقع أن الصفر
بالنسبة لنا الآن أصبح أمرا سهلا، لا يحتاج إلى تفكير أو عناء، لأننا
نتعلمه ونحن أطفال، لكن الوضع كان مختلفا عند ابتكاره وفي بداية استعماله،
إذ إنه كان في ذلك الوقت صعب الفهم والاستعمال، ويمكن للمرء الآن أن يتصور
كيف ستسير الأمور دون استعمال الصفر، كما أن إدخال الصفر في المعادلات
الجبرية العربية قد فتح مجالا وآفاقا جديدة أمام علماء ذلك العصر، لم تكن
معروفة قبل ذلك الحين.
لقد استعمل العرب كلمة الصفر للدائرة التي تملأ الفراغ بين الأرقام
العربية، وفي نفس الوقت تعني "لا شيء"، وقد أخذ كثير من الشعوب تسمية الصفر
من العربية، فالأسبان يسمون الصفر "ثيرو"، والإنجليز والفرنسيين يسمونه "زيرو"
أو "صايفر"، وفي اللغة الإيطالية اسمه "زفرو"، ولكن الألمان سموا الصفر
"زفر" .
الفكر . . . كائن ينمو :
يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان في مقدمة كتابه عن تراث العرب العلمي في
الرياضيات والفلك : (فالتراث الذي خلفه الأقدمون والانقلابات التي تتابعت
هي التي أوصلت الإنسان إلى ما وصل إليه، وجهود فرد أو جماعة في ميادين
المعرفة تمهد السبيل لظهور جهود جديدة، من أفراد أو جماعات أخرى، ولولا ذلك
لما تقدم الإنسان، ولما تطورت المدنيات، ذلك لأن الفكر البشري يجب أن ينظر
إليه ككائن ينمو ويتطور، فأجزاء منه تقوم بأدوار معينة في أوقات خاصة، تمهد
لأدوار أخرى معينة)
ويتابع الأستاذ قدري فيقول: (فاليونان - الإغريق – مثلا قاموا بدورهم في
الفلسفة والعلوم، وكان هذا الدور الذي قام به العرب، وهو الدور الذي مهد
الأذهان والعقول للأدوار التي قام بها الغربيون فيما بعد، وما كان لأحد
منهم أن يسبق الآخر، بل إن الفرد أو الجماعة كانت تأخذ عن غيرها ممن
تقدمها، وتزيد عليه، فوجود ابن الهيثم، وجابر بن حيان لبدأ "غاليليو" من
حيث بدأ جابر، وعلى هذا يمكن القول : لولا جهود العرب لبدات النهضة
الأوروبية في القرن الرابع عشر، من النقطة التي بدأ منها العرب نهضتهم
العلمية في القرن الثامن الميلادي) .
العدد صفر :
يعد الصّفر أوّل الأعداد وأكثرها تبسيطا وأشدها شهرة ودهشة واستعمالا
وأهميّة وروعة . وفي الحقيقة، يمتاز هذا العدد بمزايا خاصّة استثنائيّة لا
يتمتّع بها أيّ عدد آخر، إذ بعد انتهاء العدد تسعة، تستعين الأعداد بالصّفر
من أجل دورة جديدة، وحين يصل العدّ إلى التّسعة عشر، يتدخّل واحد ثان مع
الصّفر، من أجل ابتداء دورة جديدة ثانية. من هنا، الصّفر بعد أزليّ، وهو
أساس الخلق، والسّر الذي ترتكز عليه كل الأعداد، وإليه تعود في النهاية
لتتنامى وتعظم. لذلك يرمز الصّفر إلى الاستمرارية، منه يبتديء كل شيء، وفيه
ينتهي كل شيء، ويستحيل على الأعداد الاستمرار من دونه .
الصّفر في أوروبا
في إيطاليا، أدخل الخبير ليوناردو دو بيز (Leonarde
De Pese)
<1170-
1250>م.
الصّفر تحت اسم
(Zephirum)،
واستعملته إيطاليا حتى القرن الخامس عشر، ثمّ تبدّل الاسم إلى
(Zephiro)،
وتحوّلت اللفظة إلى
(Zero)
ابتداء من العام
1491م.
. وفي فرنسا، تحوّلت اللفظة من
(Cifre)
إلى
(Zero)
ثمّ إلى
(Chiffre)
. وفي ألمانيا، تبدّلت من
(Ziffer)
أو
(Ziffra)،
واليوم تستعمل
(Die
null)
. وفي إنكلترا استعملت لفظة
(Cipher)،
وحلّت محلّها لاحقا لفظة
(Zero)
. وفي البرتغال، تعني لفظة
(Cifra)
الصّفر بمعنى
(Zero)
. وفي أسبانيا، تحمل
(Cifra)
معنى
(Chiffre)،
كما تعني لفظة
(Cero)
الصّفر أي
(Zero)
.
|