فأول ذكر لنفوسة في الخطاب التاريخي يعود إلى الإخبار عن احتلال مدينة
طرابلس من قبل عمرو بن العاص في أواسط القرن السابع الميلادي. فابن عداري
المراكشي هو أول من تحدث عن استنجاد سكان طرابلس بقبيلة نفوسة أثناء حصارها
من قبل الفاتح عمرو بن العاص في سنة
22
للهجرة. وقد نقل نفس الخبر عن مصادر سابقة له الرحالة التيجاني وذلك بقوله
لدى وصفه لزيارة طرابلس "وكان افتتاح طرابلس في القديم على يد عمرو بن
العاص رحمه الله تعالى ورضي عنه وذلك في سنة اثنين وعشرين، سار إليها في
جيشه فنزل على شرفها في الجهة الشرقية وأقام عليها شهرا لا يقدر منهم على
شيء وقد كانوا استعانوا بقبيلة من البربر يعرفون بنفوسة "(الرحلة ص:
239).
وهو ما دفع بعمرو بن العاص إلى تجنيد فرقة من الفرسان للغارة على مدينة
صبره أو صبراتة للانتقام من النفوسيين. وهي إشارة تدفعنا إلى التساؤل عن
علاقة النفوسيين بمدينة صبراتة الشاطئية. فبعض المؤرخين الأوائل يعتبرون
منطقة جفرة الواقعة في غرب طرابلس والتي تمتد من الجبل إلى الشاطيء من
المجال الترابي النفوسي وهو ما يفسر كذلك وصف ابن خلدون لمدينة صبراتة
بمدينة نفوسة أو بعاصمتها وهو نفس الوصف الذي استخدمه الباشا الباروني في
بداية هذا القرن. ونجد أصداء لهذا الامتداد المجالي لقبيلة نفوسة في
الذاكرة السلالية لبعض القبائل المستعربة في المنطقة والتي ترجع بأصولها
إلى قبيلة نفوسة، وكذا في إشارة ضمنها ابراهيم بن الحاج عيسى كتابه حول
حياة الباشا "سليمان الباروني" إذ يقول هذا الأخير: "كما تلف مفتاح مدينة
زواغة (صبرة) عاصمة الجبل على البحر في اعصر مضت، فإنها كانت عند عائلة في
فسطاو من قبيلة اولاد السلطان كان جدهم حارس باب المدينة وكان هو آخر من
انتقل من زواغة إلى الجبل على ما يقال، وهي من حديد جميلة الشكل والصنع"
(ص.32
).
عموما يمكن تقسيم التاريخ الإسلامي لنفوسة إلى مرحلتين: مرحلة الطموح
السياسي لبناء إمارة ومرحلة الكتمان أو الاكتفاء بالدفاع الذاتي من أجل
الحفاظ على الاستقلال السياسي والمذهبي داخل حدودها الضيقة. تبتدئ المرحلة
الأولى للأمازيغ الخوارج، اعتنقت أغلب القبائل الامازيغبة المنتشرة ببرقة
وبطرابلس ومن بينها نفوسة المذهب الخارجي وولوا على رأسهم أبا الخطاب عبد
الأعلى بن سماح المعافري وعينوه أمير للدفاع وللدعوة. ويعتبر أبا الخطاب من
بين خملة العلم الخمسة الذين دخلوا المغرب لنشر المذهب والدعوة إلى تأسيس
إمارات غير قرشية والتحريض على الخروج على ولاة بني أمية لان خرجوا عن
الإطار الديني للإمامة. وتمكنت هده القبائل بفعل تماسكها المذهبي ونسق
تحالفاتها المحلية الممتدة في التاريخ ما قبل الإسلامي وبالضبط إلى مرحلة
الغزو الروماني الالتفاف حول أبي الخطاب والقيام بتأسيس أول إمارة إباضية
بالمنطقة وذلك في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة. فبسطت نفوذها على
المنطقة الممتدة من الحدود الشرقية للجزائر إلى التخوم العربية لمصر واتخذت
مدينة طرابلس عاصمة لها وهذا ما يكشف عن الدور الذي لعبته القبائل
الامازيغية الليبية وخاصة نفوسة في تشكيل هذه الإمارة. لكن بعد أربع سنوات
فقط من تأسيسها، نجح الجيش العباسي برئاسة محمد بن الاشعت الخزاعي من وضع
حد لها بعد هزيمة قاسية بمعركة الخطاب. وقد كان لهذه المعركة وقع كبير في
نفوس الاباظيين وعملت على التفعيل في غرس البذور الأولى لتكون أول مدرسة
تاريخية إباظية بالشمال الإفريقي استهدفت أساسا إدماج قاعدتها الإجتماعية
المتمثلة في الأمازيغ داخل المنظومة الخطابية الدينية والذي وضع أسسها هو
ابن سلام الإباظي وقد كتب مؤلفه الهام مباشرة بعد الهزيمة. ورغم جسامة
الخسائر المادية والبشرية فلم تأن من عزيمة الحركات الإباظية الأمازيغية،
فانتظمت من جديد وراء إمام آخر هو أبو حاتم المزوزي أعلنت تأسيس إمارة
إباظية بطرابلس لكنها وكسابقتها لم تتوفر على المجهود الكافي والإمكانيات
الأساسية للصمود أمام الاستعداد الذي أبداه العباسيون للسيطرة على الطرق
المؤدية إلى القيروان مقر إقامة خلفائهم بإفريقية. فتمكنوا بعد معارك
متواصلة من القضاء النهائي على التشكيلات السياسية للإباظيين بمنطقة طرابلس
وذلك سنة
155
للهجرة. ولم تجد القبائل المتمسكة بمبادئ مذهبها غير النزوح إلى المناطق
الهامشية بالجبل وبالصحراء الليبية أو بالمناطق البعيدة في المغرب الأوسط.
وقد كان هذا النزوح وراء هذا الاستقرار النهائي للقبائل الامازيغية ببعض
المناطق كجبل نفوسة مثلا والقيام بتأسيس إمارات مستقلة تميزت منها عل
الخصوص إمارات الجبل، وإمارة بنو الخطاب بزويلة وإمارة الرسطميين بتاهارت.
ونظرا لموقع نفوسة الاستراتيجي المشرف على الطريق الساحلية الرابطة بين
الشرق وافريقية ومراقبتها لما يجري بطرابلس الغرب، فقد كانت تقوم بين
الفينة والأخرى بدعم بعض الدول أو الأسر للحفاظ على مكانتها أو دعم
محاولتها للوصول إلى الحكم.
وهكذا وبعد أن ساندوا واعترفوا بالشرعية الدينية للإمارة الرستمية بتاهرت
بوسط الجزائر (777-909
للميلاد) ويدل على هذا كثر العلماء بالبلاط الرستمي والذي يشكل استمرارا
للتحالف الأصلي بين كل القبائل والفئات الإباظية، سارعوا بالانظمام إلى
التحالف المحلي للإطاحة بحكم العباس بن طولون على طرابلس التي سيطر عليها
بعد انشقاقه عن أبيه القائم بأمر القيروان وذلك سنة
267
للهجرة. وقد كان على رأس نفوسة في ذلك الوقت الأمير أبي منصور إلياس الذي
شهد له المؤرخون كابن خلدون وابن الأثير على درجة من التعفف والزهد جعلته
يأمر جنوده أن لا يغنموا شيئا من أموال عباس بعد اندحاره. وقد كان لموقعهم
الاستراتيجي كذلك وتمسكهم بتمييزهم المذهبي عن الارتدوكسيا المالكية
المهيمنة دور في تعرضهم المستمر لهجمات متكررة من الدول المتعاقبة على
الحكم بافريقية. وقد سجل التاريخ مجموعة منها، رغم نجاحها النسبي في كسر
شوكة النفوسيين إلا أنها لم تستطع أن تزعزع البنى الإجتماعية والمذهبية
التي يقوم عليها اساسهم المجتمعي والديني. هكذا تعرضوا في نهاية القرن
التاسع الميلادي لحملات أغالبة الذين حاولوا بإضعافهم لقوة النفوسيين الحد
من تطور الانتشار المجالي والسياسي للرستميين واهم هذه المعارك معركة مانو
التي مني فيها النفوسيين سنة
283-897
بهزيمة قاسية مازالت الذاكرة الشفوية تحتفظ بآثارها السلبية وهول الفاجعة.
وقد سار على نفس المنوال أسياد أفريقية الجدد أخص الفاطميون الذين دخلوا في
صراع مع النفوسيين. وتورد أحد الإخباريات المحلية أن المعز لدين الله
الفاطمي قال لاحد الأئمة القائمين عليه بتونس وذلك في أيام الأمير ابي
زكريا النفوسي: "تعالوا لنصطلح ليبقى لكم الأمر فيما بين تيهرت والجريد
والجبل كما كنتم في مدة بني رستم ملوككم ويبقى لنا شطر البحر". وقد حدث هذا
بعد أن حاول العبيديون اكثر من مرة إخضاع الجبل ولم يفلحوا في ذلك، وقد
شارك النفوسييون في الثورة الكارثية التي قادها أبو يزيد المخلد بن كيداد
اليفرني ضد الفاطميين التي انتهت بالفشل وكانت وراء انتقامات متوالية التي
خلفت دمار اهم المراكز العمرانية بالجبل الذي يشكله شروس ووضعت بذلك النقطة
النهائية للطموحات الخارجية لتشكيل امامة للمسلمين أرغمتهم على التموقع في
حلقات سياسية ودينية مستقلة على هامش الدولة المسيطرة على التاريخ السياسي
لشمال افريقيا. واكتفوا أخيرا بمساندة الحركات التي يرون فائدة في تحكمها
على مدينة طرابلس كما وقع مع الأسرة الامازيغية االزناتية بنو حزروم التي
كانت للنفوسيين اليد الطولى في قيامها لمدة تناهز القرن
(1000-1095).
بعد تشكيل الدولة الموحدية، استطاع ضم المنطقة الطرابلسية إلى نفوذهم. إلا
أن رغبة بنو غانية لاسترجاع المجد المرابطي وإعلانهم الثورة بتحالف مع إحدى
بطون القبائل العربية النازحة إلى افريقيا وهي بنو دباب حول المجال الترابي
لنفوسة إلى مسرح للعمليات أتت على الأخضر واليابس ودام اكثر من نصف قرن
بداية من
580/1184.
وهو ما اضطر معه النفوسيين من الاستقرار نهائيا في موقعهم الحالي بالجبل
والاكتفاء بالحفاظ على استقلالهم السياسي والمذهبي والرد على كل المحاولات
الخارجية التي تستهدف ضمهم إلى منطقة نفوذها. ولعل آخرها ثورة الشيخ غمة بن
خليفة في أواسط القرن التاسع عشر ضد الأتراك بعد أن قاموا، وفي إطار
سياستهم للحفاظ على سيطرتهم على برقة وطرابلس كورقة ضمن ما سمي آنذاك
بالمسألة الشرقية ببسط الإدارة المباشرة على ليبيا بعد حكم القرامنلة. إلا
أن كل الأحداث التي شارك فيها الباشا في بداية القرن بدأ بتمثيليته للجبل
الغربي في البرلمان العثماني ودفاعه عن انتماء المنطقة الطرابلسية رغم
اختلاف الأسس المذهبية، إلى حين الإعلان عن الجمهورية الطرابلسية في سنة
1919
بعد التغيرات الجذرية التي عرفها المشهد السياسي التركي قد توحي بأن نفوسة،
رغم احتفاظها بالاستقلال فيما يتعلق بتدبير شأنها الاجتماعي والمذهبي كانت
تعترف بالشرعية السياسية لباب العالي.