المالكية
يترك الزائر مدينة القامشلي متجهاً نحو الشرق، فإذا قطع ثلاثين كيلو متراً
وجد نفسه يصعد في منطقة جبلية قليلة الارتفاع تتخللها هضاب وسهول ووهاد،
وكثير من مجال المياه والسهول. فهو أبداً في صعود هيّن أو انحدار خفيف حتى
يصل مدينة المالكية ثم يتركها بعد أن يمر من مركزها باتجاه الشمال. وتتعاقب
المشاهد فيظل مأخوذاً بها حتى يبلغ عين ديوار في أقصى الشمال، هذه القرية
الصغيرة التي شهدت الكسوف الكلي الأخير للشمس واستقطبت اهتماماً إعلاميا
كبيراً إذ استضافت أشهر علماء الفلك في العالم. كما وتعتبر مركزاً سياحياً
يقصدها خلق كثير في فصل الربيع.
تقع مدينة المالكية في أقصى الشمال الشرقي من سوريا في محافظة الحسكة التي
تعرف بالجزيرة، في منطقة مرتفعة نسبياً تبعد عن العاصمة دمشق حوالي ألف
كيلو متر. فيما تفصلها حوالي ست كيلو مترات عن الحدود التركية، ونحو ثمانية
عشر كيلو متراً عن الحدود العراقية.
تطل المالكية على نهر دجلة ويشمخ من ورائها جبل جودي في تركيا بقمته
الشاهقة التي وقفت عليه سفينة سيدنا نوح أبو البشر.
ويفصل نهر دجلة – الذي يمر في واد عميق – بين سوريا من جهة وتركيا والعراق
من جهة أخرى وذلك على امتداد خمسين كيلو متراً تقريباً.
في العام
1928
أصبحت هذه المدينة ضمن الأراضي السورية بعد أن تم تخطيط الحدود بين سوريا
وتركيا وتعرف هذه المدينة باسم " ديريك "، وهناك وجهتا نظر لتسمية هذه
المدينة بهذا الاسم:
الأولى
نسبة إلى الكنيسة القديمة (الدير)، إلا إنه يوجد شك حول هذه التسمية لأن
الكنيسة القديمة كانت في الأصل مسجداً قبل الاحتلال الفرنسي الذي حولها إلى
كنيسة.
أما الثانية فترجع إلى أن المدينة كانت منطقة مستنقعات لذا كان هناك
طريقان يحوطان بالقرية للوصول إليها، أي ما يسمى باللغة الكردية أي
الطريقان. ومن هنا جاءت التسمية للقرية التي تطورت فيما بعد إلى مدينة دريك
أو ديريك. و في عام
1936
جعلت مركزاً للقضاء، إلا أنها سميت بالمالكية نسبة إلى العقيد الراحل عدنان
المالكي. ومن ذلك التاريخ أخذت تنمو وتتسع ودبّ فيها النشاط.
تتميز المالكية ببعض مبانيها القديمة: دار الحكومة (السرايا) وهي الآن مركز
لمديرية المنطقة، الكنيسة القديمة، الجامع القديم. وما زالت آثار الثكنة
الفرنسية باقية وشاهدة على دخول الفرنسيين المدينة وحكمها طوال أعوام
احتلالهم ما بين
1920
و
1946.
ولعل أشهر ما يميز هذه المدينة عن غيرها وجود البترول بمنطقتها المسماة
الرميلان و كراتشوك، والغاز في السويدية، إضافة إلى جسرها الشهير المسمى
جسر الرومان.
بين المالكية وعين ديوار اثنا عشر كيلو متراً. والطريق بينهما يجتاز سهلاً
غصباً ينتهي في الشمال عند عين ديوار وهي تشرف على واد بعيد الغور يمر فيه
نهر دجلة متعرجاً ملتوياً.الطريق من عين ديوار إلى النهر شديد الانحدار وفي
ذلك الوادي مياه تنبع من الأراضي التركية تعرف بنهر السقلان وتصب في دجلة
وما يزال الطريق بين صعود وهبوط إلى أن يبلغ أخيراً ضفة دجلة، حيث الجسر
الأثري المعروف بجسر دجلة أو جسر عين ديوار أو جسر الرومان. وهي عبارة عن
قنطرة يقدّر ارتفاعها بخمسة عشر متراً وترى ورائها وسط النهر بقايا قنطرتين
أخريين يستدل منهما على أن الجسر كان يقوم على ثلاث قناطر كبيرة تصل بين
الضفتين، والقنطرة الباقية ما تزال سليمة لم يتزحزح حجر واحد عن موضعها،
وقد بنيت بغاية الإحكام بحجارة منحوتة دقيقة مستطيلة صفت في خطوط متوازية
منظمة.
البناء مؤلف من ركيزتين قويتين بعرض عشرة أمتار وارتفاع ثلاث أمتار
تقريباً، وتقوم القنطرة على هاتين الركيزتين بشكل نصف دائرة بيضاوية. إلى
جانب كل من الركيزتين دعامة قوية مبنية بحجارة ضخمة. الدعامة الشمالية
تهدّم معظمها أما التي على الشاطئ فارتفاعها نحو خمسة أمتار وهي على شكل
مضلع ذي ثمانية سطوح مبني بحجارة سوداء وفي أعلى كل من هذه السطوح صورة من
صور الأبراج الفلكية نقشت على حجارة بيضاء وكتب على كل برج اسمه بالعربية
وبعض هذه الصور والأسماء ما زالت ظاهرة. وشاهدنا على إحداها كلمة الأسد
وتحتها صورة الأسد وعلى أخرى كلمة الحوت وتحتها سمكتان.
تعاقبت الأيام وكرت السنون وقنطرة عين ديوار ثابتة مكانها لا تتزحزح رأت
قيام الدول ثم سقوطها وشهدت الجيوش الغازية تمر فوقها إلى بلاد الفتوح ثم
عاينت فلوها تعود أدراجها مطوية الأعلام مقهورة. ولكن ما يحز في النفس أن
تاريخ هذا الجسر غير معروف وكذلك العهد الذي يرجع إليه. ويرى البعض أن
الجسر من بناء السلجوقيين، وجاء في كتاب المنجد في الأدب والعلوم إنه من
مخلفات الساسانيين ومهما يكن فالبناء في جملته تحفة من تحف الفن المعماري.
المالكية كثيرة الأمطار والمعدل السنوي فيها يزيد كثيراً على
500
مم، لذلك فهي تعتبر من أغنى مناطق الجزيرة بالمياه الجوفية. كما تتميز
بتربة بركانية عميقة كثيرة الخصب وتكثر فيها المروج الطبيعية التي تنمو في
فصل الربيع بحيث تبلغ المتر في بعض الأماكن. ومما يذكر أن أكثر أراضي
المنطقة طينية ولزجة غير قابلة للنفوذ. ولذلك تبقى الرطوبة في الطبقات
السطحية فتصاب مزروعاتها الشتوية في السنين كثرة الأمطار بما يعرف بـ
"الغرق" وسببه تشبع التربة بالرطوبة وبقاء الماء راكداً فوق سطحها، وما
يحول دون نمو الجذور ونفاذ الهواء إليها مع شدة حاجتها إليه. كما إن بقاء
الجذور وفروعها الدقيقة مغمورة بالماء مدة طويلة يعرضها للتعفن و الاهتراء،
فيصاب النبات بالضعف والاصفرار ويقل محصوله نتيجة ذلك. ولهذا نجد أن
مزروعات المالكية تجود في سنوات الجفاف والمحل وتجب في سنوات الرطوبة
والخصب.
مناخ المالكية حار صيفاً – كباقي أرجاء الجزيرة وبارد شتاءاً لارتفاع
المنطقة وقربها من الجبال التركية المكسوة بالثلوج في هذا الفصل.
ويعرف عن مزارعيها إقبالهم على زراعة الأشجار والمشمش والخوخ بأنواعه
والقطن والحبوب. وقد أقيم الكثير من المشاريع الزراعية وحفر الآبار
الارتوازية بكثافة. وتعتبر المدينة بما فيها من مياه ومرتفعات ووديان من
أصلح البقاع لتربية المواشي.
يسود نمط الحياة الريفية في المالكية ولا شك إن الرابطة الأسرية المتينة هي
السائدة وحدها تقريباً ولا وجود للنزعات الفردية. إن الرجل في هذه المنطقة
لا يعيش من أجل نفسه، فهو يركز جميع قواه العاطفية والفكرية على عائلته
الخاصة كما يميز سكان المالكية بفئاتهم المختلفة من أكراد وسريان وأشور
وكلدان وبإفراطهم في الكرم إذ يحتل الضيف المكانة الأولى في المنزل. كما
وينتشر الزواج المبكر في المنطقة ويغلب الطابع الحديث على طقوس الزواج في
المدينة. أما في الريف فيسود الطابع التقليدي الذي يختلف من فئة على أخرى.
تبدأ المراحل الأولى باتفاق العروسين ثم الخطبة. وبعدها عقد الزواج والزفاف
الذي تقام فيه الرقصات والدبكات والأغاني والأهازيج ابتهاجاً واحتفالاً
بالعروسين.
ومن الأفراح الأخرى عيد النيروز في
21
آذار الذي يحتفل الناس به بالخروج إلى الطبيعة وعيد البربيطة وعيد العمال
بالإضافة إلى الأعياد الدينية إذ يستقبلون الحجاج بتزيين مداخل بيوتهم
بأغصان الأشجار والعبارات الدينية كما تنحر الذبائح وتقام الاحتفالات.
|