السلام
(سلم) من الآفات
ونحوها أي برئ .. و(أسلم) أي انقاد، وتطلق أيضا على من يعتنق الإسلام .. وأسلم أمره
لله أي فوضه فيه، وسالم زيد أي صالحه .. وسلم بالأمر أي رضي به .. وسلم على القوم
أي حياهم بتحية الإسلام.
و(الإسلام) هو الخضوع والرضا بالمسلم به.
وتطلق
أيضا على الدين الذي نزله الله عز وجل على نبيه محمد عليه افضل الصلاة وأتم
التسليم. و(السم) أي الصلح وقد يراد بها الإسلام. و(السلام) اسم من أسماء الله
الحسنى، وهو يعني في اللغة البراءة من العيوب والنقائص .. ويشمل في ثناياه معاني
متعددة كالسكينة والأمان والاستقرار والهدوء. وابن القيم ـ رحمه الله ـ لله حول هذا
الاسم من الأسماء الحسنى قول مأثور جاء فيه ما يأتي:
الله جل وعلا أحق بهذا
الاسم من كل مسمى به، لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه". "فهو السلام الحق
بكل اعتبار، والمخلوق (أي المخلوق له) سلام بالإضافة، فهو سبحانه سلام في ذاته عن
كل عيب ونقص يتخيله وهم، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام من أفعاله من كل عيب
ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل
اعتبار، فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم اكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا
هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه، ونزهه به رسوله.
فهو السلام من الصاحبة
والولد، والسلام من النظير والكفء والسمى والمماثلة، والسلام من الشريك". "ولذلك
إذا نظرت إلي أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها، فحياته سلام من
الموت ومن السنة والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام
من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلي تذكر وتفكر، وإرادته سلام من خروجها عن
الحكمة والمصلحة، وكلماته سلام من الكذب والظلم بل تمت كلماته صدقا وعدلا، وغناه
سلام من الحاجة إلي غيره بوجه ما، بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غني من كل ما سواه،
وملكه سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحلمه وعفوه وصفحه
ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة كما يكون من غيره، بل
هو محض جوده وإحسانه وكرمه. وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن
يكون ظلما، أو تشفيا، أو غلظة، أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء
مواضعها، وهو ما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحق على إحسانه، وثوابه، ونعمه، بل
لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضا لحكمته ولعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من
عدله، وحكمته، وعزته، فهو سلام مما يتوهم أعداؤه الجاهلون به من خلاف حكمته.
وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم، ومن توهم وقوعه على خلاف الحكمة
البالغة". "وشرعه ودينه سلام من التناقص والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد
ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته ـ أي شرعه ودينه مطابق لحكمته عز وجل ـ بل شرعه
كله حكمه، وحرمة، ومصلحة، وعدل، وكذلك عطاؤه سلام من كونه معارضة أو لحاجة إلي
المعطي، ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه إحسان محض لا لمعارضة ولا
لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز.
واستواؤه وعلوه على عرش
سلام من أن يكون محتاجا إلي ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه وحملته
محتاجون إليه، فهو الغني عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلو لا
يشوبه حصر ولا حاجة إلي عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان
سبحانه ولا عرش ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه
واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلي عرش ولا غيره بوجه ما.
ونزوله كل ليلة إلي سماء الدنيا سلام مما يضاد علوه، وسلام مما يضاد غناه.
وكماله سلام من كل ما يتوهم معطل أو مشبه، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورا في
شيء، تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله". "وغناه وسمعه وبصره سلام من كل ما
يتخيله مشبه أو يتقوله معطل وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذل كما يوالي
المخلوق المخلوق، بل هي موالاة رحمة، وخير، وإحسان، وبر كما قال عز وجل:
وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك
ولم يكن له ولي من الذل (سورة الإسراء ـ 111)
فلم ينف أن يكون له ولي
مطلقا بل نفى أن يكون له ولي من الذل.
وكذلك محبته لمحبته وأوليائه سلام من
عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه أو تملق له أو انتفاع بقربه،
وسلام مما يتقوله المعطلون فيها.
وكذلك ما أضافه إلي نفسه من اليد والوجه فإنه
سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل.
فتأمل كيف تضمن اسم السلام كل ما نزه
عنه تبارك وتعالى. وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني
والله المستعان.
هذا ما جاء في حديث ابن القيم عن اسم الحق جل وعلا (السلام).
ولقد ذكرنا مرارا أن المتأمل لكون الله عز وجل لابد أن يلمس لكل صفة من صفات الحق
تبارك وتعالى أثارا لا تحصى. والسلام اسم من الأسماء الحسنى التي تمثل صفة من صفاته
عز وجل، فإذا تأملت الكون ستجد أن السلام كامن في كل بقعة من بقاعه، فالكون يسير
وفقا لنظام محكم وثابت لا يعتريه خلل ولا عطب .. الأرض التي نعيش عليها تدور بسرعة
كبيرة حول نفسها .. وتدور في نفس الوقت حول الشمس بما يترتب على ذلك من تعاقب الليل
والنهار وتعاقب فصول السنة.
ورغم هاتين الحركتين تجد أن الكون سلام من الأعطاب
وسلام من الاضطرابات .. الشمس تحافظ على بعد ثابت من الأرض لا تتجاوزه بالنقص أو
بالزيادة .. فلو اقتربت الشمس من الأرض لاحترقت كل الكائنات الحية .. ولو بعدت
لتجمدت كل الكائنات من البرودة. الكواكب التي تدور في فلكها حول الشمس منها ما يمثل
أضعاف أضعاف الكرة الأرضية من حيث الحجم والوزن .. فماذا لو خرجت إحدى هذه الكواكب
عن مدارها فصدم الكرة الأرضية؟. لا شك أنه سيصيب الأرض بدمار شامل .. وهب أن الأرض
فقدت جاذبيتها للأجسام التي تعلوها؟
ألن تتطاير تلك الأجسام إلي الفضاء الخارجي
بلا ضابط ولا رابط وماذا لو ضعفت القشرة الأرضية أو تفككت؟ ألن تسقط الكائنات الحية
ضحايا للزلازل والبراكين؟. إن الموجودات الكونية جميعها تؤدي عملها بلا توقف وبلا
أعطال أو خلل، فالكون كله في سلام وأمان وسكينة واستقرار، وان كان الحق جل وعلا
يصيبنا ببعض الكوارث الطبيعة بين الحين والآخر، فإنها إصابة مقصودة ولحكمة إلهية.
فقد قلنا من قبل أن الحق تبارك وتعالى يريد بهذه الكوارث أن يجعلنا نذكره ونلجأ
إليه لنطلب منه العون والنجاة.
ويلاحظ أن هذه الكوارث تأتي في الغالب حين يكون
هناك إعراض من الغالبية العظمى من الناس .. فتأتي الكارثة ليفيق الجميع من الغفوة،
ويتذكر بعد النسيان. وقد تكون هذه الكوارث غضبا من الله عز وجل على من حلت بهم
لتجعلهم عبرة للمؤمنين. وقد تكون تذكرة لنا بنعمة السلام الدائم الذي نعيش فيه ليل
نهار دون أن نلتفت إليها فنقدم من الحمد والشكر لله ما يكافئها. وقد غمرت صفة
السلام الكون بعد بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقبل الرسالة المحمدية كان
الناس يعيشون في الجاهلية الأولى، وكانوا جميعا يفتقدون الأمن والسلام بسبب
أعمالهم. لقد كانوا يرتكبون كل المعاصي والجرائم بلا وزاع من دين أو ضمير: شرب
الخمر .. السرقة .. الزنا .. خيانة الأمانة .. الكذب .. النميمة .. الغيبة .. الربا
وغيرها من المعاصي التي تجلب معها التناحر والحروب.
وحتى الأديان
السابقة لم تقض على حالة الفوضى التي عاشتها البشرية قبل الإسلام .. فالدولة
الرومانية كانت تعتنق المسيحية ورغم ذلك لم تختلف طبيعة الحياة فيها عنها لدى
القبائل الوثنية. وقد قرأنا عن الحروب الطاحنة التي كانت تشنها هذه الإمبراطورية
لكي تغزو سائر الدول وتضمها تحت رايتها .. فلما جاء الإسلام بعقيدته القويمة
وعباداته ومعاملاته حل السلام الحقيقي بين الناس وانحدرت نسبة الجرائم لتوشك على
الانعدام في بعض الدول الإسلامية. وقد انتقلت الحضارة الإسلامية إلي دول أوربا
لتنقلها من ظلمات الجهل إلي نور العلم .. وهذه حقائق يرصدها التاريخ الأوروبي نفسه
وليست مجرد افتراء بدافع الإحساس بالنقص كما يدعي البعض.
بمجيء الإسلام اجتمع
السلام الكوني مع السلام بين الناس فصار الكون كله سلاما في سلام .. ولا ينقض هذه
الحقيقة وجود بعض الخلافات والحروب بين بعض الدول، فالنزاعات والحرب سنن كونية ..
وإنما الفيصل في الأمر هو حجم هذه الخلافات والحروب وما ينجم عنها من إخلال بالسلام
الكوني. والإسلام سمي بهذا الاسم لما فيه من إسلام الوجه لله سبحانه وتعالى والخضوع
له وطاعته .. ولما فيه من نشر السلام بين الناس. إن العبادات في الإسلام بما فيها
من تذكرة دائمة للإنسان بخالقه ولما فيها من تدريب على ضبط النفس وقمع الأهواء وبما
يتخللها من إرشادات ونصائح كخطبة الجمعة وكالاستماع إلي تلاوة القرآن الكريم في
الصلاة وخارج الصلاة .. كل هذه المعاني الكامنة في العبادات الإسلامية تهذب النفس
البشرية وتجعل الإنسان في سلام داخلي مع نفسه ومع خالقه ومع الكون المحيط به وتجعله
في سلام مع غيره من الناس.
والإسلام قد نظم أيضا القواعد التي تحكم المعاملات
بين الناس .. هذه القواعد تغطي جميع صور التعاملات .. وبها من القواعد العامة ما
يكفي لاستنباط قواعد تفصيلية لكل ما يستجد من وجوه التعامل. ونذكر من هذه التعاملات
البيوع، السلم، الشفعة، الإجارة، الكفالة، الوكالة، الحرث والمزارعة، الاستقراض
وأداء الديون، الرهن، العتق، الهبة، الوصية وغير ذلك كثير.
وتتسم هذه القواعد
بتحقيق العدل بين الناس والتوازن بين مصالحهم المتعارضة، مما يؤدي إلي القضاء على
أسباب المشاكل بين الناس على مستوى الأفراد والدول .. فيقيهم شر الحروب الطاحنة
وينشر بينهم السلام والود والأمان.
وفضلا عن ذلك. وضع الإسلام عقوبات معينة لكل
من يرتكب جريمة من الجرائم كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر وغيرها من الجرائم
المخلة بالأمن والسلام بين الناس ..
فمن يرتكب أيا من هذه الجرائم يعاقب بالعقوبة
المحددة لها فتكون رادعة له ولكل من تسول له نفسه ارتكاب هذه الجريمة. إنه نظام
محكم شيده الإسلام والسلام إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وكيف يوصف به من لم
يسلم هو من نفسه؟
ويقول سفيان بن عيينة رضي الله عنه: أوحش ما تكون الخلق،
ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، أو يوم يموت فيرى قوما لم يكون
عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى فخص بالسلام
فقال:
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث
حياً "15" (سورة مريم ـ 15)
كأنه أشار إلي أن الله عز وجل سلم يحيى
عليه السلام من شر هذه المواطن الثلاثة وآمنه من خوفها. فعلى هذا إذا سلم المسلم
على المسلم فقال: "السلام عليكم" فكأنه يعلمه بالسلامة من ناحيته ويؤمنه من شره
وغائلته، كأنه يقول له: أنا مسلم لك غير حرب، وولي غير عدو. وقد أراد الحق سبحانه
أن يكون الإسلام خاتما للأديان السابقة فقال:
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}
وقال
سبحانه:
فمن يريد الله أن يهديه يشرح صدره
للإسلام (سورة الأنعام ـ 125)
والسلام نعمة من الله يكافئ بها رسله
وعباده الصالحين .. كما قال جل وعلا:
ولقد جاءت
رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجلٍ حنيذٍ "69"
(سورة هود)
وكما قال عز وجل:
وسلام
|