المحيي ـــ المميت
قال تعالى:
ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيى الموتى وأنه على
كل شيء قدير "6" (سورة الحج)
هو خالق الحياة ومعطيها لمن يشاء، وهو
الذي أحيا قلوب المؤمنين بنوره، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى والحق، ونزل
الكتاب،
لينذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين، وهو الذي أنزل من السماء ماء،
وجعل من
الماء كل شيء حي.
يقول الحق سبحانه:
وجعلنا من
الماء كل شيءٍ حي "30" (سورة الأنبياء)
إنها القدرة المطلقة بدون
أسباب، ووقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض الله على بعض خلقه
بابتكار
أسراره في كونه، إلي أن لكل شيء حياة، إن ورقة النبات المقطوعة تحدث فيها
تفاعلات،
والذرة فيها تفاعلات، والتفاعل معناه الحركة، والحياة ـ كما نعرف ـ من
مظهرها
الحركة. وغاية ما هناك أنه يوجد فرق في رؤية الحياة عند العامة، ورؤية
الحياة عند
الخاصة، إن الإنسان العامي لا يعرف أن النطفة فيها حياة، والحبة فيها حياة
ولا يعرف
ذلك إلا الخاصة من أهل العلم، إن العامة من الناس يعرفون أن الحبة لا توجد
لها حياة
مرئية، ونمو ظاهر صحيح.
إن هناك فرقاً بين شيء حي وشيء قابل أن يحيا، إن نواة
البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها نخلة. إنها كنواة تظل مجرد نواة إلي
أن
يأخذها الإنسان وضعها في بيئتها لتخرج منها النخلة. إن النواة قابلة
للحياة، وعندما
ننظر إلي ذرات التراب فإننا لا نستطيع أن نضعها في بيئة لنصنع منها شيئاً،
ورغم ذلك
فإن لذرة التراب حركة، ويقول العلماء: إن الحركة الموجودة في ذرات رأس
عيدان علبة
الكبريت واحدة تكفي لإدارة خط كهربائي حول الكرة الأرضية عدداً من السنوات،
إن هذه
أمور يعرفها الخاصة، ولا يعرفها العامة. فإن نظرنا إلي العامة عندما يسمعون
قول
الحق سبحانه:
وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من
الحي .. "27" (سورة آل عمران)
كانوا يقولون: إن المثل على ذلك نواة
البلح، وكانوا يعرفون النخلة تنمو من النواة، ولكن الخاصة عندما اكتشفوا أن
في
النواة حياة عرفوا كيفية النمو، إن كل شيء في الوجود له حياة مناسبة
لمهمته، فليست
الحياة هي الحركة الظاهرة، والنمو الواضح أمام العين، لا إن هناك حياة في
كل شيء.
إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق سبحانه يخرج الحي من
الميت،
ويخرج الميت من الحي، أما الخاصة فيعرفون قدرة الله عن طريق معرفتهم، إن كل
شيء فيه
حياة، فالتراب الذي نضع فيه الزرع لو أخذنا بعضاً منه في مكان معزول فلن
يخرج منه
شيء.
هذا التراب هو الميت في الدرجة الأولى، والنواة التي نأخذها ونضعها في
التراب هي الميت في الدرجة الثانية، وعندما ننقل الميت في الدرجة الأولى
ليكون
وسطاً بيئياً للميت في الدرجة الثانية تكون له حياة، وكذلك تكون حياة
التراب،
وعندما ننقل الميت في الدرجة الثانية وهو النواة إلي الوسط البيئي المناسب
لها وهو
التراب تكون لها حياة. وقد مس القرآن ذلك مساً رقيقاً؛ لأن القرآن حين
يخاطب بأشياء
قد تقف فيها العقول، فإنه يتناولها التناول الذي تقبله كل العقول، فعقل
الصفوة
يتقبلها، وعقل العامة يتقبلها أيضاً، لأن القرآن عندما يلمس أي أمر يلمسه
بلفظ راقٍ
يتقبله كل بحسب فتوحاته.
ثم يكشف العقل البشري تفاصيل جديدة في هذا الأمر، فإن
ذلك يتيح للعقل البشري الفرصة ليزيد إيمانه بالخالق الأكرم الذي لم يقل لنا
إن
الذرة فيها حركة، وفيها شحنات من نوع من الطاقة، ولكن القرآن تناول الذرة
وغيرها من
الأشياء بالبيان الإلهي القادر، وخصوصاً أن هذه الأشياء لن يترتب عليها
خلاف في
الحكم. فلو عرف الإنسان وقت نزول القرآن أن الذرة بها حياة، فما الذي يزيد
في
الأحكام، ولو أن أحداً أثبت أن الذرة ليس بها حياة، فما الذي ينقص من أحكام
المنهج
الإيماني؟
إن الإنسان ينتفع بالظاهرة أو القضية سواء عرفها أم يعرفها، وعندما
نأخذ القرآن مأخذ الواعين به، ونفهم معطيات الألفاظ فإننا نجد أن كلمة
(الحياة) لها
ضد هو (الموت)، وقد ترك الحق سبحانه كلمة الموت وأورد لنا كلمة أخرى هي
(الهلاك).
قال الحق سبحانه:
ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيى
من حي عن بينةٍ وإن الله لسميع عليم "42" (سورة الأنفال)
إن الهلاك هنا
هو مقابل الحياة، لماذا لم يورد الحق كلمة (الموت) هنا؟ لأنه الخالق الأعلم
بعباده،
يعلم أن عباده يختلفون في مسألة الموت، فبعض منهم يقول تعريفاً للميت: إنه
الذي لا
توجد به حركة أو حس، ولكن هذا الميت له حياة مناسبة له كحياة الذرة، أو
حياة حبة
الرمل، أو حياة أي شيء ميت. وهكذا عرفنا من الآية السابقة أن الحياة
يقابلها
الهلاك. ويقول الحق سبحانه عن الآخرة ليوضح لنا ما الذي يحدث يوم القيامة،
فيقول
سبحانه:
كل شيء هالك إلا وجهه .. "88" (سورة
القصص)
استثنى الحق سبحانه الوجه أو الذات الإلهية وكل ما عداها هالك،
ومادام كل شيء هالكاً فمعنى ذلك أن كل ما عداه هالك، ومادام كل شيء هالكاً
فمعنى
ذلك أن كل شيء كان حياً، وإن لم ندرك له حياة. إذن: فالحياة الحقيقية توجد
في كل
شيء بما يناسبه، مرة تدركها أنت، ومرة لا تدركها، إذن: فقوله الكريم:
وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي .. "27" (سورة آل
عمران)
يجوز أن تأخذه مرة
بالعرف العام، أو تأخذه بالعرف الخاص. أي: عرف العلماء. ومادام ذلك أمراً
ظاهراً في
الوجود كولوج الليل في النهار، وولوج النهار في الليل. أي: أن الحق سبحانه
يدخل
النهار في الليل ويدخل الليل في النهار، وفي اللغة: يسمون بطانة الرجل
الوليجة
..
لماذا؟ لأنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديقه أو أحد
أصدقائه لأنه
متداخل معه. لذلك جاء أمر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل
بالوضوح
الكامل. ثم مسألة الحياة والموت، ومن يفعل كل ذلك فلا يمكن لأحد أن يستبعد
عليه أنه
يؤتي الملك من يشاء. وقد جاء الدليل على الآيات الكونية، ولنسمع قول الحق
سبحانه:
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع
الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير
"26" (سورة
آل عمران)
إنك أنت الله الذي أجريت في كونك كل المسائل، فهذا أمر
من الخير، إن الإنسان ـ ولله المثل الأعلى ـ والمثل للتقريب لا للتشبيه،
فالله منزه
عن كل شبه أو مثال، إن الإنسان عندما يرى في ابنه شيئاً يحتاج إلي علاج
فإنه يسرع
به إلي الطبيب، ويرجوه أن يقوم بإجراء الجراحة التي تشفي الطفل الآن. إن
الأب هنا
يفعل الخير للابن، فإذا كان هذا أمر المخلوق في علاقته بالمخلوق، فما بالنا
بالخالق
الأكرم، الذي يجري في ملكه ما يشاء، إيتاء ملك أو نزعة إعزاز أو إذلال، فكل
ذلك
يكون من الخير.
قال تعالى:
وإنا لنحن نحيي
ونميت ونحن الوارثون "23" (سورة الحجر)
أي: أنه سبحانه وتعالى يملكنا،
فلم يعطينا الرزق لكي نخلد في الدنيا، لا بل إنه سيميتنا بعد ذلك، وظاهر
الأمر في
كلمتي "نحي ونميت" يقتضي أن يقول "نميت ونحي" لأن يخاطبنا ونحن أحياء. ولكن
الواقع
أن الحق سبحانه ينظر إلي الموت الأول الذي هو العدم المحض قبل أن يوجد
الإنسان في
الحياة، كما جاء في قوله تعالى:
ربنا أمتنا اثنتين
وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا .. "11" (سورة غافر)
وقوله أيضاً:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم
ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "28" (سورة البقرة)
إذن: فالكلام في تفسير
الموت: هل هو العدم المحض، أو العدم بعد وجود؟ فإن كان العدم المحض فنكون
قبل أن
نخلق أمواتاً، ثم أوجدنا ربنا فأصبحنا أحياء، ثم يميتنا، ثم يبعثنا يوم
القيامة،
والآية تعطي لنا المعنيين.
ثم قال تعالى:
ومن
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي .. "31" (سورة يونس)
الحي هو
ما فيه الحياة، ولكننا نفهم الحياة على أنها حس وحركة، ولكن كما قلنا: كل
كائن في
الوجود له حياة تناسبه، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قال:
كل شيء هالك إلا وجهه .. "88" (سورة القصص)
ومادام كل
شيء هالكاً يكون كل شيء حي نأتي به له فترة فيهلك، إلا أن الحياة ليست الحس
والحركة، أنت تأكل الطعام، والطعام لا حياة فيه بمفهومنا، ولكنه تتكون فيه
خلايا
جسدك الذي فيه حياة، ويتكون منه الحيوان الذي يتم به التلقيح، لتبدأ حياة
جديدة في
ابنك. إذن: فكل ما أكلته فيه حياة، والله سبحانه وتعالى في قوله:
ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي .. "31" (سورة
يونس)
هذه قدرة الله سبحانه وتعالى وحده، فلا أحد يستطيع أن يصل إلي
أسرارها، لأنها فوق المقدور، ولقد قالوا: إنه يخرج الحي من الميت، إنه يخرج
الكتكوت
من البيضة، هم اعتبروا البيضة ميتة، والكتكوت في حياة، مع أن في البيضة
حياة لا تصل
بذاتها إلي شيء، فليست كل بيضة تخرج كائناً حياً. ولكن لابد أن تكون البيضة
ملقحة
من الديك، فإذا كان عندنا فرخة، ولا يوجد عندنا ديك لا يخرج كتكوت من
البيضة، هذا
فرق بين قابلية الحياة وبين الحياة، والبيضة غير المخصبة فيه قابلية
الحياة، فإذا
خصبت ففيها حياة. البذرة إن ألقيتها في الصحراء لا تنبت شيئاً، وإن زرعتها
في أرض
خصبة ورويتها تنبت لك الشجر والثمر، إذن: فهناك قابلية الحياة في البذرة،
فإن وجدت
المناخ المناسب أعطت الحياة.
ويقول الحق جل جلاله:
والذي يميتني ثم يحيين "81" (سورة الشعراء)
ولم يستخدم
الحق تبارك وتعالى الضمير (هو)؛ لأنه لا يستطيع أن يدعي أحد أنه يميت
إنساناً أو
يبعث ميتاً. قد يقول أحد الناس: أنا أستطيع أن أميته بأن أقتله، نقول له:
إن الموت
غير القتل، الموت يأتي بدون نقض للبنية، ولكن القتل لابد من نقصه الجسد.
إذن: فكل
ما لا يمكن أن تكون فيه شبهة الشرك لا يأتي بالضمير (هو)، ولكن الذي يتوهم
فيه شبهة
الشرك تأتي (هو) لتنفي أي شبهة لأن يكون هناك شريك لله سبحانه وتعالى في
العقل.
[ عودة للقائمة الرئيسيّة ]
|