المقدم
ــ
المؤخر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه:
"اللهم
اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر،
وأنت على كل شيء قدير"
هو المقدم والمؤخر لما شاء، كما شاء بحكمته، وهو
المقدم من شاء بالتقوى والإنابة، والصدق والاستجابة، المؤخر لمن شاء بعدله
وحكمته.
هو الذي قدم الأبرار وأخزى الفجار، وهو الذي يقرب ويبعد، فمن قربه فقد
قدمه، ومن
أبعده فقد أخره. وهو الذي يقدم بعض الأشياء على بعض بأمره، إما بالوجود
كتقديم
الأسباب على مسبباتها، أو بالشرف كتقديم الأنبياء والصالحين من عباده. وصلى
الله
على سيدنا محمد الذي قدمه ربه على جميع خلقه.
قال تعالى:
قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم .. "14" (سورة الأنعام)
لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
"163" (سورة
الأنعام)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة.
وكان آخر ما يقول صلى الله عليه وسلم بين التشهد
والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما
أسرفت، وما
أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"
والمقدم
والمؤخر هما ـ كما تقدم ـ من الأسماء المزدوجة المتقابلة، التي لا يطلق
واحد بمفرده
على الله إلا مقروناً بالآخر، فإن الكمال من اجتماعهما، فهو تعالى المقدم
لمن شاء،
والمؤخر لمن شاء بحكمته. وهذا التقديم يكون كونياً، كتقدم بعض المخلوقات
على بعض،
وتأخير بعضها على بعض، وكتقديم الأسباب على مسبباتها، والشروط على
مشروطاتها.
وأنواع التقديم والتأخير بحر لا ساحل له، ويكون شرعياً كما فضل الأنبياء
على
الخلق، وفضل بعضهم على بعض .. وفضل بعض عباده إلي بعض، وقدمتهم في العلم،
والإيمان،
والعمل، والأخلاق، وسائر الأوصاف، وأخر من أخر منهم بشيء من ذلك، وكل هذا
تابع
لحكمته. وهذان الوصفان وما أشبههما من الصفات الذاتية لكونهما قائمين
بالله، والله
متصف بهما، ومن صفات الأفعال، لأن التقديم والتأخير متعلق بالمخلوقات
ذواتها،
وأفعالها، ومعانيها، وأوصافها. وهي من إرادة الله وقدرته. فهذا هو التقسيم
الصحيح
لصفات الباري، وأن صفات الذات متعلقة بالذات، وصفات أفعاله متصفة بها
الذات،
ومتعلقة بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال.
قال الله عز وجل:
وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو
على كل شيءٍ قدير "17" (سورة الأنعام)
وقال الله تعالى:
قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم
نفعاً بل كان الله بما تفعلون خبيراً "11" (سورة الفتح)
وصفة الضر
والنفع هما ـ كما تقدم ـ من الأسماء المزدوجة المتقابلة، فالله تعالى
النافع لمن
شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب
ذلك.
وكل هذا تبع لحكمته وسننه الكونية وللأسباب التي جعلها موصلة إلي مسبباتها،
فإن
الله جعل مقاصد للخلق وأموراً محبوبة في الدين والدنيا، وجعل لها أسباباً
وطرقاً،
أمر بسلوكها ويسرها لعباده غاية التيسير.
فمن سلكها أوصلته إلي المقصود النافع،
ومن تركها، أو ترك بعضها، أو فوت كمالها، أو أتاها على وجه ناقص ففاته
الكمال
المطلوب فلا يلومن إلا نفسه، وليس له حجة أمام الله، فإن الله أعطاه السمع
والبصر
والفؤاد والقوة والقدرة وهداه النجدين وبين له الأسباب والمسببات، ولم
يمنعه طريقاً
يوصل إلي خير ديني أو دنيوي، فتخلفه عن هذه الأمور يوجب أن يكون هو الملوم
عليها،
المذموم على تركها. وأعلم أن صفات الأفعال كلها متعلقة وصادرة عن هذه
الصفات
الثلاثة:
1.
القدرة الكاملة.
2.
المشيئة النافذة.
3.
الحكمة الشاملة
التامة.
وهي كلها قائمة بالله، والله متصف بها، وآثارها ومقتضياتها جميع ما
يصدر منها في الكون كله من التقديم والتأخير، والنفع والضر، والعطاء
والحرمان،
والخفض والرفع، ولا فرق بين محسوسها ومعقولها، ولا بين أن تكون دينية أو
دنيوية،
فهذا معنى كونها أوصاف أفعال.
وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء:
"
اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في
أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك
عندي،
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت
المؤخر،
وأنت على كل شيء قدير"
ولنتدبر معاً هذه الآيات البينات:
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر "13" (سورة
القيامة)
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت
إليكم بالوعيد "28" (سورة ق)
ولا تحسبن
الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار "42"
(سورة
إبراهيم)
[ عودة للقائمة الرئيسيّة ]
|