قال تعالى : مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) سورة العنكبوت
قبل التعرف على أوجه الإعجاز العلمي في آية قرآنية كريمة يجب ربطها بما قبلها وما بعدها من آيات حتى نفهم موضعها في إطار السياق العام للسورة التي وردت فيها، كذلك يجب ربطها بكافة الآيات المتصلة معها في المعنى .
تسبق قوله تعالى في سورة العنكبوت: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
وقد جاء في تفسير هذه الآيات الكريمة أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ شبه الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في اتخاذها بيتا ضعيفاً واهيا لا يجير آويا ولا يريح ثاوياً .
ومن لطائف التعبير القرآني أن المقصود بالوهن المذكور في الآية القرآنية الكريمة ربما يكون مرجعه إلى ما كشف عنه العلماء من ضعف البنية الاجتماعية في بيوت الحياة للحيوانات الراقية، فلا تجد في عالم العنكبوت سوى الأنثى تطيح برأس زوجها أو صغارها تهجر مواطن أهلها ..إلى غير ذلك من مظاهر التفكك وعدم الترابط .
وقد اهتم علماء الحضارة الإسلامية بدراسة العناكب ووصفها أنواعها وطبائعها، ودونوا نتائج دراساتهم في عدد من الكتب التراثية، مثل كتاب " الحيوان" للجاحظ، وكتاب " حياة الحيوان الكبرى " للدميري وكتاب " عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات " للقزويني وغير ذلك. وتوصل العلم الحديث إلى وصف أكثر من 35000 نوع من العناكب المختلفة الأحجام والأشكال والألوان والطبائع والغرائز، ويعتبر عنكبوت المنزل المعروف أقل هذه الأنواع ابتكارا وتفننا في صنع نسيجه. ولا تزال الدراسات الميدانية والبحوث العلمية المتقدمة تكشف عن المزيد من أنواع العناكب .
ومن دراسة حياة العناكب لاحظ العلماء أن بيت العنكبوت له شكل هندسي خاص دقيق الصنع، ومقام في مكان مختار له في الزوايا، أو بين غصون الأشجار، وأن كل خيط من الخيوط المبني منها البيت مكون من أربعة خيوط أدق منه، ويخرج كل خيط من الخيوط الأربعة من قناة خاصة في جسم العنكبوت .
ولا يقتصر بيت العنكبوت على أنه مأوى يسكن فيه، بل هو في نفس الوقت مصيدة تقع في بعض حبائلها اللزجة الحشرات الطائرة مثل الذباب وغيرها .. لتكون فريسة يتغذى عليها .
وتدل الدراسات المستفيضة للحشرات على أن بعضها له حياة اجتماعية ذات نظم ومبادئ وقوانين تلتزم بها في إعداد مساكنها والحصول على أقواتها والدفاع عن نفسها والتعاون فيما بينها بصورة تدهش العقول وذلك بإلهام من خلقها الذي يجعلها تبدو وكأنها أمم لها كيان ونظام وعمران .
وقد راقب الباحثون أنواع مختلفة من العناكب فوجدوا أن لها قدرات فائقة في العمليات الإنشائية حين تشيد بيوتها وتنسج غزلها، وكشف العلماء عن ثلاثة أزواج من المغازل توجد في مؤخرة بطن العنكبوت تأتيها المادة الخام عن طريق سبع غدد في الأقل وأحياناً يصل عدد هذه الغدد في بعض أنواع العناكب إلى 600، وخيوط العنكبوت حريرية رفيعة جداً، حتى أن سمك شعرة واحدة من رأس الإنسان يزيد عن سمك خيط نسيج العنكبوت بحوالي 400 مرة. وإذا كانت هذه الخيوط تبدو ضعيفة واهية تمزقها هبة ريح، إلا أن الدراسات أوضحت أنها على درجة عالية من المتانة والشدة والمرونة .
ومن رحمة الله بعباده أن جعل العناكب، وهي المخلوقات التي يتقزز منها الإنسان، لا تخلو من فوائد عديدة، فيه تلتهم الملايين من الحشرات الضارة بالنباتات أو الصحة، أي أنها تعمل كمبيدات حشرية حية لدرجة أن أحد علماء الأحياء يؤكد أن نهاية الإنسان تصبح محققة على ظهر الأرض إذا ما تم القضاء على العناكب .
من ناحية أخرى، تستخدم العناكب في مجالات البحث العلمي لتجريب تأثير بعض المواد المخدرة عليها، كما أن العناكب من أوائل الكائنات التي وضعت في سفن الفضاء لملاحظة سلوكها وهي تبني شباكها تحت تأثير انعدام الجاذبية في الفضاء الخارجي وتجري حالياً دراسات علمية مكثفة للإفادة من حرير العنكبوت على النطاق التجاري على غرار ما حدث بالنسبة لاستخدام الحرير المنتج بواسطة دودة القز.
ويتجلى الإعجاز العلمي في التعبير القرآني عن الفعل بصيغة المؤنث في كلمة " اتخذت " ، وهي إشارة في غاية الدقة للدلالة على أن الأنثى ـ و ليس الذكر ـ هي التي تقوم بضع نسيج البيت، وكذل الإشارة إلى ظاهرة التفكك الأسري في بيت العنكبوت في أن العنكبوت الأم قوم بقتل زوجها بعد التلقيح مباشرة وكذلك يهجر صغار العناكب أعشاشها في سن مبكرة، وهو ما كشف عنه العلم الحديث بالنسبة لغالبية أنواع العنكبوت، وما كان لأحد قط أن يفطن إلى هذه الحقيقة وقت نزول القرآن الكريم.