هو عبد اللطيف بن علي بن عبد الكريم بن عبد اللطيف بن زين الدين بن محمد فتح الله الحنفي البيروتي ثم الدمشقي الشهير بمفتي بيروت، وقد إشتهر البيروتي لأنه أقام بهذه المدينة على أثر توليه منصب الإفتاء فيها شطراً من حياته في دمشق الشام وكان يلازم الحضور في المدرسة الباذرائيّة حيث كان طلاب العلم يختلفون إليه ويفيدون من معارفه في الفقه واللغة وغير ذلك من الفنون والآداب. ومن طلابه الذين انتفعوا بعلمه في هذه المدرسة الشيخ عبد القادر الخطيب العالِم المُحدّث المتوفى سنة 1288م والشيخ أبو السعود الغزي العامري الدمشقي الشافعي عضو مجلس الشورى بالشام المتوفى سنة 1282م والشيخ قاسم دقاق الدودة الشافعي الدمشقي العالِم الفلكي المتفنّن صاحب كتاب (أسنى الهبات لمعرفة الأوقات) المتوفى في حدود سنة 1260م، والشيخ العلامة محمود شهاب الدين الآلوسي البغدادي الذي كان خاتمة المفسرين ونخبة المحدثين الذي ألّف ما يزيد عن 22 كتاباً من بينها، روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، وهو أعظم مؤلفاته وأجّلها قدراً، وقد تقلّد الإفتاء في بغداد سنة 1238م وكانت وفاته في 21 ذي القعدة سنة 1280هـ في بغداد ودُفن بالقرب من الشيخ معروف الكرخي وقبره مشهور يزار.
كانت العلاقة بين أهل بيروت وبين أهل جبل لبنان في الماضي مشوبة بالتوتر والاضطراب وفي أيام أحمد باشا الجزار بالذات، أي الثلث الأخير من القرن الثامن عشر للميلاد كان البيروتيون يعتمدون على هذا الوالي البشناقي الذي كانت بيروت تابعة له في كبح أطماع الجبليين وردهم عن العدوان على مدينتهم وكان الجبل آنذاك في عهدة الأمراء الشهابيين الذين منعهم الجزار من الإقامة في بيروت أو التوطن فيها ، وكان الشيخ عبد اللطيف فتح الله المفتي مقرباً من الوالي المذكور وعلى هواه السياسي بالنسبة للأمراء الشهابيين ومواطنيهم أهل الجبل ولذلك رأيناه يكثر من نظم الأشعار في القصائد الطوال بمدح الوالي والإشادة بمواقفه الحازمة من الشهابيين ومواطنيهم الجبليين. وعندما أرغم الجزار الإمبراطور نابليون على التراجع عن عكا وألحق به الهزيمة التي كانت نهاية بدايته في الشرق العربي ، نظم الشيخ عبد اللطيف فتح الله المفتي قصيدة مدح بها الجزار وأشاد بانتصاره على أعظم قائد حربي في ذلك الزمان وقد جاء في هذه القصيدة :
يا سور عكا إذ رفعت منارها | والغيل ترفع قدره الآساد |
يا فخر عكا في البلاد فإنهـا | تاج البلاد وسورها وعماد |
وبك احتمت أموالنا وبلادنـا | ورجالنا والعرض والأولاد |
إلى أن قال :
يا أيها الجزار أعناق العدى | يا من هو السادات والأمجاد |
هم أهل بيروت الذين تزينت | منهم بدر عطائك الأجيــاد |
وملكتهم وودادهم لك صادق | بما إن لهم فيمن سواك وداد |
لا نقص فيه، ولست فيه مشاركاً | بل فيك دوماً لم يزل يـزداد |
ولقد قدمتك مادحاً بقصيدة | ومديح مثلك في الأنام رشاد |
وما كان أحمد باشا الجزار ليجحد للشيخ عبد اللطيف فتح الله المفتي محبته له، بل هو عرف له هذه العاطفة وأثابه عليها بأن استحصل من الباب العالي في أسطمبول على فرمان عالي شان، (مرسوم سلطاني) بتعيين هذا الشاعر العالِم في منصب إفتاء بيروت، وهو المنصب الذي أعطاه منذ ذلك الحين لقب المفتي، وهو اللقب الذي انسحب من بعده على عائلته حتى اليوم وأصبحت تُعرف به بعد أن تخلّت عن اسم فتح الله.
ولم يكتفي الجزار بتكليف الشيخ عبد اللطيف فتح الله المفتي، بل ضمّ إليه القضاء في نفس الوقت فأصبح الشيخ عبد اللطيف فتح الله مفتي بيروت وقاضيها في آن واحد خلال أيام الوالي المذكور، ولكن الشيخ لم يكن مرتاحاً لما أسنده إليه الجزار في هذين المنصبين الرفيعين، بل على العكس فإنه وجد فيهما قيداً نفسياً يسبب له المتاعب والأحزان وراح ينظم الأشعار التي عبّر فيها عن تبرمه بهذا القيد ويطلب من ربه أن يصرف عنه ما اعتبره بلاء ومحنة له، ويرجو أن يتخلّص من هذه الأعباء التي سببت له الحرج والضيق، وراجع ولي الأمر لإعفائه فلما يئس من استجابة الحاكم لرجائه راح ينظم الأشعار التي عبّر فيها عن حالته النفسيّة مما حل به من بلاء الفتوى والقضاء، وهكذا ، فإن هذا العالِم الشاعر الأديب كان على مذهب أستاذه وشيخه الشيخ أحمد الغر البيروتي الذي كان هو الآخر يحرص على تجنب الابتلاء بمنصب الفتوى والقضاء لما كانا يجدانه في هذا المنصب من مغبة الوقوع في شرك مصانعة الحكّام ومحاذير الوقوع في مظالم الناس من أصحاب المصالح أو تسخير الضمير فيما لا يُرضي الله ويتفق مع الشرع الحنيف.
عاش الشيخ عبد اللطيف فتح الله المفتي دهراً طويلاً حتى أدركته الشيخوخة المكللة بالتقوى والصلاح والسمعة الأدبيّة العاطرة وقد ملأ عصره بفيض لا ينضب من العلم والشعر والنشاط الاجتماعي النافع، وترك من بعده ذريّة صالحة واشتهر من عائلته الشيخ محمد المفتي الذي خلفه في منصب الإفتاء في بيروت.
كانت وفاته سنة 1260هـ 1844م في بيروت ودُفن في مقبرة سيدنا عمر في هذه المدينة وهي المعروفة اليوم باسم الباشورة الواقعة بمحلة البسطة التحتا وقد أرخَ وفاته الشيخ يُوسُف الأسير الصيداوي نزيل بيروت بأبيات نظّمها على طريقة الأرقام المطلوبة وفقاً للتاريخ المقصود وقد نقشت هذه الأبيات على شاهد قبره وهي التالية :
هذا ضريح ضمنه سيـد | لآل فتح الله ، يتمى شريـف |
في عصره قد كان علامة | صاحب فضل ، ومقام منيـف |
والآن أصبح في بـرزخ | ضيفاً لمولاه ، ونعم المضيف |
يرجى له رضوانه دائما | لأنه هادٍ ، تقي عفيــــف |
وعن لسان الحال أرخ يفي | في جنة الفردوس عبد اللطيف |