قصة مياه بيروت في ماضيها وحاضرها
يرى بعض المؤرخين أن كلمة بيروت نفسها تعني مجمع الآبار مما يدل على أن البيروتيين القدماء كانوا يستعملون مياه هذه الآبار للشرب وسقي الجنائن، غير أننا نستبعد هذا التفسير لأن كلمة بيروت فينيقية الأصل وهي تعني شجر الصنوبر أو السرو، وهو الرأي الذي إعتمده من قبلنا علماء اللغات السامية القديمة، ويؤيدنا في ذلك أن مدينة بيروت لم تكن في الماضي كثيرة الآبار، فقد ذكرت مجلة الهلال الصادرة في القاهرة يوم 8 رجب 1311 هـ الموافق في 15 يناير 1894م بالصفحة 315 من الجزء العاشر الخبر التالي : قرأنا في جرائد بيروت أنه حدث حريق هائل في خان الخواجات بسوق البياطرة، فأتلف بسبب ذلك بضائع بقيمة لا تقل عن 3 آلاف جنيه وكان سبب امتداد الحريق وإتساعه خلو الخان وما جاوره من الماء إلا بئراً صغيرة (يعسر انتشال الماء منها).
أصل المياه المجلوبة إلى بيروت من نهرها المعروف عند الأقدمين بنهر ماغوراسMagoras ، والأرجح أنها من نبع العرعار فوق قرية بعبدات من مقاطعة المتن الشمالي، الذي كان قديماً يدعى كسروان، في جهة الشمال الشرقي من القرية المذكورة النابع من الوادي الذي يُسمى وادي العرعار إلى يومنا هذا، ولم تزل الآثار القديمة دالّة على جرّ المياه من النبع المذكور لجهة بيروت، على أن القبو الذي تخرج منه المياه وبقايا الحوض (الحاووز) وفضلات القناة إنما هي من الآثار القديمة جداً، ويوجد أنابيب حجرية وبعض أساسات القناة في محل يدعى الرويسة شمالي قرية بعبدات وغربي النبع المذكور، وآثارها شرقي قرية بعبدات في محل يدعى (القشي) جنب طريق العجلات الجديدة، ولها آثار أيضاً شرقي قرية برمانا في المحل المعروف (بالرصيف) وغربي القرية المذكورة بينها وبين قرية بيت مري بالمحل المعروف (بمعصرة الحريق) قرب عمارة آدم ولجهة الجنوب من قرية بيت مري مارة بدير القلعة، فهذه كلها دلائل تثبت أن ماء نبع العرعار المذكور كان مسحوباً قديماً في هاته القنوات لجهة بيروت ماراً بدير القلعة والذي يرجح قول المؤرخ صالح بن يحيى أن بُعد مسافة النبع عن بيروت أثنا عشر ميلاً، وهي عين المسافة بين بيروت ونبع العرعار.
والقناطر التي أشار إليها صالح بن يحيى، معروفة عند أهل بلادنا باسم قناطر زبيدة، والمشهور في التقاليد الشعبيّة المرويّة أن زبيدة المذكورة هي زوجة الخليفة هارون الرشيد، التي هي شيدت هذه القناطر، بيد أن ذلك ليس بالأمر المحقق وأغلب الظن أن زوجة الخليفة إنما قامت بترميم هذه القناطر من أجل تزويد بيروت بالمياه، أما المؤرخون فيظنون أن الذي بنى هذه الآثار الفخمة العجيبة هو بطليموس أبيفانوس الذي تولى حكم سوريا ومصر حوالي سنة 204 قبل الميلاد، ويقول الأب لويس شيخو في كتاب (تاريخ بيروت) الصفحة التاسعة : هذه القناة من عجائب الآثار القديمة وقد بقي منها بقايا ضخمة إلى اليوم، وهي المعروفة عند البعض بالجسر الروماني، والغالب عليها إسم قناطر زبيدة.
ومما يؤكد صحة ري الساحل من نبع نهر بيروت وجود آثار القناة الممتدة من النبع إلى القناطر المذكورة، وقد عفا الدهر معظمها، كما أن وجود كثير من الغرف المنقورة في الصخور على شاطئ النبع وذات الأبواب الحجريّة (بدرفة واحدة) يدل على استيطان تلك المحلة، إما لاستثمار الأرض القريبة منها المسماة الزيرة، ولعلها هي المعروفة بالتاريخ (بجزيرة إبن معن)، وإما لحماية تلك المياه والإشراف على توزيعها، غير أن شكل هذه الأقنية والقناطر يدّل على أنها رومانية وليس لزبيدة أو زنوبّة تدمر أقل صلة بها.
مياه بيروت في القرن التاسع عشر
بالإضافة إلى الآبار القليلة التي كانت موجودة في مدينة بيروت القديمة فإن البيروتيين كانوا يستخدمون المياه المتجمعة في البرك المعّدة لهذا الغرض والتي كانت تجري إليها من الينابيع القريبة من المدينة، كمياه الكراوية ومياه الدركة.
في سنة 1808م كان في بيروت رجل مسلم، تاجر، وما كان له ولد، وفي هذه السنة إذ حان وقت وفاته كتب وصيته، ومن الجملة أمر بإعطاء أثنين وعشرين ألف قرش من مال تركته مصروفاً لجلب ماء الدركة لبيروت، وإذ توفي بدون وارث فالمتسلم إجتمع مع القاضي وفتحوا عليه بيته ومتروكاته وأعرضوا عن ذلك إلى سليمان باشا فأصدر أمره إلى متسلم بيروت بجمع متروكاته وحصرها بصك بعد مراجعة الشرع الشريف، قدم الإعراض لسليمان باشا وألتمس أمره بما يُحسن ذلك.
فسليمان باشا إذ فهم هذه الخيرية مال خاطره لإتمامها، وحالاً أصدر أمره لمتسلم بيروت والقاضي والمفتي والوجوه بأن يأخذوا المبلغ من أصل التركة ويبادروا لجلب المياه المذكورة للبلدة، وإذا صرفوا زيادة يعرضوا عليه ليصدر أمره بدفعه من الخزينة، وهكذا تمّ ، ثم بادروا لجلب المياه لبيروت من مال الرجل، وزاد المصروف عن المبلغ نحو ستة آلاف، قدموا دفتراً ممضياً من الحاكم الشرعي، وبموجبه صدر أمر بصرفه من الخزينة إشتراكاً بهذه الخيرية.
هذا السبيل كان مبنياً في محلة (درج خان البيض) الذي كان معروفاً من قبل بـ {درج الأربعين} وأنقطعت مياه هذا السبيل بعد ذلك وكانت هذه المياه جارية من محلة رأس النبع ببيروت.
ومن المنشآت المائيّة التي كان البيروتيون يستخدمونها، سبيل الماء الذي أنشأه القاضي جلال الدين أفندي إسحاق ، قاضي بيروت سنة 906 هـ، وقد عُثر في جامع الأمير منذر التنوخي ببيروت على الرخامة التي كانت مثبتة فوق هذا السبيل ونصها كما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذا السبيل المبارك مولانا شيخ الإسلام والمسلمين، شمس الملة والأفاق، جلال الدين أفندي إسحاق القاضي ببيروت وجعله سبيلاً محترماً في مكان مؤسس على تقوى من الله ورضوان في بنيانه فمن أعان على مصالحه فالله معينه وحفيظه ومن أراد به سوءاً أو مكروهاً فالله مكيده وحسيبه، وكان الفراغ في شهر محرم 906 للهجرة النبويّة.
وعندما وصلت المياه إلى بيروت، بقي بعض الأهالي متمنعين عن الإشتراك بها، فعمدت البلدية إلى إنشاء أحواض أو حواويز، جمع حاووز أي الذي يحوز الماء، للمياه يستقي منها الناس وتقوم مقام الأسبِلَة التي كان يوقفها أهل الخير لسقاية المارة والغرباء.
وهكذا بني حاووز الدحديلة في الأشرفية وحاووز الولاية (حوض الولاية) الذي بقي حتى سنة 1930م، وحاووز الساعاتية بجانب فندق هوليداي إن والذي بقي صنبوره يتدفق ماءً عذباً بارداً حتى عام 1943م.
صورة نادرة لأحد السقائين في بيروت القديمة
أما البيوت التي لم يشترك أصحابها بمياه نهر الكلب، فكان سكانها يحصلون على حاجتهم من الماء عن طريق السقائين. وكان الشاب من هؤلاء يحمل عموداً خشبياً ثُبتت في طرفيه سلاسل حديدية تحمل كل منها صفيحة من التنك أو سطل معدني أو خشبي، يملؤه بالماء ويصعد به إلى البيوت العالية ، وكان السقاء بوصوله إلى أول الزاروب أو الباب الخارجي للدار ينادي: ((يا أهل البيت، دستور، يالله، أنا السقا))، ثم يدخل بعد أن تستتر النساء والبنات ويصب الماء في أزيار، جمع زير، فخارية أو أوانٍ كبيرة من الحديد.
وقد بقيت هذه الطريقة معتمدة جزئياً حتى عام 1934م عندما أُمر بهدم قبو الحَدْرة، فأزيل آخر سبيل كان يستثمره سقاء من آل النصولي، وأقيمت مكانه بناية الأسد المجنّح في ساحة النجمة تجاه البرلمان.
وآخر ما عرفته بيروت من المنشآت المائية المماثلة السبيل الذي أقامته السلطات المحلية في المدينة تذكاراً لمرور 25 سنة على ولاية السلطان عبد الحميد الثاني، وكان موضع هذا السبيل في ساحة السور المعروفة اليوم باسم ساحة رياض الصلح، وعندما عزمت الحكومة اللبنانيّة على نصب تمثال المرحوم رياض الصلح في الساحة المذكورة، رفعت السبيل وأقامته حيث هو اليوم في حديقة الصنائع.
برك بيروت
ما يزال البيروتيون الذين أدركوا أواخر العهد العثماني في مطلع القرن العشرين، يذكرون البرك، الأحواض، التي كانت موزعة في أحياء المدينة القديمة لاستعمال الجمهور وهي البرك الست الآتية :
1. بركة المحافر
2. بركة ساحة الخبز
3. بركة باب السراي
4. بركة الحاووز (حوض الولاية)
5. بركة الدحديلة
6. بركة السوق
وإلى جانب البرك الست المذكورة كان يوجد ببيروت حوضان للمياه المخزونة في قلب المدينة أحدهما يدعى (ميَّة الكراوية) كان موقعه حيث كان موقع حي الكراوية في الجهة الشرقيّة لشارع بشارة الخوري جنوبي ساحة البرج، والآخر ميَّة الدركة وهذا الحوض لم يعد له أي أثر، كما الحوض الأول.
مصلحة مياه بيروت
جاء في الكرّاس الذي نشرته مصلحة مياه بيروت في أيلول سنة 1951م، أن بيروت عرفت عام 1870م أول مشروع منظّم للمياه عندما منحت الدولة العُثمانيّة امتياز جّر وتوزيع المياه الصالحة للشرب إلى شركة فرنسية يرأسها المهندس تونان Tewninوذلك لمدة 40 سنة، غير أن حرب فرنسا وبروسيا التي أعلنت بعد منح الامتياز بأشهر قليلة حالت دون تمكن الشركة المذكورة من تحقيق المشروع، فباعته إلى شركة إنكليزيّة تأسست تحت إسم (بيروت ووتر ووركس) أي (Works Beirut Water) أشغال مياه بيروت.
وفي عام 1871م باشرت هذه الشركة الإنكليزيّة أعمالها كما يلي :
1. أنشأت سدّاً على نهر الكلب ، يبعد 1800 متر عن مغارة جعيتا.
2. أنشأت قناة حجرية طولها 4600 متر لجّر المياه إلى قرية ضبيّة .
3. أنشأت في ضبيّة حوضاً لترقيد عادي مع 3 أحواض للتصفية ومجموعة مائية دافعة .
4. مدت قساطل من الفونت قطرها 45 سنتم على طول عشرة آلاف متر توصل المياه من ضبيّة إلى بيروت.
5. أقامت خزاناً في محلة الأشرفية توزع منه المياه إلى سائر أنحاء المدينة .
وفي عام 1873م أنجزت شركة بيروت ووتر ووركس جميع منشآتها وكانت توزع كمية من المياه لا تزيد عن ألفي متر مكعب في اليوم على سكان بيروت الذين كان عددهم يومئذ 45 ألف نسمة فقط .
وفي عام 1889م عُيّن المسيو برس مارتندال مديراً للشركة (أشغال مياه بيروت) مع مدير ثانٍ كمفتش للحسابات هو ادوارد مون باكر، يعاونهما كاتب أول وهو باسيل أفندي نصر الله، والخواجات فياض التويني وجان قوزي مع مأموريْ تحصيل أحدهما نصر الله أفندي نصر والآخر أنطوان أفندي دوماني.
وعام 1897م عقدت الشركة المذكورة اتفاقية جديدة مع الحكومة العُثمانيّة ، مددت بموجبها امتيازها لمدة أربعين سنة من تاريخ انتهائه ، فأصبح مجموع مدة الامتياز ثمانين سنة أي حتى عام 1950م، وفي عام 1909م، تحوّل هذا الامتياز مع ملكية الإنشاءات الخاصة به إلى (الشركة العُثمانيّة لمياه بيروت) التي كانت مؤلفة من ألياس وإبراهيم صباغ .
وفي عام 1924م، بعد توقيع معاهدة لوزان، عدّلت الشركة إسمها فأصبحت تُعرف باسم شركة مياه بيروت، ونالت من سلطات الانتداب الفرنسي تمديداً لامتيازها أربع سنوات أخرى بدلاً من سني الحرب العالمية الأولى 1914م ـ 1918م، وبذلك أصبح امتياز الشركة لمدة 84 سنة، وقد تحول رأسمالها إلى اللبنانيين وتولى العمل فيها اللبنانيون أنفسهم وبقيت كذلك إلى ما بعد نهاية الانتداب.
في عام 1951م وجدت الحكومة اللبنانيّة المستقلة أن الشركة أصبحت غير قادرة على تمويل الإنشاءات وصيانتها كما يجب، فوضعت يدها عليها وأممت الشركة المذكورة قبل نهاية مدتها القانونية بثلاث سنوات وأطلقت عليها إسم (مصلحة مياه بيروت) وعينت لها في 17 كانون الثاني مجلس إدارة مؤلفاً من عشرة أعضاء، مهمتهم استلام الشركة السابقة وتنظيم أمورها الفنيّة والإداريّة والماليّة، ووضعت تحت تصرف هذا المجلس الأموال اللازمة للمباشرة حالاً بتحقيق المشاريع الجديدة والإنشاءات اللازمة لزيادة كمية المياه وتوزيعها توزيعاً صحيحاً على بيروت والضواحي القريبة منها.
وقد وزع المجلس الإداري أعماله على ثلاث لجان فرعيّة: إداريّة وماليّة وفنيّة، وقد باشرت المصلحة أعمالها على الفور.
ولم تكن إمكانيات شركة المياه عندما تسلمتها الدولة تكفي لجلب وتصفية وتوزيع أكثر من 38 ألف متر مكعب يومياً وهي المياه الموضوعة تحت تصرف المصلحة من نبع جعيتا نهر الكلب، لا سيما في فصلي الصيف والخريف، لذلك عمدت الدوائر المسؤولة لسد العجز بصورة مؤقتة إلى حصر الفائض من نبع فوّار أنطلياس ودفعه إلى معمل ضبية لتصفيته وجمعه مع مياه نهر الكلب.
وبعد أن أصبح تعداد سكان بيروت يزيد على نصف مليون نسمة آنذاك ، فإن مصلحة مياه بيروت درست جلب كمية 200 ألف متر مكعب يومياً من مشروع الليطاني، وقد قرر مجلس الليطاني تخصيص هذه الكمية عند وصول القناة من سد القرعون إلى أعالي الشويفات جنوبي بيروت .
وفي سنة 1959م كان مجلس إدارة مصلحة مياه بيروت مؤلفاً على الوجه التالي :
· الرئيس : إبراهيم عبد العال
· نائب الرئيس أندريه تويني
· المدير العام يوسف سالم
والأعضاء :
· خليل هبري
· نقولا رزق الله
· شفيق حاتم
· الدكتور جميل عانوتي
· الدكتور فوزي داعوق
· سامي كنعان