إنّ المكانة الرفيعة التي احتلتها بيروت في نفوس ناسها جعلتها ترتبط بأحلامهم، ممّا جعلهم يؤلفون عنها الحكايات التي تطورت مع الزمن لتصبح أساطير.
والأساطير التي حيكت حوَل بيروت، المدينة الحُلُم، كثيرة، منها ما وصلنا، ومنها ما لم يَصل، ولكنّ أكثر الأساطير المرتبطة بحياة المدينة شيوعاً اثنتان، أولاهما تتعلق باسم المدينة والثانية تتعلق بحياتها.
الأسطورة المتعلقة باسم المدينة بسيطةٌ وقصيرة تقول إن ابن ملك جبيل أحب ملكة إلهه أسمُها (بروث Broth)، وكان الفينيقيون يؤلهون ملوكهم، ولكي يخلّد حُبّه للألهة البالغة الجمال، بنى على اسمها مدينة سمّاها بروث ..... كما إن إحدى الأساطير تقول إن الألهة بيريت اختبأت بين أشجار الغابة فراحت الآلهة تبحث عنها .....
أما الأسطورة المرتبطة بحياة المدينة فتقول :
إن تنيناً عظيماً كان يخرج على سكان المدينة فيُرعبهم ويدخِلُ الهَلَعَ في نفوسِهم، وفي اللحظات التي يهاجم فيها المدينة يقتلُ ويأكُلُ من يأكله ويتشرد الباقون في طول البلاد وعرضِها .... ولمّا طالت الحكاية، وكان السكّان يرغبون في الاستقرار والأمان اتفقوا على أن يقدّموا للتنين كل عام بنتاً جميلة يختارونها بالقرعة، تكون فداءً عن أهل المدينة.
وقد وقعت القرعة في سنةٍ من السنين على بنتِ حاكم المدينة الذي لم يكن يُستثني عن باقي السكان، وكان لا بُدّ له من إخراج ابنته للتنين ... ففعل ذلك، حمل الصبية إلى مكان الموعد مع التنين، في ساحة البرج حالياً، فما كان من الصبية وكانت ذات قلبٍ عامرٍ بالإيمان إلا أن راحت تتوسلُ بالدعاء لله تعالى فتصوّر لها القديس جرجس، سيدنا الخضر، يركبُ حصاناً ويحمل قي يَدِهِ حربة، ولما أطلّ التنين برأسه من البحر وراحَ يسعى نحوَ البنت ليبتَلِعها طعنه سيدنا الخضر بحربته المسنّنة والتي لا شبيه لها في حِدّتها فقتلَ التنين في الحال، وهكذا خلّص مار جرجس، سيدنا الخضر عليه السلام، البنت الصبية وبيروت من شر التنين، فشيّد والد الصبية صاحب بيروت كنيسة في الموضع الذي قُتل فيه التنين.
وبالنسبة لناس بيروت لم تكن حكاية التنين أسطورةً بل واقعاً ملموساً، وهذا ما جاء في كتاب هنري غيز، الذي كتب في مطلع القرن التاسع عشر في الموضوع، وكان يتحدث عن ضواحي بيروت، فقال :
(إذا عدنا من الصنوبر إلى مصبّ النهر الذي تتألف منه تخوم حكومة بيروت، نجدُ جامعاً صغيراً هو جامع الخضر الذي يزعم المسيحيون أنه بنيَ في المكان الذي صَرَعَ فيه مار جرجس التنين ، وروى المؤرخون الأقدمون أنه قد قامت هناك، في المحلّ نفسه كنيسة كانوا يشاهدون أعمدتها المنحنية قبل أن واراها الثرى، وإذا تجاوزنا شاطئ البحر من الجهة الشماليّة وابتعدنا قرابة نصف ميل عن بيروت، نجد مغارةً تتسع للإيواء أكثر من أربعمائة شخص، وهذه المغارة جعلها التنين مأواه، وإذا تقدمنا نصف ميل آخر إلى الأمام، نجد كنيسة مار جرجس التي يجلّها المسلمون والمسيحيون إجلالاً كبيراً، إنّ كل تلك الآثار قد اندثرت بكامِلِها فالكنيسة دُكّت أساساتها والمغارة سُدّ بابها بسبب بعض الانهيارات).