حرّاس البلدية

POLIS

 لم تعرف مدينة بيروت نظام الحراسة إلا في أواسط القرن السابع عشر، إثر الفتح المصري وحكمه الذي إستمر عشر سنوات، والذي أدخل عدة إصلاحات هامة، منها التنظيم الصحي فأنشأ الكرنتينا، وتوسعة الشوارع، وإقامة نظام الحراسة الليليّة للمنازل والدكاكين والوكالات التجاريّة، على النسق المعمول به يومئذ في مصر (نظام الخفر).

كانت حراسة المدينة قبل ذلك، محصورة في بواباتها، حيث أقيم عند كل باب، حارس لإغلاق الباب عند الغروب ومنع دخول أي كان بعد ذلك وحتى الصباح. وكانت مهمة هؤلاء الحراس، وهم من الجنود التابعين لوالي المدينة أوحاكمها، تستمر على مدار اليوم ليلاً ونهاراً.

كان يتمّ إختيار الخفراء الجدد من أبناء المدينة المعروفين بشدة المراس والشجاعة، كما كان يشترط أن يكونوا من أبناء بيروت، ليتعرفوا على المتجولين ليلاً، وخاصة الغرباء عن البلدة.

كان الحارس، بحكم تجوله ضمن نطاق منصقته، يعرف أصحاب المتاجر وسكان الحي. وكان الناس يستعينون به في الأمور الطارئة، ففي حالة الولادة، كان يذهب الحارس ليستدعي القابلة (داية الحي) أو يرافق بعض النسوة لحمايتهن إذا طرأ ما يوجب خروجهن ليلاً، أو يلبّي صوت إستغاثة لنجدة أو حريق أو القبض على لص أو مشبوه.

كان لباس الحارس كلباس الشرطي، إلا أنه كان يضع على قلبقه نحاسة صفراء، حفرت عليها رتبته:

* حارس.

*  جاويش.

*  باش جاويش.

وعلى قبة سترته نحاسة محفور عليها رقمه. أما سلاحه، فكان نبوت طويل من خشب السنديان، يستعمل كسلاح شخصي من جهة، وللتنبيه وإشارة تعارف بينه وبين رفيقه حارس القطعة المجاورة من جهة ثانية. فكان إذا وصل إلى آخر الشارع الذي يتولى حراسته، يضرب نبوته بالأرض بشدة ويصرخ بصوت قوي (ها) فيتردد صدى صوته وصوت نبوته في ليالي المدينة الصغيرة الهاجعة، ويرد عليه زميله بالحركة والصوت ذاتهما. وهكذا يتردد الصوت من حارس إلى حارس، ومن شارع إلى شارع، فتدخل هذه الأصوات والحركات الطمأنينة إلى الأهالي النائمين.

يتناوب الحراس الخدمة من غروب الشمس حتى الصباح على نوبتين، كل واحدة ست ساعات، يسمّى حرس نوبة المساء (أكشمجي) أو كما كانوا ينطقونها في مخافر بيروت (أخشمجي). ويُسمّى حارس بعد منتصف الليل (صباحجي). وقد بقيت هذه الكلمات مستعملة في نظام الحراسة، وفي مخافر شرطة بيروت حتى عام 1945م، حيث أنشئ فوج الحراسة. وحمل الحراس السلاح بدل النبوت، واستعملوا الصفارة بدل النبوت. وبقي بعض الحراس متمسكون بحمل النبوت الطويل.

من طريف ما يُذكر أن حارس بيت الرئيس رياض لصلح (كان الرئيس رياض الصلح يكتفي بحارس واحد بلدي ليلي من عائلة الربعة، وسائق شرطي يدعى حمدي طبارة) يتميّز بطول قامته وهيبته، وشاربيه الأشقرين، فلما حضرت القوة الفرنسيّة، بعد منتصف الليل، لإعتقال رياض الصلح إثر تعديل الدستور سنة 1943م، أسرع الحارس حاملاً نبوته، إلى مركز شرطة البسطة وهو يتصبب عرقاً ويضرب نبوته على بلاط المخفر صارخاً: كمشوا رياض بك، كمشو رياض بك. ثم عاد مسرعاً إلى بيت الرئيس ليقاتل بنبوته دفاعاً عن الزعيم، بعد أن أدى واجبه وأعلم مخفر الشرطة التابع له بالحادث الجلل.

تنظيم الحراسة في عهد الإنتداب

عمدت بلدية بيروت بعد الإنتداب الفرنسي، إلى تنظيم الحراسة، فعهد إلى ضابط بيروتي ممن سبق أن خدموا في الجيش العُثماني هو اليوزباشي أي النقيب حالياً، يدعى مصطفى المغربل، بتنظيم الحراسة وأطلق عليه لقب رئيس مصلحة الحراسة. فعمد إلى تقسيم هذه القوة إلى مجموعات للأحياء كل حي حسب أهميته السكنيّة والتجاريّة، وألحق حراس كل منطقة بمخفر الشرطة، فينطلقون منه في مواعيد عملهم بمعرفة جاويشهم، وكانوا جميعاً مشاة، فلم تكن هناك سيارات أو آليات أخرى لتنقلاتهم، وكان كل حارس مسؤولاً عن شارعه، يتفقد أقفال المحلات التجاريّة، فيقلّب قفل كل محل إلى أعلى، دليلاً على أنه تفقده جيداً وتأكد من إقفاله. وبعد منتصف الليل وحضور النوبة الصباحيّة، يعيد حارس الصباح الأقفال إلى حالتها الأولى وينزل القفل، فإذا وجد أي خلل أو إشتبه بأي شيء، راجع جاويشه وكلّم رئيس المخفر لتقوم الشرطة بالتحقيق بالأمر ومعرفة ما إذا كان هناك سرقة.

يُذكر أنه أيام إستعمال المرأة للحجاب (الفيشة)، كان الحرس إذا شاهد امرأة محجبة الوجه سائرة في الليل، يسألها قاصداً في الظاهر بمساعدتها: بدك شي ياحرمة، أو بدك شي ياست ؟ وبالواقف يريد أن تجيبه لكي يسمع صوتها ويتأكد أنها أنثة، وليست رجلاً متنكراً بلباس امرأة، هارباً من وجه العدالة أو يريد شراً بأحد.

وكثيراً ما كشفت جرائم بواسطة الحراس، فيعمد مفوّض الشرطة أو المحقق العدلي إلى إستدعاء حارس الشارع أو المنطقة، يستوضحه عمن شاهد من الناس وقت وقوع الجريمة أو عما إذا كان لاحظ شيئاً غير عادي أثناء خدمته.

وزيادة في تاكيد إستتباب الأمن، كانت شبكة الحراسة والشرطة منسّقة بعناية بالغة، فالجاويش يفتش على الحراس ودوريات الشرطة المشاة التي تجوب المنطقة الأمنيّة في مناطق وأوقات محددة، كما كان مفوّض المنطقة يخرج بمداهمات مفاجئة بسيارته لتفقد دوريات الشرطة والحراس والجواش.

إستمر نظام الحراسة في السيتنات تحت إسم (فوج الحراسة)، وصار يرأسه مفوّض أو ضابط درك متقاعد، وإستبدل القلبق بالقبعة الحديثة (كاسكيت) وزوِّد الحراس ببندقية كسلاح بدل النبوت والمسدس.