ألقاب بيروت في تاريخها الحديث

 أقدم أثر ظهرت فيه كلمة (بيروت) هو كتابة هيروغليفيّة (اللغة الدينيّة لقدماء المصريين أيام الحكم الفرعوني) منقوشة على ألواح من الآجر المشوي، يحتفظ بها المتحف البريطاني في الوقت الحاضر. وهذه الكتابة يرقى عهدها إلى الأسرة الثامنة عشرة من الأسر الفرعونيّة التي حكمت مصر في العهود القديمة.

كان سلطان هذه الأسرة يشمل كل سوريا الطبيعيّة، وكانت بيروت إحدى مدنها الساحليّة آنذاك، والألواح المذكورة إشتهرت عند المؤرخين باسم (رسائل تل العمارنة).

هذه الرسائل عبارة عن 300 آجرّ كانت محفوظة في ملف فرعون أخناتون وأبيه أمنحوتب الثالث، وقد عثرت عليها صدفة فلاحة مصريّة في مكان يُدعى تل العمارنة، نسبة إلى عرب بني عمران الذين نزلوا في هذا المكان بعد الفتح الإسلامي في مصر.

وجاء في كتاب (بيروت، تاريخها وآثارها) للأب لويس شيخو اليسوعي أن أسم بيروت ورد بلفظ (بيروتا) في الألواح المذكورة. وقد تكرر أسم (بيروت) مع توالي الأحداث العسكريّة التي إجتاحت هذه المدينة لا سيما أيام قدماء المصريين الذين دامت سلطتهم في هذه البلاد عدة قرون قبل الميلاد. وكثيراً ما كان المصريون القدماء ينسبون الحديد المستخرج من جبل بيروت إلى المدينة فيقولون (با آن بيريت) أي بضاعة بيروت، وذلك لوجود جبل يحتوي على معدن الحديد بالقرب من بيروت، وهذا ما أشار إليه كل من الإدريسي، والمقدسي، وإبن بطوطة الذي قال في رحلته: (إن الحديد يُحمل من بيروت إلى مصر).

ويقول الدكتور لورتيه (Dr. Lortet) : (كانت بيروت في العهود الوسطى تدعى (بيريتيس) أو (بيروتوس) أو (بيرُووَه) (Berytus-Beroutous-Béroé) وهو إسم أعطي للإلهة (بيروت) رفيقة (إلجون) أو إلز (Eljon.Els) الذي لُقب فيما بعد بأدونيس إله جبيل. ويقول الكاتب المذكور: (وكانت الإلهة بيروت أعزّ الآلهة في لبنان، الجبل المقدّس).

أما الأب مرتين اليسوعي فيقول في كتابه (تاريخ لبنان) إن الأساطير تذكر أن إثنين من أعيان مملكة جبيل. شاب وفتاة، لما تزوجا انتقلا من بلدتهما جبيل وسكنا في المكان الذي عُرف فيما بعد باسم (بيروت) وهو إسم الزوجة. وهذا الكلام يؤكد لنا أن أهل جبيل هم الذين أسسوا مدينة بيروت التي جعلوها مستعمرة لهم. ولكن المؤرخين أو بعضهم على الأقل قالوا: إن بيروت تعني صنوبرة وأصل هذه اللفظة فينيقي، هكذا يقول الأب يُوسُف حبيقة في كتابه (الدوائر السريانيّة في سوريا ولبنان). بينما يقول الدكتور أنيس فريحة في كتابه (أسماء المدن والقرى اللبنانيّة وتفسير معانيها) ورد ذكر بيروت في رسائل تل العمارنة هكذا Bé-ru-ta ورجح الدكتور فريحة أن يكون معنى الأسم صنوبرة.

وخلاصة القول في معنى كلمة بيروت: أن أكثر الذين تكلموا عن بيروت ردّوا أسمها إلى الأصول اللغويّة الساميَّة، كالفينيقيّة والآراميّة، والآشوريّة، والسريانيَّة، وقالوا إن معناها في اللغات المذكورة (شجرة الصنوبر) أو (شجرة السرو).

وفي نفس الإتجاه سار المؤرخ الزحلي المعروف عيسى إسكندر المعلوف حيث يقول: (وفي آثار مصر الفرعونيّة إسمها "والضمير يرجع إلى بيروت" (باروتو) ويوافق على هذا الرأي عالم الآثار الفرنسي: (ماسبيرو) ومعناها السّرو والصنوبرة).

بعد هذه القافلة من الأقوال المنقولة عن المؤرخين الذين عنوا بدراسة بيروت ننتهي إلى التأكيد بأن كلمة بيروت تعني شجر الصنوبر أو السّرو وأغلب الظن أن هذه المدينة إكتسبت إسمها من إسم الغابة ـ غابة الصنوبر ـ التي كان إنشاؤها في البدء إلى جوارها).

أسماء أخرى لمدينة بيروت

تقلب على مدينة بيروت أسماء أخرى نتيجة لظروف سياسيّة أو عسكريّة مرت عليها من ذلك.

1.   لاذقية كنعان، أو لأوذيسة الفينيقيّة : ففي عام 146 قبل الميلاد أُحرقت بيروت نتيجة الحروب التي دارت على أرضها بين ديمتريوس الثاني الملقب بنيكاتور (الغالب) ومنافسه على الحكم إسكندر بالا. وعندما إنتصر تريفون المحازب لبالا على ديمتريوس صبّ جام غضبه على بيروت وأعمل فيها النار والدمار، فلما أُعيد بناء المدينة نقلت من مكانها إلى ناحية الجنوب وبُنيت عند الخان القديم بين وادي الشويفات ونهر الغدير، ولعل أهل زماننا يمكنهم أن يتأكدوا من مكان بيروت بعد نقلها إلى قرب خلدة من الآثار التي أُكتشفت قبل عدة سنوات في منتصف الطريق بين الأَوزاعي وخلدة والتي إندثرت اليوم بعد بناء مدرج جديد لمطار بيروت الدولي.

2.   جوليا فيلكس (الرومانيّة): في عهد أغسطس أَطلق هذا الأمبراطور الروماني إسم إبنته جوليا على مدينة بيروت، ومنحها لقب المستعمرة الممتازة، أو المستعمرة السعيدة ومن حينها إشتهرت بيروت باسم : جوليا فيلكس، أي جوليا السعيدة.

3.   دربي: يقول الأب لويس شيخو اليسوعي وهو يتحدث عن بيروت وتاريخها وآثارها: إنه شاع لبيروت بين السريان خصوصاً إسم (دربي) كما يرويه بْر بهلول، وبْر علي في معجمها. ثم يقول شيخو: ودربي إحدى مدن اليونان.

4.   ورديدون: ومن الأسماء التي عُرفت بها بيروت على مدى تاريخها في العصر الوسيط (أواخر القرن العاشر الميلادي) (ورديدون) فلقد جاء في كتاب (تاريخ سوريا) لجرجي يني" (... أورد صاحب (سفر الأخبار) نص رسالة بعث بها زاميتاس قائد جيوش نيكوفورس فوقا، قيصر القسطنطينيّة المعروف عند العرب باسم (الشمقمق) إلى الشودشاهان ملك أرمينية يخبره عن إستخلاص بعض مدن سوريا باسم مولاه... وقد ورد في تلك الرسالة ذكر بيروت... باسم (ورديدون).

5.   باروت: هذا الإسم أطلقه على بيروت الصليبيون الذين إحتلوا سواحل سوريا وبلاد فلسطين في القرن الحادي عشر الميلادي وتاليه القرن الثاني عشر. وآنذاك كانت بيروت وأراضيها في الشمال والجنوب وسفوح جبل لبنان المطل عليها من ناحية الشرق نصيب الفرنسيين الذين جعلوا منها إمارة خاصة بهم تحت حكم بعض الأسر الفرنسيّة الإقطاعيّة التي حولتها إلى دويلة تابعة لمملكة أورشليم تحت إسم (إمارة باروت) وعلى رأسها أمير فرنسي يحمل لقب (صاحب باروت). يقول الأب لامنس اليسوعي: (في 13 أيار 1110م تقدّم بغدوين (Baudwin) أو غود فروي دو بويون (Godefroi de Bouillon) ثاني ملوك أروشليم (القدس) فانتزع من فاطميّي مصر مدينة بيروت المدعوة إذ ذاك باروت (Barouth) وكانت غابة الصنوبر قد وفرت الخشب لتجهيز آلات الحرب المستعملة في الحصار).

النعوت التي وصفت بها بيروت

أطلق الفينيقيون على بيروت لقب المدينة الإلهة وأحاطوها بكل مظاهر العبادة التي كانت شائعة في زمانهم وجعلوا لها معبداً باسم (بعلة بيريت) أي ربة الميثاق. ويذكر الأب موترد اليسوعي في مقال له بمجلة المشرق أن هذا المعبد كان يقع حيث تقوم اليوم كاتدرائيّة الأرمن المقابلة للسراي الكبير من الناحية الجنوبيّة. وقد عُثر في أرض هذا المكان على قطع نقديّة فيها صورة الهيكل البيروتي وترجع هذه النقود إلى الإمبراطور السوري أليغابال (إله الجبل) الذي عاش حاكماً من سنة 217 إلى سنة 222 بعد الميلاد.

وتروي الأساطير القديمة أن بيروت عُرفت بلقب (بيروت الأبيّة والمجيدة) لأنها كما يقول الأب لويس شيخو: (لم تكن تستكين مطلقاً لعدوتها صيدا، وكان أهلها ذوي شجاعة فائقة وأنفة، لذلك يسميها كتّاب (السبلاّت) بيروت المجيدة والأبيّة).

وقد أفادت بيروت من وجود معهد الحقوق الروماني فيها وأصبحت بفضل هذا المعهد تحمل لقب أم الشرائع وروحها.

على أن موقع هذه المدينة لم يكن دائماً واحداً أو في مكان واحد. إن عوامل الطبيعة والظروف الدينيّة والعسكريّة كانت دائماً تحمل بيروت من موقع إلى آخر. ولهذا نجد إسمها يتكرر على مواقع متعددة.

من ذلك :

بيروت العتيقة التي كان موقعها حيث تقوم بلدة بيت مري اليوم. وهناك أكثر من سند تمليك عقاري (طابو) يحمل إسم بيروت العتيقة. وهذه السندات تعتبر من الوثائق العقاريّة التاريخيّة الرسميّة ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر.

عودة بيروت إلى عالم الألقاب

بعد أن تحقق أمل البيروتيين، وعادت بيروت مركزاً لولاية كبيرة، عادت الأقلام لتتبارى متنافسة في التحدث عنها وعن ميزاتها ومكانة أبنائها، وراح الكتّاب في الشرق والغرب يطلقون عليها ألقاب العظمة والمجد والسؤدد، دون ضابط ولا تحفظ، وأصبحنا نرى إسمها مضافاً لأعذب الصفات والنعوت، سواء في الصحافة الدارجة أو الكتب المصنّفة، أو من فوق أعواد المنابر في محافل المحاضرات التاريخيّة أو المناظرات العلميّة، ففي عام 1902م صدر عدد مجلة (الهلال) وفي صفحاته إسم بيروت يزدان بلقبين كريمين هما: (زهرة سوريا وزهرة الشرق) وكأن الكاتب لم يشأ أن يجعل منها زهرة لبلاده فقط، يعبق أريجها داخل حدودها الضيقة، فراح يجعل منها زهرة فواحة بالعطر والشذى على سائر أنحاء الشرق من ساحل الشام عند البحر المتوسط حتى جزر اليابان عند المحيط الهادىء.

وفي كتاب كولينيه عن تاريخ معهد الفقه الروماني، حظيت بيروت على صفحات هذا الكتاب العلمي، بلقب ضخم فضفاض هو: (مفتاح الشرق)، ويرى هذا الكاتب الفرنسي أن الرومان لم يختاروا بيروت لإقامة معهدهم لدراسة قوانينهم إلا لأهليتها وأهميتها الجغرافيّة، هذه الأهمية التي جعلتها جديرة بأن تكون في ذلك الحين، مدخلاً إلى بلاد الشرق كله.

أما الأب لامنس اليسوعي فقد جعل بيروت تسترجع في عهد آل عُثمان لقب (الدرة الغالية) الذي أكتسبته عن جدارة وإستحقاق في أيام الصليبيين، حين كان لهم في أورشليم (القدس) اللاتينيّة تاج الحكم وصولجانه. ولكنها في عهدها العُثماني، حظيت بهذا اللقب الوهّاج على لسان إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني الذي قدمها زائراً بدعوة من السلطان عبد الحميد الثاني في أواخر القرن التاسع عشر 1898م.