المقدمة العامة حول العيون
من قديم والإنسان يهيم بالجمال ويُشغف بالحسن أنَّى وجده !
ولقد كانت نظرة الإنسان الأولى للأشياء على وجه الإجمال، فلما تقدم به الزمان أخذ ينظر إلى الأشياء تفصيلا، وراح يتعقب مواطن الجمال في كل عضو من الأعضاء !
وإذا كان أجمل الأحياء "الإنسان" فإن أجمل ما فيه عيناه !
وإذا كان لكل شيء "خلاصة" فخلاصة الإنسان عينه !
وكيف لا وهي مستودع سرّه، ومرآة حياته، والنافذة التي يُطلّ منها على ما نكنه في أعماق نفوسنا من عواطف وميول ورغبات .
وقد شغلت العيون الأدباء والشعراء والمؤلفين، كما تناولتها الكتب الدينية منذ قديم السنين .
ذكر القرطبي (رحمه الله) في الجامع لأحكام القرآن: روي عن عثمان بن عفان "رضي الله عنه" :
أن أنس بن مالك دخل عليه وكان قد مرّ بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه، قال عثمان "رضي الله عنه" : يدخل عليَّ أحدكم وفي عينيه أثر الزنا !
فقال له أنس "رضي الله عنه" :
أوَحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال : لا ولكن برهان وفراسة وصدق .
وقال عمرو بن نجيد : (حلية الأولياء) .
كان شاه الكرماني حاد الفراسة وقلما أخطأت فراسته وكان يقول: من شخص يصره عن المحارم، وأمسك عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعوّد نفسه أكل الحلال لم تخطىء فراسته . . .
فالعيون تعكس كل ما يكنه القلب وما تكبته النفس، لها لغة بلا حروف، تُقرأ بلا لسان وتُفهم بالوجدان لفئة اصطفاها الله بموهبة الفراسة ومنحة الفطنة وشفافية الروح ونقاء السريرة وقوّة اليقين، إنها لغة العيون التي عيوننا على حروفها، ولكن نجهل تحليلها، وحل معانيها لضعف إيماننا، وقلق أنفسنا، وتوترها بمشاغل الحياة ، وتحجر فكرنا بالماديات التي هي جدار حاجب لكل الصفات الحميدة.
وبذلك ينطبق علينا حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتَّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنًور الله) (أخرجه الترمذي في كتاب التفسير برقم "3127") .
لغة العيون وغَضّ البَصَر
إن لغة العيون كعلم الفراسة مُقيد بظوابط شرعية كالأكل والشرب كله حلال إلا ما حرّم الله، فهي ليست مطلقة في كل حال، بل هي مقيدة بغضّ البصر، ليست لغة العيون التمتع بجمال العيون أو الغوص في أغوارها بالهيام والغرام، كلا هذه ليست لغة، بل هوى وغور لا خروج منه ولكن هي استجلاء مكنونات النفس وما يدور بالخَلد من خلال تفرس حركة العيون وتأثرها وكلامها الصامت المعبر عما يجول بالوجدان وخلجات النفس ونوايا الفؤاد مع استبصار ببصيرة ثاقبة وقوة حدس في الأعماق مع قوة ونشاط ملحوظ للحاسة السادسة لتفهم من تعامله. وهذا ليس ادعاء للغيب فلا يعلم الغيب إلا الله - ولكنها فراسة وتوسم، فلا بد أن نعي ونفهم أن المقصود بـ (لغة العيون) هنا ليس إذن ادعاء اختراق الحُجُب، ولكن معرفة مدلولات صفاتها وحركاتها المتغيرة بتغير المكنون والمكبوت في مشاكل الحياة، لكن إذا ما وضع قدمه على الدرب المنير المستقيم وسار في طريق النور فإنه سيُلهم الفكر المستنير بنور الله والعقل السوي فيضيء عقله وفكره ونفسه وبصيرته وبصره بقوة الاستبصار بلغة العيون وإدراك تعبيرات الوجه وما تعني .
لغة العيون من التَّوسّم
قال تعالى في سورة الحجر : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) ). روى الحكيم الترمذي عن أبي سعد الخدري "رضي الله عنه " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : للمتفرسين، وهو قول مجاهد .
وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعد الخدري "رضي الله عنه" قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) .
قال هذا حديث غريب، قال مقاتل وابن زيد : للمتوسمين للمتفكرين .
وقال الضحاك : للناظرين، قال الشاعر :
بعثوا إلى عريفهم يتوسم | أَو كلما وردت عكاظ قبيلة |
وقال قتادة : للمعتبرين
قال زهير :
أنيق لعين الناظر المتوسم |
وفيهن ملهى للصديق ومنظر |
وقال أَبو عبيدة : للمتبصرين، والمعنى متقارب .
وروى الحكيم الترمذي من حديث ثابت عن أنس بن مالك "رضي الله عنه" قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن لله عز وجل عبادا يعرفُون الناس بالتوسم) .
قال العلماء : التوسم تَفعُّل من الوَسْم، وهي العلامة التي يُستدل بها .
يقال : توسمت فيه الخير إذا رأيت مِيسم ذلك فيه .
ومنه قول عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم :
والله يعلم إني ثابت البصر | إني توسمت فيك الخير أعرفه |
وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من فَرْقك إلى قدمك (أي من رأسك إلى قدمك) .
وأصل التوسّم التثبت والتفكر مأخوذ من الوَسْم، وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره .
وذلك بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر .
زاد غيره : وتفريغ القلب من حشو الدنيا وتطهيره من أدناس المعاصي وسوء الأخلاق وفضول الدنيا .
روي عن عن الشافعي ومحمد بن الحسن: أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما : أراه نجارا، وقال الآخر: بل حدّادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله، فقال: كنت نجارا وأنا اليوم حدّاد .
وهنا يأتي التساءل : "هل الإنسان عندما يُخلق ولعينيه صفات تدل على السوء والسلبية تكون ملازمة له طيلة حياته أم آية الإيمان بغير تلك الصفات ؟ !
سأل رجل أحد الصالحين العلماء الحكماء : ما بال وجوه الصالحين نراها نظرة عليها نور وحياة ؟!
فقال له : "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره" .
فنور الله إذا إذا اكتسى به وجه الرجل الصالح تتغير فيه لغة العيون من القبح للجمال، ومن الشّر للخير . . . . . إلخ . ولذا نقول إن العيون تكشف ما يُختزن في القلب . . . وليس هناك خداع .
فالعيون لا تكذب ولا تخدع، ولكن السلوك والتصرفات يكون فيها الإزدواجية والنفاق (والعياذ بالله) ، أما العيون فهي النافذة التي تنظر من خلالها أو نحوها حقيقة مكنونات ومكبوتات الشخصية التي أمامك حتى أن هناك أمراضا لا تُعرف إلا بلغة العيون كاليرقان (الصّفراء) والأنيميا . . . ولذا حينما يكون هناك لصّ فإنه مهما تصنّع البراءة والوداعة والأمانة فإن عينيه تفضحانه، لأن الله لا يحب كل خوّان كفور . . . فيحدث قلبه اضطرابا في الدورة الدموية فتتوتر أعصابه وترتجف عينيه فتنطق عيناه بلسسان حاله .
قال أحد الحكماء : "والله إني لأعرف الزاني من عينيه والعياذ بالله".
ومن منا وهو طفل صغير ينسى (عينك في عيني) حينما يحدث خلاف أو نزاع على شيء، ولذلك قال الله عزّ وجل في سورة الحج :أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
فالعين ترتسم عليها لغة الحقيقة حسب التحولات القلبية للشخص ، فتارة نجد بالأمس عينا غائرة تَنُمُّ عن غموض وخطورة صاحبها، فإذا ما استقام ونوى الخير نجد نفس العين الغائرة وكأنها كوكب دري بالبسمة والبريق ونور الإيمان .
والأمثلة كثيرة بالقرآن مع سيدنا موسى، وسيدنا يعقوب بقوله تعالى في سورة يوسف :وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
وقوله تعالى في سورة غافر : يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
قال ابن عباس "رضي الله عنهما" : "هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمرّ المرأة فيسارقهم النظر إليها" . وعنه : "هو الرجل ينظر إلى المرأة، فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه عضّ بصره وقد علم الله عزّ وجل منه أن يود لو نظر إلى عورتها" . . . . . إلخ .
العلاقة بين الاستبصار وبين الروح
الاستبصار غير الإبصار ، كالبصيرة والبصر .
قال تعالى في سورة الحج :أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
إن ثمة علاقة بين قوة الاستبصار ونشاط المخ . . فكلما كان المخ نشطا كانت الفراسة في لغة العيون ، وذلك لعدم تراكم ما يشغل العقل وتفرغه للإدراك، ولذا هناك بصر وبصيرة، بصر بالعين وبصيرة بالحدس الإيماني في الروح .
العلاقة بين لغة العيون والحاسة السادسة
إن ثمة أمرا غريبا يباغتنا حينما نتعرض للخطر، وهو ظهور فجائي لقوة خارقة تقذف بنا بعيدا عن مكمن الخطر، مما يثبت أن بداخلنا قوى خارقة لا تظهر إلا عند الخطر .
وبما أن هناك شفافية في بعض الناس يكتشفون من خلالها حقائق كلغة العيون وعلم (التلباثي) - كحادث سارية الجبل الذي حدث مع سيدنا عمر بن الخطاب - وهو الشعور عن بعد بما يحدث لمن تحب والمبادلة بنفس المشاعر، كما يقال في المثل الشعبي (القلوب عند بعضها) ، و(من القلب للقلب رسول) .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" - أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب البر والصلة - فتلاقي الأرواح أمر بيد الله سبحانه وتعالى، وهذه المنح لا تصطدم بمعرفة الغيب لأنها تقرر مواقف وتستبصر أشياء خارجة عن نطاق الغيبيات لأنها صفات ثابتة يعرفها صاحبها وبعضا ممن حوله مع علم التوسّم كتوقعات بحدس الحاسة السادسة .
وقد كان العالم الألماني "رودلف تستشنر" هو أول من تناول ظاهرة الإدراك الحسّي الخارق بدراسة جادّة أوائل العشرينات، وأطلق عليها مصطلح . E. S. P المنسوب مجازا إلى الحاسة السادسة، وصنفها إلى فروع متنوعة .
وأصدر "رينيه سودر" في عام 1960م كتابا عنوانه: "بحث عن البارسيكولوجي" ذكر فيه أن المعلومات التي تلتقطها المدارك الخارقة لا تصدر بالضرورة عن نفاذ البصيرة، وإنما تتولد في العقل الباطن كالذكريات - توجد عدة آراء حول هذه الظاهرة لن نسترسل في شرحها لطولها، حيث تستحق إفراد بحث خاص بها - .
لغة العيون
إن لغة العيون حركة متغيرة بتغير مكنونات القلب، ومكبوتات النفس، فكم من أناس تجحظ أعينهم نتيجة لمرض ما وشخصياتهم في غاية النبل والطيبة والكرم، وكم من أشخاص عيونهم خِلقيًّا جاحظة وترى على وجوههم بهاء وصفاء وحقيقتهم حسن الخُلُق ونقاء السريرة. ولذا فعندما نقول: إن للعيون حركات فإنها هي أبجدية لغة العيون، فالعيون حينما يمكر صاحبها تبدو في صورة عين الثعلب . . والعين التي تضمر الشّر والعدوان تتسع حدقتها بجحوظ كأنها ترمي بشرر، وهي في الأصل لم تكن كذلك .
فمن أجل ذلك يجب أن نعي أن لغة العيون هي لغة صفحات القلب، فقد يكون شخصا ما عدوّ لك وهو لأولاده الحب كلّه فتكون حركة العيون بلغة العيون تختلف في الموقفين. ومن فراسة من يقرأ لغة العيون أن يفكر ويدقق ويَعرف حقيقة من يتفرّسه قبل أن يبدأ في فكّ حروف لغة عيونه ليصيب عين الهدف .
علامات وسمات من يُدركون لغة العيون
01 الصفاء الروحي والنقاء النفسي ويقظة الضمير
02 الحِلم والتسامح والكرو والإيثار
03 سرعة البديهة وسعة الأفق
04 الهدوء في الفكر والسلوك
05 قوّة الذاكرة وسرعة الحفظ
06 الشجاعة مع النظر لعواقب الامور
07 الحكمة القائمة على أصول علمية وأدبية
08 الصمت مع الفكر البنَّاء المثمر
09 التحرر من الحَمية والعصبية الجاهلية
10 قوّة التركيز مع التدقيق غير المُخل ، والشرح غير المُمل لكل القضايا الهامة
11 الحزْم والحَسم مع الثبات على المبدأ
12 صدورهم رحبة . . لا يتكبّرون . . بُسطاء . . مُتواضعون
من أدب لغة العيون
قال الإمام عليّ "رضي الله عنه" :
وإني على ترك الغمـــوض قدير | أغمـض عيني في أمور كثيرة |
تعامى وأغضى المـرء وهو بصير | وما من عمى أغضى ولكن لربما |
وليس علينا في المقــــال أمير | وأسكت عن أشياء لو شئت قلتها |
وإني بأخلاق الجميـــــع خبير | أصبر نفسي باجتهــادي وطاقتي |
ويقصد بذلك "رضي الله عنه" أنه يعرف بفطنته وفراسته أمورا تعيب صاحبه ولكن حياءًا وأدباً جمًّا منه يَتَغاضى عنها عسى الأيام تؤدب ذلك الصاحب ، وهذا لا يتنافى مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا النصح والإرشاد في الله ولله . . ولكن تساميا وتسامحا منه مع صاحبه وعدوّه لكيلا يفضح أمره أو يحرجه، وذلك أثرة على نفسه وكظما لغيظه وحِلما من ذات نفسه، وتأكيد ذلك في البيت الأخير.