منذ عام 1635م دخلت جمعية الأباء اليسوعيين ( الجزويت Jesuites ) البلاد السوريّة، وأسست مدرسة لاهوتيّة في عينطورا ، ثم بعد أكثر من مئة عام صدرت أوامر الكرسي الرسولي بحل تلك الجمعيّة، غير أن إنطلاق المؤسسات التبشيريّة الأخرى، وفي مقدمتها المرسلون الأميركيون كان مدعاة لإعادة الآباء اليسوعيين نشاطهم في البلاد السوريّة لا سيما في بيروت وجبل لبنان.
ففي عام 1831م وصل الآباء اليسوعيون إلى بيروت لدراسة الأوضاع التربويّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وقام وفد منهم مكون من الأب ريكادونا Ricadonna والأب بلانشيه Blanchet والأخ همنزا Henzé بزيارات إلى جميع قناصل الدول الأوروبيّة لاطلاعهم على نشاطهم التعليمي والتبشيري، ويبدوا أن القنصل الفرنسي في بيروت لم يكن على دراية بمجيئهم ونشاطهم، غير أن الملاحظ أن هذا النشاط اليسوعي بدأ مع الوجود المصري في بلاد الشام عام 1831م-1840م، وهناك مصدر يقول أنه في سنة 1834م خلال الحكم المصري، وصل إلى بيروت أول راهب يسوعي، وكان صاحب النصارى في الكرسي البابوي بالفاتيكان قد رفع الحظر عن اليسوعيين الذي فرض عليهم سنة 1733م وسمح لهم بإعادة تنظيماتهم واستئناف نشاطهم. وأسهم هذا الراهب، ريمون أستاف الذي اشتهر بين اللبنانيين باسم (بونا سليمان). وفي سنة 1839م لحق به زميل له من أصل بولوني اسمه مكسيميليان M.Ryllo الذي اشتهر هو الآخر باسم (الأب منصور) .
وفي عام 1839 استطاع الآباء اليسوعيين بواسطة الأب مكسميليان M.Ryllo شراء عقار لهم خارج سور مدينة بيروت في مزرعة الصيفي، وقاموا بإنشاء عدة مدارس ومطبعة، وعدة مراكز يسوعيّة. ومنذ عام 1841م أسس الآباء اليسوعيون ثلاث مدارس ارتادها أكثر من ثلاثمائة طالب، أما التدريس فكانت متنوعة منها:
1. اللغة الفرنسيّة
2. اللغة العربيّة
3. اللغة السريانيّة
4. الأدب
5. التاريخ والجغرافيا
6. الحساب
7. والتعليم الديني المسيحي بأساليب تبشيريّة
ومنذ عام 1843م أسس الآباء اليسوعيون مدرسة ثانوية قي منطقة غزير اعتبرت المدماك الرئيسي، فيما بعد، لولادة الجامعة اليسوعيّة في بيروت، فقد استطاعت هذه الثانوية استقطاب المئات من اللبنانيين والسوريين المسيحيين، وقد تخرج منها في الفترة 1843-1875 عدد كبير من رجال الدين العلمانيين، أصبح منهم فيما بعد بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان ورجال سياسة ومدّرسين وأدباء وعلماء.
لقد تطلع الآباء اليسوعيون إلى النجاح الباهر الذي كانت تلاقيه (الكلية السوريّة الإنجيليّة) في بيروت، والتي كانت تستقطب الطلاب الكاثوليك من اللبنانيين، حيث بدأت البروتستانتيّة تلاقي رواجاً بين الكاثوليك، وبسبب الوضع التنافسي، وبعد التنسيق مع المراجع الكاثوليكيّة الروحيّة والزمنيّة المحليّة والأجنبيّة، تقرر نقل النشاط اليسوعي من غزير إلى بيروت، وإقامة جامعة تواجه المعتقدات الإنجيليّة البروتستانيتية.
وبالفعل في عهد الرئيس اليسوعي الأب مونو، إشترى اليسوعيون قطعة أرض بلغت مساحتها ما يقارب سبع عشر ألف متر مربع، وبوشر العمل في بناء الجامعة اليسوعيّة في أوائل شهر تشرين الثاني سنة 1874م، وما هي إلا سنة حتى إنتقل الطلاب من غزير إلى بيروت وذلك في خريف سنة 1875م، واستطاعت مدرسة غزير بفضل رئيسها الأب مونو أن تتحول إلى جامعة وبمباركة وبموافقة من الكرسي الرسولي.
وما هي إلا سنوات حتى بدأت الجامعة اليسوعيّة تتوسع في كلياتها وأبننيتها، فبعد افتتاح الكليات الإنانيّة ، افتتحت كليتي الطب والصيدلة ، ومعهد الدروس الشرقيّة. أما المبنى الجديد لكلية الطب فقد أقيم عام 1912م، أما مستشفى الجامعة، فقد أقيم عام 1920م بعد سيطرة الفرنسيين على لبنان، وعلى نفقة الحكومة الفرنسية، أما مستشفى (أوتيل ديو) فقد افتتح عام 1924م.
والأمر الملاحظ، أنه في الوقت الذي استطاعت فيه الجامعة الأميركيّة من تجنيب نفسها ويلات الحرب العالميّة الأولى، ونقمة الأتراك، فإذا بالجامعة اليسوعيّة تتعرض في فترة الحرب للنهب والسطو وسرقة محتوياتها.
وهكذا يُلاحظ، بأن الجامعة اليسوعيّة التي استقطبت آلاف المسيحيين اللبنانيين، وقدمت لهم كل مساعدة، وهي التي ابتدأت بمدرسة متواضعة في غزير، فإذا بها في بيروت تنمو وتتطور، فباتت تضمّ كليات اللاهوت والفلسفة والطب والصيدلة والحقوق والهندسة والدراسات الشرقيّة، فضلاً عن مكتبة من أهم مكتبات لبنان والمنطقة العربيّة، حيث تحتوي على عدد وفير من المخطوطات النفيسة والمصادر الأساسيّة في مختلف اللغات، بالإضافة إلى إنشائها مرصد كسارة الشهير.
أما بقية المؤسسات الفرنسيّة الناشطة في بيروت والمناطق اللبنانيّة فيأتي في مقدمتها نشاط (البعثة العلمانيّة الفرنسيّة)، الليسه، التي افتتحت مدارسها في بيروت في تشرين الأول سنة 1909م للذكور والإناث، بدعم مباشر من وزارة التعليم الرسمي في فرنسا التي أرسلت أساتذة فرنسيين في مختلف الإختصاصات باستثناء أساتذة اللغتين العربيّة والتركيّة.
وتوالت إنشاء مدارس البعثة العلمانيّة سواء على خط طريق الشام ـ المتحف، وفي زقاق البلاط (ليسه عبد القادر) وفي منطقة فردان (ليسه فردان) وسواها.