في الأزمنة الغابرة وحتى أواسط القرن العشرين لم تكن مدينة بيروت تغطي هذه المساحة الواسعة من الأرض التي تشغلها اليوم، بل إن هذه المدينة كانت إلى ما قبل قرن ونصف القرن من أيامنا، عبارة عن مجموعة من المساكن المتلاصقة المحشورة في رقعة ضيقة من الأرض طولها لا يزيد عن سبعمائة وخمسين متراً وعرضها حوالي ثلاثمائة وسبعين متراً، يحيط بها من جهاتها الأربع سور من الحجارة الرمليّة المدعومة بأنقاض الأعمدة المتخلفة عن حطام الآثار الرومانيّة والبيزنطيّة القديمة، وتتخلل هذا السور الذي بناه أحمد باشا الجزّار في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد بضعة أبراج ذات أبواب مصفحة بقطع من الحديد المثبت على الأبواب بمسامير ضخمة ناتئة.
كان هذا السور يمتد من الجهة الشماليّة لساحة رياض الصلح الحالية ويسير شرقاً حتى كنيسة مار جرجس المارونيّة التي كانت تقع عند بنائها في ظاهر السور، ثم إن السور يمتد بعد ذلك إلى سوق أبو النصر الذي هو الآخر يقع خارج السور، إلى أن يصل، أي السور، إلى بناية دعبول تجاه جامع السرايا المعروف اليوم باسم جامع الأمير منصور عساف، ثم ينحدر شمالاً إلى آخر شارع فوش الحالي عند الطرف الغربي لمنطقة المرفأ ومن هناك يأخذه هذا السور سبيله غرباً حتى مقبرة السنطيّة التي كانت خارج المدينة وسورها، ثم يعود ويرتفع مع الشارع الممتد حالياً باتجاه باب إدريس ثم صعوداً حتى الكاتدرائية المعروفة باسم (الكبوشيّة) التي كانت أيضاً خارج السور، ثم يلتقي أخيراً مع البداية التي إنطلق منها في شمالي ساحة رياض الصلح والتي كانت تُعرف من قبل باسم (ساحة السور) أو كما يسميها عامة الناس (عصّور) أي (على السور).
في داخل نطاق السور كانت المدينة المربعة أو بيروت القديمة، أما خارج السور فكانت البريّة التي لم تعرف العمران إلا بعد أن كاد ينتصف القرن التاسع عشر، أما قبل ذلك فإن هذه البريّة كانت المكان المفضّل لاستراحة الموتى من عناء الحياة، ففي الجهة الشرقيّة باتجاه الشمال كانت تتنائر مقابر المسلمين:
1. مقبرة باب المصلى
2. مقبرة الغرباء
3. مقبرة المغاربة
4. مقبرة السنطيّة
5. مقبرة الباشورة
وفي أقصى المدينة كانت تقوم مقابر النصارى على اختلاف مللهم ونحلهم ، وما تزال في المحلة المعروفة برأس النبع، ومعها مقبرة اليهود، كما أن للنصارى أيضاً مقابر اللاتين الموجودة تلك الأيام في محلة ميناء الحصن التي أصبحت اليوم منطقة عامرة بالمسابح والفنادق والوكالات التجاريّة الكبرى، وقد عفت الحرب عليها.
وإن منطقة البريّة التي نتحدث عنها كانت الميدان الذي يستريح في رحابه القادمون إلى بيروت قبل أن يُوذن لهم بدخول المدينة، وكان فيها بعض الخانات المعدّة لاستقبالهم، وهذه الخانات كانت تقوم مقام فنادق هذا العصر وتزيد على هذه الفنادق بأنها كانت تؤوي مع بني آدم رَكوبهم من الجياد والجِمال والحمير والبغال!.
ويبدو أن هذا السور رافق المدينة منذ تأسيسها على رأي بعض المؤرخين الذين يرجعون به إلى عهد الكنعانيين والحثيين ، ويقولون بأن ارتفاعه كان في ذلك العهد خمسة أمتار وأن سماكته أربعة أمتار ، ويؤكد هؤلاء قولهم هذا بأن الحفريات التي تناولت ساحة السور أثناء تخطيط الشوارع المحيطة بها كشفت عن بقايا السور الكنعاني الحثي التي جعلتها التطورات الجيولوجيّة تغيب تحت سطح الأرض.