عندما إنسحب الروم، البيزنطيون، من بيروت أمام الموجة العربيّة الدافقة بقيت نفوسهم تتلهف للعودة إليها، ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى أعادوا الكرّة على ما بأيدي المسلمين من السواحل واستعادوها فعلاً، على أن عودة الروم إلى سابق ممتلكاتهم على سواحل الشام لم تطل إذ وضع معاوية لها حداً نهائيّاً في خلافة سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه، عندما قصد إليهم واستخلصها ثانية من أيديهم، ويقول البلاذي في (فتوح البلدان) عن هذه المساجلة بين الفريقين، العرب والروم، (ثم إن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل، بيروت وما حولها، في خلافة عثمان بن عفّان، فقصد إليهم معاوية حتى فتحها ثم رمّها وشحنها بالمقاتلة).
ونستطيع أن نفهم من كلمة رمّها التي استعملها البلاذي بأن معاوية قد حصّن المدن التي استعادها من الأعداء، وبيروت بطبيعة الحال في جملتها، وأنه جعل في حصونها جنوداً محترفين، يقيمون بصورة دائمة، ليس لهم من عمل إلا الدفاع عنها ضد من تحدثه نفسه بالعدوان عليها، وأعطاهم القطائع مكافأة لهم وتشجيعاً.
إذن، فإن بيروت كان لها في عهدها العربي الأول سور، وكان المسلمون يتقربون إلى الله بالمرابطة فيها، وهذا ما جعل مؤرخي ذلك العصر يطلقون عليها لقب (مرابط أهل الشام)، ومما يؤكد لنا هذا الاستنتاج، أن الصحابي الجليل الدرداء بن أبي الدرداء حينما سأل عن مرابط أهل الشام قيل له إن هؤلاء يرابطون في بيروت، ومن المعروف أن الرباط في الإسلام لا يطلق إلا على الحصن الذي يقيم به المجاهدون المتطوعون للدفاع عن بلادهم والجهاد في سبيل دينهم، ومن أشهر الذين رابطوا في بيروت الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام والمغرب والأندلس.
وعلى الرغم من أن بيروت لم تلعب في العهد العربي من تاريخها دوراً بارزاً في تقرير مصير بلاد الشام، إلا أنها بقيت على الدوام ثغر دمشق وفرضتها، وإليها يفزع المجاهدون لدرء الخطر الخارجي الذي يستهدفهم قبل استفحاله وثبات أقدامه في ترابهم، وفي ذلك يقول أبن حوقل في كتابه (صورة الأرض): مدينة بيروت التي على ساحل بحر الروم ... بها يرابط أهل دمشق وسائر جندها وينفرون إليها عند استنفارهم ... وبيروت هذه ... حصينة خصيبة متينة السور .... .
وليس من شك في أن سور بيروت يومئذٍ كان على حالته التي كانت في عهد حاكمها من قبل ماجور التركي عام 872 م الأمير نعمان بن عامر الأرسلاني الذي بنى فيها داراً عظيمة وحصَّن سور المدينة وقلعتها ثم حارب مردة لبنان فجرى بينه وبينهم قتال عظيم على نهر بيروت سنة 875 م في خلافة المتوكل العباسي.