في سنة 1290م قدمت جيوش المسلمين إلى بيروت تحت رايات النصر التي كانت تظللها في كل معركة خاضتها ضد الصليبيين، ولم يلبث أن دخلتها بقيادة ستجر الشجاعي الذي بادر إلى هدم سورها وقلعتها وجعلهما في مستوى الأرض ليقطع أمل العدو في الرجوع إليها والتحكم من جديد في الثغر الذي تحكموا به سابقاً ما يقارب المائتين من السنين وجعلوا فيه أعزة أهله أذلَّة، وقد كان السور الصليبي عظيماً فأحالته معاول المسلمين رميماً.
لقد تخلى الصليبيون عن بيروت مرغمين غير مختارين وذلك بعد أن ظهر عليهم المماليك بقوة السلاح، فكان من الطبيعي أن تساورهم نفوسهم بالعودة إليها كلما آنسوا في عدوهم غرة أو ضعفاً، وكثيراً ما حاولوا ترجمة ما غرتهم به الأماني إلى غزوات حقيقيّة مكنتهم من المدينة سحابة يوم أو بعضه ثم ينسحبون منها بعد أن يوجف عليهم المسلمون الخيل بالسلاح والرجال مع حامية البلد من المرابطين للدفاع عنها، ولا تعدو الغزوة الطارئة الشواطئ القريبة من السور حتى تنكفئ على أعقابها مذمومة مدحورة، قال صاحب تاريخ بيروت نقلاً عن النويري في تاريخه: (في العشر الأخير من شعبان سنة 698 للهجرة الموافق لشهر آب سنة 1299 ميلادي، وصل إلى بيروت مراكب كثيرة وبُطُس للإفرنج، فيها جماعة من المقاتلين يقال إن عددها كان يبلغ ثلاثين بطسة (المركب الحربي) في كل بطسة منها نحو سبعماية مقاتل، وقصدوا أن ينطلقوا من مراكبهم إلى البر ويشنوا الغارة على ساحل بيروت، فلما قربوا من البر أرسل الله عليهم ريحاً شديدة، فغرقت بعض السفن وتكسر بعضها، ورجع من سلم منهم على أسوأ حال، وكفى الله المسلمين شرهم).
وتكررت هذه المحاولات الغادرة أكثر من مرة خلال سنوات متوالية، فأدرك المسؤولون من عمال المماليك في البلد، أن عليهم وقايتها من غدارات الموتورين الذين بقيت أشداقهم تتحلب قرماً لأكلها من جديد، فأرسل الأتابكي يلبغا العمري إلى بيدمر الخوارزمي بأن يتوجه إلى بيروت لاتخاذ التدابير العسكرية اللازمة من تجهيز عمارة بحريّة ضخمة، إلى شحن الحصون بالمقاتلين وغير ذلك مما هو مألوف في مثل هذه الظروف.
ولما أصبح بيردمر نفسه نائب السلطان في الشام، صرف اهتمامه إلى تحصين بيروت بالجديد من القلاع وترميم سورها القديم، لا سيما من جهة البحر، حيث كانت المراكب الحربيّة الصليبيّة تنزل قرصانتها لمفاجأة المسلمين بالقتل والنهب والتخريب.