على أثر الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر وأدّى إلى تغلب محمد بك أبو الذهب على حاكمها السابق علي بك الكبير، أضطر أحمد باشا الجزّار إلى البحث عن ملجأ له خارج نفوذ الحكم الجديد فاختار جبل لبنان حيث كان يسيطر الأمير يوسف الشهابي، وجاء من أخبر الأمير أن ببابه رجلاً بشناقياً قدم البلاد هارباً من مصر حتى لا يقع تحت سلطان حاكمها الجديد محمد بك أبو الذهب، فأنزله الأمير على الرحب والسعة ردحاً من الوقت ثم ما لبث أن تبيّن فيه مؤهلات تجعله جديراً بتحمل المسؤوليات الإدارية، فكلّفه حفظ بيروت لقاء مرتب يقتطع من دخل الجمارك.
ولم يضع الجزّار وقته سدى، وأخذ يتصرف على أساس الاستقلال ببيروت آجلاً أم عاجلاً، بصرف النظر عن موقف سيده السابق الأمير يوسف الذي لم يجد وسيلة إلا الاجتماع في الجزّار في قرية المصيطبة، فظهر الجزّار بإمارات نفسه بكل تؤدة وتلطف بجانب خاطر الأمير وأقنعه (وهو يضمر السوء للإيقاع به)، طالباً من الأمير مهلة أربعين يوماً بأثنائها يقوم عن المدينة فتمسي في قيادة تدبيره دون أن يتعكر كأس صفائه بولايته !.
وهكذا عاد الجزّار من قرية المصيطبة إلى بيروت لينصرف إلى عمارة سورها ودعمه بالأبراج والحصون، وتنظيم أبوابه وحمايتها بالحراس الأشداء من جنود المغاربة والأرناؤوط، وبالغ في جمع كل ما يحتاجه إليه الحصار من مؤونة الغذاء وعدة السلاح، توقعاً منه لمعركة آتية لا ريب فيها مع الأمير يوسف والذين قد يكونون إلى جانبه من الحلفاء.
المواد التي إستعملها الجزّار في بناء السور
إستعمل الجزّار في ترميم السور وتجديده بقايا الأعمدة الضخمة التي تخلفت عن العصور القديمة في ظاهر بيروت وداخلها نتيجة الزلازل المتكررة التي تعرضت لها المدينة في تلك العصور، لا سيما في أواسط القرن السادس للميلاد حينما انقلبت بيروت رأساً على عقب بالزلزلة الكبرى، وذات يوم حاول الأمير يوسف الشهابي دخول مدينته المحبوبة بيروت، صرخ به جندي مغربي من أعلى السور وبيده بندقية:إذا حاولت العودة إلى هنا فالجزّار يخوزقكك !.
حصار اللبنانيين لبيروت والدور الذي لعبه سورها
أمام هذا الموقف العدائي الصريح فإن الأمير يوسف الشهابي لم يعد عنده شك في أن الجزّار كشف قناع العداوة الصريحة، وأنه ينوي الاستقلال بالمدينة والحيلولة دون عودتها إلى حظيرة الإمارة اللبنانيّة، وأخذ الجبليون يغيرون على السور ويتخطفون من حوله أهل بيروت الذين يتجاسرون على تجاوزه خارج مدينتهم، فما كان من الجزّار إلا أن قبض على بعض هؤلاء الجبلين وقطع رؤوسهم ثم أمر بخوزقتهم ورفع رؤوسهم المقطوعة في أعالي السور لتكون ردعاً للأمير دون التفكير بأية محاولة لغزو المدينة أو الدخول إليها بالعنف والإكراه، وزاد الجزّار في إصطناع وسائل الإرهاب والزجر فأمر رجاله بأن يعدّوا له تمثالً على شكل الأمير وتعليقه مشنوقاً بحبل دلاه من فوق السور لكي يرى الشهابي مصيره المحتوم إذا حدثته نفسه بالإقتراب من هذا السور.
ولقد أثار عملُ الجزّار الذي إمتزجت به السخرية مع التخويف الأمير يوسف، فجمع هذا ما يزيد على عشرين ألف مقاتل وحاول أن يقتحم بهم السور ويؤدب ذلك الإنفصالي، لكن الجزّار استطاع أن يرد الغارة عن معقله ويلحق الهزيمة النكراء بخصمه الذي لاذ بصديقه ظاهر العمر حاكم منطقة الجليل بفلسطين لكي ينصره بأصدقائه الروس الذين كانوا يرابطون بسفنهم بالقرب من ساحل المدينة في أثناء جولة القرصنة التي كانوا يقومون بها في عرض البحر الأبيض المتوسط.
أقلع الأسطول الروسي الذي كان يتخذ من جزيرة قبرص قاعدة له، توجه إلى سواحل بيروت تلبية لظاهر العمر لنجدة الأمير الشهابي ، ضرب الحصار على بيروت وأطلق خمسين قذيفة هوائيّة إعلاناً بقدومه من أجل نجدة الجبليين ، وفي اليوم التالي بدأت المعركة الحقيقية وأخذت البوارج مراكزها النهائيّة تجاه المدينة على بعد قريب من السور المواجه للبحر وأخذت تواتر إطلاق القذائف اللاهبة والحاطمة سائر النهار، فأصابت قلعة البحر التي كانت تحمي الميناء ودمرتها، وأصابت ما يلي هذه القلعة من السور الذي تعب الجزّار في تحصينه ودعمه بالأبراج، وتداعى السور وتهدم.
والأمر الغريب في الأسطول الروسي أنه لم يكن فيها روس بل كل بحارتها إيطاليون أو يونانيون وضباطها يتسترون بأسماء مستعارة.