لم تتحمل القوات المصرية المحاصرة في بيروت أكثر من يوم واحد وجدت نفسها في نهايته عاجزة عن الإستمرار في المقاومة فانسحب بها قائدها سليمان باشا ملتحقاً بفلول القوات المصرية الأخرى التي كانت تتجمع من أنحاء لبنان للعودة إلى بلادها بموجب الإتفاقية التي عقدت بين محمد علي باشا والسلطان وعرفت بمعاهدة كوتاهية.
وعندما دخلت القوات العُثمانيّة إلى بيروت في 13 أيلول ستة 1840م كان سورها قد أصبح غير ذي أهمية بالنسبة للأغراض العسكرية لأن القذائف التي أستهدفته استطاعت أن تقطع أوصاله وتجعله كالأشلاء الممزقة التي لا تجمع بينها صلة من البنيان المتين الذي يصلح للإفادة منه في حماية البلد أو الدفاع عنها.
وبعد أن كان هذا السور معقلاً لأشاوس الرجال خلف مدافعهم القوية، أصبح مصدّعاً متفسخاً تبرز من شقوق حجارته النخرة الأعشاب الطفيليّة، وتعرضت حجارته لسرقة بعض الأهالي الذين كانوا يستعملونها في أبنيتهم الخاصة دون رادع أو وازع.
وبعودة العثمانيين إلى المنطقة جرى تعديل في تقسيمها الإداريّة، فأصبحت بيروت كرسي الولاية، وعُهد بإدارتها إلى الوالي العثماني سليم باشا، وفي هذا العهد إنطلق البناء بحريّة، في الأراضي الواقعة بالبريّة خارج السور، وشرع الناس في أقامة الدور والمساكن في كروم التوت والصُّبِّير.
وهكذا غاب سور بيروت بكامله عن العيان إلى غير رجعة، ولم يعد يعرف عنه من الآباء والأبناء إلا ما يتداولونه عن أسم الساحة التي بقيت تحمل من ذكريات السور كلمة (عصور) وهي المكان الذي كان يمتد في أواخر القرن العشرين ما بين باب يعقوب وباب الدركة كما كان يقول أهل ذلك الزمان، أو طلعة الأميركان ورأس المعرض كما أصبح يقول أهل الجيل المعاصر.
وحين يجتاز أحد أبناء جيلنا اليوم عرض هذه الساحة ويلتفت إلى ما حوله، باحثاً عن سور بيروت، فإنه لن يجد أمام ناظريه إلا حديقة متواضعة سورت على زهور بهيجة وفي وسطها ينتصب تمثال من معدن البرونز لأحد رؤساء الحكمة اللبنانيّة السابقين المرحوم رياض بك الصلح، الذي سمّرت قدماه على قاعدة من الحجر الرخام كتب عليها بحروف من المعدن الثقيل:
لن يكون لبنان للاستعمار مقراً ولا ممراً