لم تكن الصحافة اللبنانية بأسعد حظاً في عهد الإستقلال مما كانت عليه في عهد الإنتداب، من حيث معاملة السلطات لها، ذلك أن الحكم الوطني كان يطبّق القوانين التي وُضعت في عهد الإنتداب بحذافيرها، فإذا حكمت محكمة مثلاً بتعطيل صحيفة معينة لمدة ثلاثة أشهر، كان الحكم يُنفّذ بكامله، بينما لم يكن يستمر زمن الفرنسيين أكثر من أسبوع ثم يُفرج عن الصحيفة.
وقد حمل هذا التشدبد في تنفيذ الأحكام ومعاملة الصحف معاملة قاسية الصحافيين على القيام بحملة كبرى ضد التعطيل الإداري، والمطالبة بوضع قانون للمطبوعات ينقذها من هذا التعطيل، ويحفظ كرامة المهنة. لكن الحكومة كانت تسترضي الصحافيين حينئذٍ بمنحهم رخص الورق، حيث كان الطن الواحد يساوي الف ليرة. وقد أثرى الكثير من الصحافيين من جرّاء المتاجرة بالورق.
وجاء مجلس نواب 25 أيار 1947 الشهير الذي قاومته الصحف وشهّرت به نظراً لما رافق إنتخاب نوابه من تزوير. فوضع بعد مضي عام ونصف على إنتخابه (عام 1949) قانوناً للصحافة مؤلفاً من 70 مادة. وقد ألغى هذا القانون التعطيل الإداري الذي كان يفرضه قانون 1924 الفرنسي، لكنه زاد في محظورات النشر المبهمة التي كبّلت الصحف، كما أبقى على مواد سجن الصحافيين والضغط على القضاء لتطبيق العقوبة القصوى.
وقد رأت فيه معظم الصحف أنه أسوأ من التعطيل، فهو يحرم الصحافي من ممارسة حريته ومن التمتع بحقوقه كمواطن، إذ يجعل محاكمته على درجة واحدة، وتُطبّق في حقه العقوبات الثلاث مجتمعة: السجن والجزاء وتعطيل الصحيفة، بينما القاتل يُحاكم على ثلاث درجات، إذ له الحق بعد صدور الحكم أن يستأنف ثم يميّز. ولم يعترض على هذا القانون من النواب سوى "أمين نخلة" الذي بيّن كيف أنه يحدّ من حرية الصحافة.
ولم تمضِ أيام على وضع هذا القانون موضع التنفيذ، حتى تعرضت الصحافة اللبنانية للتنكيل بشكل لم تعرف له مثيل من قبل. وقد أحالت الحكومة على المحاكمة في يوم واحد سبع صحف، وهي: "النهار"، "البيرق"، "الهدف"، "الصياد"، "الديار"، "العمل" و"الأحرار". وأقامت الحكومة عليها الدعوى، وقد أدى ذلك الى إعلان الصحافة الإضراب العام عن الصدور دفاعاً عن الحريات، وكانت مطالبها محدّدة في ثلاثة بنود:
1- تصديق قانون المطبوعات الموجود في المجلس كما وافقت عليه النقابة
2- إلغاء قانون الطوارئ
3- الإفراج عن الصحف المعطّلة ومنع محاكمتها
وتعنتت الحكومة وقتئذٍ، واتخذ بعض النواب موقفاً عدائياً من الصحافة. فأمرت الصحافة بمقاطعة أخبار النواب والبلاغات الرسمية والحفلات وصورها وعدم نشرها في الصحف.
وكان أن عادت الحكومة الى صوابها، ووعدت بإعادة مشروع قانون المطبوعات الى المجلس للمصادقة عليه في أول جلسة يعقدها، ثم إلغاء الفقرة الخاصة بالصحافة من قانون الطوارئ.
وعندما قامت معركة الحريات عام 1952، وتوصّلت مع الجبهة الإشتراكية على حمل الرئيس "بشارة الخوري" على الإستقالة، وانتهت بالإنقلاب الأبيض المعروف، صدر المرسوم الإشتراعي العام 1952 الذي ينظّم الصحافة والعمل الصحفي. وقد ألغى الكثير من المواد المبهمة في محظورات النشر، وجعل محاكمة الصحافي أمام المحاكم المنفردة، وإجراء المحاكمة السريعة، ورفع العقوبات الجزائية من قانون المطبوعات القديم، وردّها الى قانون العقوبات العام.
وبالرغم من بعض النواقص إلا أنه يُعتبر من أفضل القوانين الصحافية في العالم.
وفي ذلك العهد زاد عدد الصحف والمجلات في لبنان زيادة كبيرة وخطيرة، حتى صار عدد الصحف اليومية في بيروت يزيد على الخمسين. وقد رأت الحكومة أن تضع حداً لهذه الفوضى، فأصدرت في نيسان 1953 مرسوماً إشتراعياً يقضي بتحديد عدد الصحف والمجلات في لبنان.
والملفت في هذه المرحلة، صدور عدد جديد من الجرائد التي ستنفخ بالصحافة روحاً جديدة وتمدّها بدم جديد، وتحمل اليها تجهيزات تقنية لا عهد لها بها من قبل، وتُحدث شبه إنقلاب في أسلوب عملها. وتمتد هذه الفترة من العام 1944 وحتى العام 1952. وقد صدر خلالها 134 نشرة منها 17 جريدة يومية و15 أسبوعية، والباقي نشرات غير سياسية.
ولعل من أبرز صحف هذه الفترة: "الحياة" التي أسسها "كامل مروة" عام 1946 إثر عودته من أوروبا. وقد إمتازت بجديتها، وكانت أول جريدة تستقدم آلة خاصة "تلتيب"، بالإضافة الى "بيروت المساء" و"الزمان" وأول جريدة يومية في طرابلس "الإنشاء" التي أصدرها "محمود الأدهمي".
ثم شهدت هذه الفترة ولادة مجلات سيكون لها دور فاعل في الصحافة والحياة العامة، مثل "الصياد" التي غدا صاحبها مدرسة قائمة بذاتها، و"الأنباء" مع الحزب الإشتراكي وبالأخص مع "كمال جنبلاط".
أما الفترة الممتدة من العام 1953 الى العام 1975 والتي شهدت كما رأينا تشريعات جديدة، فإنها شهدت ولادة صحف جديدة ستحمل معها روحاً جديدة كَ "الجريدة" التي صدرت بإخراج وتبويب جديدين معتمدة على عنصر الشباب، ومركّزة على الريبورتاج والتحليل والخبر والتعليق، الى "السياسة" واللواء" و"نداء الوطن" و"الكفاح العربي" الى "الأنوار" التي ستُحدث مثل "الأحرار" و"النهار" و"بيروت" و"الأوريان" و"الحياة" و"الجريدة" و"السفير" خضّة في عالم الصحافة.
تبعت "الأنوار" نسق كبريات الصحف المصرية واعتمدت على الكفاءات، وكان لها كبير الفضل في رفع نسب رواتب المحررين، كما أدخلت أبواباً جديدة وتصرفت بالمقال على نحو جديد، فوزعته على مختلف صفحات الجريدة وأبوابها، ولعبت بأحجام الأحرف والعناوين، ومنها الى "لسان الحال" التي ستصبح جريدة الظهر في لبنان، وجريدة العامّة دون أن ينال ذلك من مستواها، واشتهرت بصفحتها الأخيرة "أقوال الصحف" وبمقابلات عدد كبير من كتّابها أمثال "سعيد عقل"، "أدونيس" والمطران "جورج خضر".
ومن الصحف التي سوف يكون لها دور في هذه المرحلة "المحرّر" و"السفير"، وكلتاهما تمتاز بعدد صفحاتها المرتفع وبالأبحاث الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي تنشرها. أما المجلات، فسيكون لِ "الأسبوع العربي" ثم "المغازين" فَ "الحوادث" شأن مهم على الصعيدين المهني والسياسي.
ولعل أهم ما يلفتنا في هذه المرحلة إزدياد نفوذ الصحافة لبنانياً وعربياً، والتشريعات الجديدة، وإلغاء التوقيف الإحتياطي، وتنظيم المهنة، وتشديد الصحف على خطورة شيخوخة القيادات اللبنانية، ومنافسة التلفزيون.