محمد القصبجي
ما إن يحاول المؤرخ دراسة سيرة محمد علي إبراهيم القصبجي، حتى يقترن في المرتبة والتاريخ بسيد درويش. فقد ولد في 15 نيسان 1892 بعد تسعة وعشرين يوما فقط من مولد السيد درويش.
عاش القصبجي أربعا وسبعون عاما، فتتلمذ من مدرسته جيل كامل من أساتذة الموسيقى العربية في القرن العشرين ومنهم عبد الوهاب نفسه، أم كلثوم ورياض السنباطي، وتولى رعاية عدد آخر من الفنانين منهم ليلى مراد ونور الهدى وسعاد محمد. وبرغم ذلك فإن شهرة القصبجي ظلت، لأسباب غير واضحة أقل مما يستحسن بكثير. فهو تولى عبد الوهاب سـيد مطربي القرن العشرين وملحنيهم نحو خمس سنوات، قبل ان يتولاه أميـر الشعراء أحمد شوقي سنة 1924، وهو الأب الفني الذي تلقف أم كلثوم منذ انتقالها إلى القاهرة من الريف سنة 1923 وأعطاها أجمل الألحان حتى سنة 1948، وظل يتصدر فرقتها الموسيقية بعوده الخطير حتى وفاته في 25 آذار 1966.
عمل القصبجي في تجديد الموسيقى العربية في السنوات ذاتها التي عمل بها سيد درويش. فبدآ لدى موت سلامة حجازي معا سنة 1917، وجددا معا في نكهة الغناء العربي، وتأثرا معا بالتراث الأوروبي الكلاسيكي في الموسيقى، وأدخلا التعبير في الغناء، وطور اللوازم الموسيقية وجعلاها جزءا مهما لا غنى عنه في البناء الموسيقي. كما أدخل القصبجي الهارمونيا والبوليفونيا على الموسيقى العربية دون أن يشوه مزاج هذه الموسيقى أو يفقدها روحها وشخصيتها ونكهتها القومية. وأرسى على نحو نهائي سنة 1928 ملامح شكل المونولوج في الغناء العربي.
تخرج القصبجي من مدرسة عثمان باشا على الشيخ أحمد الحملاوي، بعدما حفظ القرآن وتعلم أصول تجويده. والتجويد هو المدرسة الوحيدة التي أنجبت عباقرة في الموسيقى العربية. والقصبجي ابن الشيخ على إبراهيم القصبجي، المنشد والمقرئ المعروف في حي عابدين، وكان يكتب النوتة الموسيقية لمؤلفي عصره ومغنيه. وتعاطى ابنه لضروب التأليف الموسيقى الغربية، لم يكن يحتمل خطر تشويه موسيقاه أو تهجينها أو إفقادها روحها العربية، فمحمد القصبجي أتقن الموسيقى العربية واتخذ علمها من منبعه الأول (التجويد والموشحات)، ونشأ في بيئة عندها سلالات أصيلة من سلالات الفن العربي. فكان أبوه عوادا فذا وملحنا غنى له زعيم الغناء والطرب في القرن الماضي عبده الحامولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، وسيد الصفطي، صالح عبد الحي، زكي مراد ومحمد السنباطي. ولذا كان القصبجي قادرا على استخدام الفنون التقنية الغربية في الموسيقى دون أن يفقده روحه العربية الأصيلة، ما دامت جذوره ضاربة في عمق التراث العربي الموسيقي، وما دامت شخصيته العربية الموسيقية مكتملة التكوين.
تحول هذا المؤلف الكبير إلى أستاذ يزدحم حوله التلاميذ، فكانت تلميذته الكبرى أم كلثوم. وتأثر به رياض السنباطي تأثرا واضحا للغاية بخاصة في الأفلام التي لحنا أغنياتهما معا: نشيد الأمل، يا مجد، ياللي صنعت الجميل، قضيت حياتي، افرح يا قلبي.
وممن تتلمذ على القصبجي في مرحلة من مراحلهم: فتحية أحمد، نجاة علي، منيرة المهدية، ثم ليلى مراد ونور الهدى وسعاد محمد، وبخاصة أسمهان. وامتد أثر القصبجي إلى محمد الموجي الذي لحن سنة 1954 نشيد الجلاء لأم كلثوم.
وتوحي موسيقى القصبجي على الدوام أنها مكتوبة لفرقة كبيرة، ولا يقدر التخت الصغير على أعبائها التعبيرية والهارمونية جميعا، حتى قالت أم كلثوم فيه قبل وفاتها: إنه موسيقي عالم سبق عصره". ولم يكن هذا القول بغريب من سيدة الغناء العربي التي قطفت أمجاد لحن القصبجي لمونولوج "إن كنت أسامح وانسى الأسية".
لقد أحصى محمود كامل ثلاثمئة وستين أغنية للقصبجي، وهذا العدد من الأغنيات يعد كبيرا جدا إذا قورن بعدد سنوات خصبه الأربع والعشرين، وإذا أخذت في الحسبان جودتها.
ولعل قلة تؤثر عن القصبجي عمله المسرحي الغنائي إذ لحن:
· * المظلومة
· * حرم المفتش
· * كيد النسا
· * نجمة الصباح
وقد شاركه عبد الوهاب بثلاثة ألحان في المسرحية الأولى، لكن القصبجي أقلع عن هذا الفن الذي لم يكثر فيه، وانصرف إلى الأشكال الأخرى من التلحين:
· 13 دوراً غنى منها على الخصوص الشيخ أمين حسنين وزكي مراد
· موشح وحيد مُرّ عيش هان {على مقام الجهاركاه}
· 30قصيدة: غنى منها على الخصوص أم كلثوم وأسمهان وفتحية أحمد وكارم محمود وسعاد محمد وعبد الغني السيد ووردة الجزائرية ونجاة علي ونازك.
· 43 مونولوجا: غناها على الخصوص صالح عبد الحي وأم كلثوم وأسمهان ومنيرة المهدية وفتحية أحمد ونجاة علي.
· 182
طقطوقة: غنى منها من ذكرنا من المطربات والمطربين ومعهم
ليلى مراد ورجاء عبده وغيرهم.
وكانت
له إحدى وتسعون أغنية أحصيت في 38 فيلما
سينمائيا.
لكن أهم التجديد الذي أحدثه القصبجي في الموسيقى العربية المعاصرة، أحدثه في إنشائه المونولوج، ثم في تطوير شكل الطقطوقة بخاصة في الأغاني السينمائية التي غنتها أسمهان وليلى مراد.
والمونولوج ليس هو الأغنية الإنتقادية التي اشتهر بها كل من ثريا حلمي وإسماعيل يس ومحمود شكوكو، بل هو نوع موسيقي ظهر في الغناء العربي سنة 1815 وثبت القصبجي أحد أشكاله سنة 1928 في أغنية: إن كنت اسامح على ما سلف. والمونولوج مستوحى من الآريا في الأوبرا الإيطالية، حيث يقف البطل بين حدثين من أحداث الأوبرا، فيطلق العنان لعواطفه ويشكو لواعج قلبه في وقفة وجدانية مسرحية تأملية، يروي فيها واقعات ويعرب عن مشاعره. وهي تتميز بأن الكلام سردي وصفي وجداني في العموم، وبأن اللحن لا تتكرر فيه المقاطع أو المذاهب، وقد لا تتكرر أي من الجمل الموسيقية إطلاقا. ولا يتضمن المونولوج مذهبا ولا أغصانا متشابهة، وقد يتضمن مشاهد موسيقية متلاحقة مختلفة تفصلها لوازم.
لقد كان الشيخ زكريا أحمد أول من بدل ألحان الأغصان في الطقطوقة، غير أن محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي أضافوا كلّ تطويرا من عنده على الطقطوقة دمج فيه المذهب أو جزءا منه بآخر الغصن، فم يعد المذهب مستقلا، ثم بدل لازمه لتناسب كل لازمة مقام الغصن الذي يليها. وقد كانت إغنيات القصبجي وبخاصة في الأفلام السينمائية من أجمل ما لحن، ومن أهم النماذج التي نسج على منوالها تلاميذ القصبجي بل أقرانه. وكانت للمطربات اللبنانيات اللواتي توافدن على عاصمة الفن العربي القاهرة، حصة وافرة، فغنت له سعاد محمد إحدى عشر أغنية، وكذلك غنت له نور الهدى التي قال فيها إنها أكثر المطربات إحساسا باللحن وأمانة في أدائه، إحدى عشر أغنية أيضا.
بالإضافة إلى ذلك كله، يعد القصبجي في رأي المتخصصين سيد عازفي العود في القرن العشرين، برغم أن ثمة أسماء متداولة على مقربة من هذه المكانة. وإذا كانت تسجيلات عزف القصبجي على العود المنفرد شبه نادرة عند عامة المستمعين، فإن في إمكان المستمع أن يطمئن، إلى أن العود الذي يستمع إليه في جميع أغنيات أم كلثوم حتى الأطلال هو عود القصبجي. فلما مات سنة 1966 امتنعت كوكب الشرق عن إعطاء مكانته لأحد خلفها على المسرح، فظلت فرقتها بلا عود حتى اضطرت إلى ضم عبد الفتاح صبري العواد المجيد إلى فرقتها.
كان للقصبجي مجموعة كبيرة من الأعواد في بيته، لا لحبه التحف فقط، بل لأنه كان باحثا نظريا وعمليا في الموسيقى أيضا. وأخذ هذا العلم عن والده وصديق والده الملحن والعالم الموسيقي كامل الخلعي، الذي علمه كذلك الموشحات. فلم يكن غريبا أن تكون للقصبجي آراء في صناعة العود، إذ ينصح ألا يزيد طول وتره على ستين سنتمترا. واستدعاه معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية في القاهرة مرارا للاستماع إلى آرائه في المقامات العربية وعلاقة بعضها بالبعض، وأقرت هذه الآراء واستبعد ما يخالفها.
إن هذا الفنان الكبير المتواضع الذي كان يقول، وهو سيد العود، إنه يخشى أن ينشز العود وهو في حضنه، أستاذ في تعليم الفنانين أن يرهبوا الفن ويحترموا المستمع أيضا.