عيـدُ الصدق
عمَّتِ الفرحةُ المواطنين وتنفَّسـوا الصعداءَ لسماع النبـأ المثير، بينما كانت محطة الإذاعة تكرر البلاغَ الصادرَ عن رئاسة الجمهورية والذي جاء فيه ما يلي:
"حرصـاً من سيادة الرئيس، القائد الحكيم والأب المناضل، على الإطِّلاع على أحوال الشـعب، متخطياً الحواجز والموانع التي يقيمها المنافقون المراؤون والمنتفـعـون بينه وبين المواطنين، فقد قرَّرَ أن يجعل من هذا الأسبوع أسبوعاً تاريخياً وعيداً وطنياً يعبِّـر فيه كلُّ الناس بمختلف طبقاتهم وميولهم عن آرائهـم في الحكم والمسؤولين، من رئيس الجمهوريَّة، إلى أصغر موظَّفٍ في الدولة، دون خشيةٍ من عقاب أو انتقام. وبناءً عليه، فإنَّ أبواب القصر الرئاسي ستكون مفتوحةً لاستقبال من أراد من المواطنين، كما ستتفرَّغ أيضاً الإذاعات والصحف والمجلاّت لنشر آراء الناس وشكاواهم ومقترحاتهم. إضافةً إلى ذلك، فلسوف تعمل الدولة على إقامة المنصات في الحدائق والساحات العامَّة ليستعملها الخطباءُ منابرَ حرَّة لإيصال صوتهم إلى جميع أفراد الشعب وإلى الحكومة."
"إنَّ سيادة الرئيس يعطي الأمان للشعب ويرجوه أن ينتهز هذه الفرصة العظيمة خلال أسبوع الصدق الشعبي، للعمل يداً بيد مع المسؤولين، وذلك للسير بهذا البلد على طريق الازدهار والتقـدُّم. كذلك يرجو سيادة الرئيس الناس، أن يعتبروا هذا الأسبوع مناسبةً ليكونوا صريحين وصادقين، ليس مع الحاكم والمسؤولين فقط، بل مع أنفسهم وجيرانهم وأصدقائهم وأقربائهم، فيكون هذا الأسبوع عيداً حقيقيّاً للصدق، شاملاً الجميع دون استثناء."
"يسري مفعول هذا الأمر بمجرَّد الانتهاء من إذاعته."
"صادر عن ديوان الرئاسة بأمر من رئيس الجمهورية."
ما أن ينتهي المذيع من تلاوة البيان حتَّى يكون هو أوَّل المحتفلين بعيد الصدق فيقول معلِّقاً على أمر الرئيس:
إنَّ قرارك اليوم يا سـيادة الرئيس قرارٌ شـجاعٌ وحكيـم، أعطيتنا الأمان لنقول الصدق، فإليك الصدق دفعة واحدة.
إنَّ حكمك أيها الرئيس لم يجلب لهذه الأمَّة إلاّ الفقر والخراب والرشوة والفساد والظلم.
في عهـدك انحطَّتِ الأخلاقُ ولم يعد للمبادئ والقيم من وجود. امتلأت حياتنا بالنفاق لدرجةٍ أننا نسينا كيف نقول الصدق!
شعبنا ليس بحاجةٍ إلى عيدٍ للصدق يا سيادة الرئيس، والصدق ليس بحاجةٍ إلى عيد. الشعوب لا تكذب، الحكومات هي التي تكذب وتفرض على الشعب أن يكذب!..
******************
في مكان ما من المدينة، ومن على منبر أحد المساجد، واحتفالاً بعيد الصدق أيضاً، وقف شيخٌ أَمامَ المصلِّين يعظ ويرفـع دعاءه لله قائلاً:
اللهمَّ أنت وحدك القادر أن تجعلَ نهـايتَه مع نهاية هذا الذي ملأ الدنيا شرورا.
ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذاب السجون في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة.
وردَّ المصلّون جميعهم بقولهم، آمين.
وتحت عنوانٍ بارزٍ وكبير يقول، "اعتذاراتٌ لشـعبنا"، نشرت إحدى الصحف اليومية ما يلي:
إلى الأخوة المواطنيـن، تتقدَّم إدارة تحرير الجريدة باعتذاراتها لنشرها معلوماتٍ خاطئة ومضللة طوال العقود الثلاثة الماضية من الزمن. تلك الأخطاء لم تكن مطبعيَّة أو غير مقصودة، بل كانت موجَّهةً مدروسةً وخارجة عن إرادتنا، ولكننا وإذ نحن نحتفل بعيد الصدق هـذا، فإنّنا نجدها فرصةً لا تُعَوَّضُ لتبرئة ذمَّتنا أمام التاريخ وأمامكم.
لقد دأبنا على كتابة ونشر ما كان يُملى علينا فقط، وإن آلاف الصفحات لن تكفينا خلال عيد الصدق هذا لنعيد عليكم سرد الحقائق التي كنا نخفيها عنكم. يكفي أن نقول بأن عهد السيد الرئيس كان وحتى الآن عهداً زاخراً بالإجرام والسرقات والفساد، ولم يُثمر لهذه الأمة إلا الفقر والخراب والعذاب والذل. حتى حياة الرئيس الشخصية التي صورناها لكم شبيهة بحياة الأنبياء، لم تكن إلا حياة فسوق وسكر وعربدة. لقد منحنا الرئيس هذا الأسبوع لنقول الصدق كل الصدق ولا شكّ في أنه قد فعل ذلك عن نية صادقة ورغبة حقيقية في إصلاح الأمور وتناسي الماضي، للسير بهذه الأمة إلى مستقبل أفضل.
واستبشر الناس بالخيْر لدى قراءتهم لما ورد في الصحيفة.
******************
خلال أسبوع الصدق ذاك، تكاشـف الناس وعرف بعضهم عن البعض الآخر أموراً لم يعرفوهـا من قبل. اكتشف أخٌ مثلاً أنَّ أخاً له من أمه وأبيه كان عميلا للمخابرات وأنَّه ذات مرَّة وبعد فورة غضبٍ قد رفع بحقِّه تقريراً سبَّب له خسارة مبلغٍ كبير من المال اضطرَّ إلى دفعـه كرشوة لينهي القضيَّة. وتبيَّـن لسكان أحد الأحياء أنَّ الحلاّق الذي كان يجرّهم للحديث جراً ليعرف كل أخبارهم، لم يكن إلا جاسوساً يعمل لجهاز أمن الدولة. كذلك دعا موظَّفٌ كبير في إدارة البريـد والبرق والهاتف الصحفيين إلى مؤتمرٍ شرح فيه بالتفصيل كيف يتم التنصُّت على مكالمات المواطنين وكيف تُفتَـحُ الرسائل لتُقرأَ محتوياتُها. وكانت المفاجأة الكبرى حين ظهر على شاشة التلفزيون وفي الساحات العامة ضباط عسكريون برتب عالية يشكرون الرئيس على هذه الفرصة التي أتاحها لهم للتعبير عن آرائهم، ولكن لينذروه في الوقت نفسه، بأنهم سيضطرون إلى التمرد وإلى قلب نظام حكمه إذا لم يقم بإجراء إصلاحات جذرية. وبالمختصر المفيد، كان احتفال الناس بعيد الصدق كما أراد له الرئيس القائد حقاً أن يكون!
******************
انتهى الأسبوع
فرح المواطنون إذِ استطاعوا أخيراً أن يعبِّروا عمَّا في قلوبهم، وأخذوا يتلهفون لمعرفة الإصلاحات التي سوف سينفذها الرئيس.
فرح الأبُ الرئيسُ القائد أيضاً لأنـَّه عرف ما في قلوبهم!.. ولأنه عرف ما في قلوبهم، فقد امتلأت الساحات والحدائق في اليوم التالي لنهاية الأسبوع بأعواد المشانق التي عَلَّق عليها كلَّ المغفَّلين الساذجين، وعلى رأسهم الضباط العسكريين، وكذلك محرري الصحف والمذيعين وإمام المسجد ومعه كل من ردّد وراءه وقـال آميـن!