عن الاستعمار ووكلائه المحليين:
العسكر
والفقهاء.. وثالثهما "الاستحمار
الاستعمار الأوروبي على الرغم من كل مساوئه إلا أنه شيد جسورا وشق طرقا وبنى سكك حديد وأسس مستشفيات ومطابع ومرافق لا يمكن إنكارها لأنها ببساطة مازالت قائمة حتى اليوم.. أما "المستحمر" من أبناء جلدتنا.. فبنى سجونا ومعتقلات.. وكرس حالة "عسكرة المجتمع"
في كل "ستان"
تحالف فيه العسكر والفقهاء.. فكلاهما بحاجة للآخر..
العسكر يريدون مبررا سماويا لقمع الناس
لا يملك مخلوق التصدي له أو مناقشته..
فيما يحتاج الفقهاء
إلى حماية العسكر وأموالهم التي نهبوها من قوت الفقراء
جماعات الإرهاب الديني التي لم تكن يوما في صف البسطاء بل كان همها هو ملاحقة شاب
محبط يستعين على تعاسته بحلم عاطفي مع محبطة أخرى يسيران في الطريق..
فيوقفهما أشاوس "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ليوسعاهما ضربا بالجنازير..
كما حدث في
..............
وغيرها
كتب الدكتور عبد الوهاب الأفندي عما أسماه "الاستعمار الذاتي"، وربما منع الرجل أدبه عن تسمية الأشياء بمسمياتها، ففي تقديري ما كان يتحدث عنه هو "الاستحمار"، أي معاملة البشر باعتبارهم "حميرا"، أعزكم الله، وحتى يتضح الفارق بين "الاستعمار" و"الاستحمار" علينا أن نتوقف حيال ما فعله بنا المستعمر "الكولونيالي" الأوروبي، وما يفعله بنا وكيله المحلي "المستحمر" العربي "الثوري النوري الكلمنجي"، كما يصفه أحمد فؤاد نجم، فالأوروبي رغم كل مساوئه لكنه شيد جسورا وشق طرقا وبنى سكك حديد وأسس مستشفيات ومطابع ومرافق لا يمكن إنكارها لأنها ببساطة مازالت قائمة حتى اليوم، أما "المستحمر" من أبناء جلدتنا، فبنى سجونا ومعتقلات، وكرس حالة "عسكرة المجتمع"، فرأينا العقيد مدير الإذاعة والتلفزيون، والعميد مدير المستشفى، وصارت "التربية العسكرية" تدرس في المراحل الثانوية والجامعات، وارتدى وزراء الصحة والشؤون الاجتماعية البزات العسكرية، واخترعوا شعارات "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولا معارك ولا من هم يحزنون، إذ أن جل معاركنا كانت من طراز "النكسة" و"أم المعارك"، ولم يكتف "المستحمر" العربي بهذا، فراح يستعدي الدهماء والغوغاء على أي صوت يتحدث عن موبقات مثل حرية التعبير أو الديموقراطية أو حقوق الإنسان، حتى يجد العربي المنكوب نفسه محاصرا بين شارع غوغائي بفعل "العلف اليومي" الذي تضخه آلات الإعلام الحكومية، أو جماعات الإرهاب الديني، التي لم تكن يوما في صف البسطاء، بل كان همها هو ملاحقة شاب محبط يستعين على تعاسته بحلم عاطفي مع محبطة أخرى يسيران في الطريق، فيوقفهما أشاوس "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ليوسعاهما ضربا بالجنازير، كما حدث في ........... وغيرها.
وكما يؤكد لنا التاريخ البعيد والقريب، فإنه ما اجتمع العسكر والفقهاء إلا وكان "الاستحمار" ثالثهما، ويمكن للمرء هنا أن يسوق من الأمثلة ما ينافس دائرة المعارف البريطانية حجما ، ففي السودان دفع البسطاء ثمن تحالف الترابي والبشير، وفي مصر دفعوا ثمن تحالف السادات والإخوان، وحتى في أفغانستان، دفع بسطاء القوم ثمن تحالف طلاب الشريعة "الطالبان" وقاعدة بن لادن، وفي إيران وفي كل "ستان"، تحالف فيه العسكر والفقهاء، فكلاهما بحاجة للآخر، العسكر يريدون مبررا سماويا لقمع الناس لا يملك مخلوق التصدي له أو مناقشته، في ما يحتاج الفقهاء إلى حماية العسكر وأموالهم التي نهبوها من قوت الفقراء، الذين يدفعون الثمن دائما ، حتى من ذائقتهم العامة التي نجح "الاستحمار" في تشويهها أيضا ، فترى المواطن العربي بفعل سنوات من القمع والخوف من اتهامه بالخيانة أو الكفر وغير ذلك من الأسباب، تراه الآن يتبنى طروحات تنظيمات الإرهاب الديني، رغم انه لم يكن يوما عضوا فيها، كما تراه مدافعا منافحا عن نظم مستبدة لدرجة أنه يعلنها صراحة ان اختيار القمع المحلي المنشأ خير وأحب إلى نفسه من إصلاح قد يأتي على يد أجنبي، وهنا بالطبع لا ندعو لا للتدخل الأجنبي ولا للرضوخ ولا لهذه المفردات والمصطلحات المتأهبة دوما للانطلاق من غمدها في وجه أي محاولة للحوار، بل لا ندعو لأي شئ اللهم إلا الفهم، وإعمال العقل، ونحب هنا أن نطمئن إخواننا المناضلين من سرايا "جنرالات المقاهي" إنه بافتراض أن اتفقت الشعوب العربية مع نفسها وحكامها ونخبها، وقدموا طلبا للمستعمرين القدامى والجدد بأن يأتوا لاستعمارنا فلا أظنهم سيوافقون، مادام هناك وكيل محلي نشيط، هو "المستحمر" يقدم له كل ما يريده وأكثر من دون أن تترتب على ذلك أي مسؤوليات من أي نوع، بل وليأت الأبناء والأحفاد ماداموا سيلتزمون نفس المنهج. ......وفي سياق لا يبتعد عن الاستعمار و"الاستحمار"، فقد أحالني مؤخرا أستاذ ميكروبيولوجي مصري لكتاب مترجم عن الإنكليزية تحت عنوان "الطب الاستعماري"، مؤلفه طبيب هندي، استعرض فيه الأسباب السياسية لتدني أساليب علاج أمراض التخلف، مثل التهاب الكبد الوبائي، في ما تم القضاء تقريبا على أمراض مثل الكوليرا والجدري والطاعون، ويرى الطبيب الهندي إن مراكز البحوث الغربية التي أسست "طب المناطق الحارة"، لعبت دورا لا يمكن تحت أي مبرر تجاهله، وحين انقطعت صلة الغرب المباشرة بالمستعمرات السابقة، توقفت برامج تمويل وبحوث هذه الأمراض التي ظهرت على نحو وبائي لا سابق له في تاريخ مجتمعاتنا، وكان أن أوكلت هذه المهام - ورقيا - لمؤسسات "وطنية"، ممثلة في وزارات الصحة والمعاهد الطبية التي يعلم الجميع أحوالها وأساليب عملها ومستوى أدائها، فكان أن أصبحت أمراضا فتاكة مثل الفشل الكلوي أو الالتهاب الكبدي أمراضا شعبية، يعاني منها الملايين، وحتى لا يجادل البعض في هذا الأمر، أنصح بمحاولة خوض تجربة تلقي العلاج من أي مرض، أو حتى الولادة في مستشفى حكومي، من منجزات "الاستحمار" المحلي. الآن وببالغ الحسرة والأسف يمكن للمرء أن يزعم وهو مطمئن إلى خطورة ما يقول، إن الاستعمار كان أكثر رحمة بشعوبنا من "الاستحمار"، ولعل أعداد المعتقلين في زمن الاستعمار قياسا بضيوف الوكيل العربي المحلي له الآن ما يؤكد هذا، ناهيك عن تفشي السلوك السياسي المراوغ، والاستقواء بالغوغائية، والاحتفاء بالجهل، وطوابير أنصاف المتعلمين التي تضخها جامعاتنا العربية سنويا لأسواق البطالة، وتفشي ذائقة التطرف وشيوع قيم النفاق الوظيفي والاجتماعي، ناهيك عن الوضع السياسي العربي الذي لا يتطلب مزيدا من الإسهاب. ..... قصارى القول إن "استحمار" الشعوب العربية ماض في طريقه بكل ثقة وازدهار، إلى الدرجة التي بات يشعر معها المواطن العربي برغبة عارمة في الحصول على جرعته اليومية من "حق الاستحمار المشروع"، وهو مستعد للهتاف بقوة، والتظاهر بشراسة، والقتال حتى آخر نقطة من دمه في سبيل هذه الجرعة المقدسة.