صحوةُ الضّمير
"السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله.." كررها أبو أحمد مرتين وهو يلتفت بوجهه إلى اليمين وإلى اليسار منهياً صلاته ثم نهض بعد ذلك ليطوي سجادته ويعيدها إلى مكانها على أحد رفوف الخزانة في غرفة النوم. وكعادته كل مساء، توجه إلى أريكته في غرفة الجلوس حيث تأتيه زوجته في مثل هذا الوقت بإبريق الشاي، وتجلس إلى جانبه لمشاهدة برامج التلفزيون.
لكن أبا أحمد كان على غير عادته في هذا المساء. لم يقم بإدارة جهاز التلفزيون ولا أعار إبريق الشاي أي اهتمام، لا بل وكأنه لم يشعر بوجود زوجته إلى جانبه.
"أراك قلقاً على غير عادتك وخاصة بعد الصلاة يا أبو أحمد. هل هناك ما يزعجك.. هل تشعر بأي مرض؟"
"لا، لا.. أنا لا أشعر بأي مرض. سلمت يداك!.." أجاب باقتضاب وهو يشكرها على إحضار الشاي.
ابتعدت أم أحمد عن زوجها وجلست قبالته على أريكة أخرى تمعن النظر في وجهه وهو يحتسي الشاي محدقاً بشاشة التلفزيون الذي يتصدّر القاعة الكبيرة. كانت تحاول قراءة ما يدور بخلده علّها تعرف أسباب هذا التغيّر الذي طرأ عليه خلال اليومين الماضيين. إنها على ثقة بأنه ليس مريضاً رغم سؤالها له عما إذا كان يشعر بمرض. وهي على ثقة ايضاً أن زوجها يحبها ويحترمها ولذلك فهي لا تخشى أن تكون هناك من تنافسها على قلبه. وهي تعلم أيضاً تمام العلم أن أبا أحمد إنسانٌ مؤمن ومواطنٌ مثالي لا يفعل شيئاً يجلب له تعب الفكر، ولذلك فقد استبعدت تماماً أن يكون قد أتى بعمل يخالف القانون أو الأخلاق.
أغمض أبو أحمد عينيه وهو بعدُ على أريكته واستسلم إلى النوم، وما لبثت أم أحمد أن أغمضت هي الأخرى عينيها لتفتحهما بين الفينة والأخرى، تنظر إلى زوجها تحاول المرة بعد الأخرى أن تقرأ تعابير وجهه، متمنية لو ينطق بشيء وهو نائم يمكن لها أن تحلله لتفهم أسباب قلقه. ولكن أملها كان يخيب دائماً فتعود إلى غفوتها مجدداً إلى استفاق الاثنان أخيراً على صوت باب البيت يُفتح ليدخل منه أحمد ابنهما الأكبر.
"السلام عليكم!.." ويرد الأب السلام بصوت منخفض بينما تجيب الأم بحرارة ثم تقول، "ومساء الخير يا ابني.. تأخرت هذه الليلة!"
"نعم، نعم.. الحق معكِ.. لقد كانت جلسة دراسة طويلة بعد الصلاة!" يجيب أحمد.
"هل أضع لك شيئاً تأكله؟.. الطعام جاهز ولا يحتاج إلا إلى التسخين؟"
"سلمت يداك يا أمي. لقد أكلت مع الأخوان بدعوة من الشيخ.. تصبحين على خير. تصبح على خير يا أبي. لا تنسي أن توقظيني باكراً إذا حدث وأن تأخرت في نومي. علي أن أكون في المطار قبل طلوع الفجر!"
أما أبو أحمد فيهزّ رأسه وهو يرد متمتماً.. "على خير.. على خير.."
******************
"السلام عليكم ورحمة الله.." قالها أبو أحمد صباح اليوم التالي في نهاية صلاته وهو يلتفت إلى اليمين ثم توقّف عند ذلك الحد. صمت وأخذ يحدّق في الفراغ أمامه، ولكن تحديقه لم يطل كثيراً إذ انتفض فجأة وكجدار وكأن رعشة قد أصابته، فنهض على الفور وأخذ يطوي سجادة الصلاة بسرعة ودون عناية. اتجه بعد ذلك ناحية الخزانة حيث اعتاد أن يضع السجادة ولكنه توقف مرة أخرى إذ رأى زوجته التي كانت واقفة وراءه تراقب حركاته؛ ابتسمت في وجهه وقالت: "لم تكمل صلاتك اليوم يا أبا أحمد!" ولم يخفَ على أبي أحمد ما عنت به زوجته بقولها أنه لم يكمل صلاته، ولكنه رغم ذلك قرر تجاهل الحقيقة فأجابها باقتضاب: "أكملتُ صلاتي!"
"لا، لم تكمل صلاتك يا أبا أحمد.. لقد اعتقدتُ البارحة أن هناك أزمة عابرة ولكن يبدو واضحاً أنك تعاني من أمر ما.. هل هناك خطأ أتيته بحقك؟.. أم تراك قلق على ابنك؟.. سيقضي عمله ويعود بإذن الله قريباً!"
"دعيني وشأني يا أم أحمد!.. لا لم تفعلي أي شيء. نعم، بإذن الله.. بإذن الله!"
"أعرف ذلك يا أبا أحمد. أعرف ذلك!.. ولكنك لم تتوقف عن إكمال صلاتك مرة واحدة منذ أن عرفتك. لا بد أن الأمر جليل."
"ضعي عليك ثيابك وتعالي معي خارج البيت!"
وشعرت أم أحمد بالفرج لكون زوجها قد وافق أخيراً أن يفتح قلبه لها ولكن هذا الفرج كان مشوباً بالقلق الشديد إذ أنّ شيئاً ما في داخلها كان ينبئها بأن هناك أمراً جللاً.
******************
جلست أم أحمد قرب زوجها على أحد المقاعد المتناثرة في الحديقة العامة القريبة من البيت والتي اعتادت أن تخرج للتنزّه فيها معه بين فترة وأخرى. نظرتْ إليه تطلبُ منه بعينيها ودون أن تنطقَ ببنت شفة أن يسرعَ إلى إخبارها بما يختلج في قلبه. طال صمتها حيال تردده ولكنها صمَّمَتْ على الانتظار إذ كانت تخشى إن فتحت فمها بكلمة أن تقول ما يدفعه إلى تغيير رأيه في مفاتحتها. وأخيراً، حرك أبو أحمد شفتيه وهو ينظر باتجاه عمارات المدينة وقال: "نعم.. معك حق.. أنا لم أكمل صلاتي!"
لم تقاطعه أم أحمد بكلمة. هي تعرف زوجها حق المعرفة وتعرف أنه ما أن يبدأ بالحديث حتى يسترسل به ولكنه غالباً ما يتوقّف ليفكّر فيما سوف يقول.
"لم أستطع أن أتلو السلام.. كيف أتلو السلام على أحدٍ، منظور أو غير منظور، وأنا لا أشعر بالسلام في داخلي. إنها المرة الأولى في حياتي التي أتوقف فيها لأتأمل في عبارة "السلام عليكم" التي أرددها بعد كل صلاة إضافة إلى عشرات المرات خلال النهار. إنها المرة الأولى في حياتي التي أشعر فيها أنني أمام معضلة لا أعرف من أين أبدأ بحلِّها أو إذا كنت حقاً أستطيع حلَّها."
توقف أبو أحمد عن الحديث ثم ظهر الارتعاش على وجهه ويديه إلى درجة كاد ينفجر فيها بالبكاء، وعرفت أم أحمد أن هناك قنبلة على وشك الانفجار فاستعدّت للتخفيف من آثارها بأن مدّت يدها لتضعها فوق يديه دون أن تنطق بكلمة. ثم فجأة وبسرعة لا تعهدها منه، نطق أبو أحمد بما في قلبه وكأنه يخشى أن يتراجع عن القول إن لم يسرع به. "أحمد.. في طريقه إلى الانتحار يا أم أحمد!!"
******************
كانت قنبلةً بحق. لقد توقعت أم أحمد أن تسمع أي شيء إلا هذا الخبر. وجاء الآن دور أبي أحمد ليمسك بيديها قبل أن يُغمى عليها.
"لماذا.. ماذا حصل.. ماذا فعلنا.. ماذا فعل.. ما هي القصة، أخبرني ولا تتوقف عن الحديث. أكاد لا أشعر بقدمي. أرجوك، لا تتوقف عن الحديث!.."
"اهدئي يا امرأة.. اهدئي. سأخبرك بكل القصة التي أنا نفسي لا أكاد أصدقها لولا أنه هو الذي أخبرني بها. أحمد لا يدعو ما سوف يقوم به انتحاراً؛ إنه يدعوها عملية استشهادية. هكذا يدعوها! لقد تطوّع هو ومجموعة أخرى من أخوانه في الحلقة الدينية التي ينتمي إليها للقيام بعملية استشهادية لخدمة أمته الإسلامية والعربية. هذا ما قاله لي هو بلسانه. المشكلة هي ليست في أنه سيقتل نفسه فقط بل ربما سيتسبب في مقتل بضعة آلاف من الأبرياء. لقد جاء إلي يستأذن كما قال له الشيخ أن يفعل قبل أن يقوم بتنفيذ العملية. قال أن استئذان الأهل يدخله الجنة وهو مرتاح الضمير. لم أعد أعرف ماذا أفعل!.. لقد حلّفني بالله وبنبينا محمد وطلب مني أن أضع يدي على المصحف قبل أن يطلعني على الخطة ولكنه لم يستثنِكِ إلا خوفاً عليك إذ خشي إن أشرَكَـكِ في معرفة ما هو مقدمٌ عليه أن يصيبَ قلبَك مكروهٌ لا تحمد عقباه. لقد فقدتُ سلامي مع نفسي يا أم أحمد وأنا أفكر بمصير ابني الوحيد، ولكن ما قلب حياتي رأساً على عقب هو أنني فقدت سلامي حتى مع الله حين تصورت آلاف الأبرياء من الأطفال والرجال والنساء الذين سيموتون على يد إنسان خرج مني ومنك. صراعي لم يعد بيني وبين نفسي بل اصبح بيني وبين الله. انظري إلى هذه العمارة الباسقة التي ترينها أمامك خارج الحديقة. انظري إليها وتصوّري العدد الهائل من الناس الأبرياء فيها الذين ينتظرون انتهاء النهار ليذهبوا إلى عائلاتهم لتناول العشاء معهم عند المساء. انظري إلى هذه العمارة وتصوّري أشلاء البشر تتطاير من نوافذها ثم تصوريها وهي تسقط على مئات البشر الآخرين الذين يمشون في الشوارع. هذا ما يريد ابننا أن يقوم به يا أم أحمد. إنه سيقوم باختطاف طائرة ثم يجبرها على التوجه إلى أكبر عمارة في أميركا ويصدمها ومن فيها من ركاب لأجل أمته ودينه. هنا موطن الصراع يا أم أحمد.. هنا توقفت قبل أن أنهي صلاتي. أي سلام سوف أردده كل يوم بعد الصلاة أو خلال النهار وقد عرفت مسبقاً بأن آلافاً من الأبرياء سوف يلقون حتفهم دون أن أفعلَ شيئاً. صراعي أصبح مع نفسي أيضاً إذ بدأت أرى الدين الذين آمنت به كل عمري بمنظار غير ذلك الذي كنت أراه به من خلاله من قبل. أخذت أخشى أن يدفعني إيمانُ ابننا إلى الكفر. لقد قضيت اليومين الأخيرين وأنا في صراع مع كل شيء. مع حبي لابني ولك ولبلدي ولديني، ولكن مع هذا الحب، ظهر في قلبي فجأة حبٌّ آخر لكل إنسان على وجه هذه الأرض. لا أحد يستحق الموت بجريرة أحد. ولا أحد يجوز له أن يعتبر نفسه سيفاً لله على هذه الأرض. إذا كان الله حسب ما آمنتُ به طول عمري من قوة وعظمة، فإنه يستطيع بنفسه أن يقتص ممن يراهم يستوجبون العقاب. لقد بدأت أشعر بكراهيتي لنفسي ولك وأنا أفكّر بأن إنساناً خرج مني ومنك سوف يتسبب في مقتل آلاف من الأبرياء. هذا لن يتم وإذا تم فإني سأقتل نفسي احتقاراً لها لأنها لم تشجعني على الوقوف في وجه جريمة كهذه الجريمة."
وفتحت أم أحمد أخيراً فمها لتسأل زوجها والدموع تغسل وجهها غسلاً وتكاد تغصّ بها. "ما العمل يا أبا أحمد؟.. هل تعتقد أنّ بإمكانك أن تثنيه عن الإقدام على ما عقد العزم عليه؟.."
"سوف ينفذ أحمد مهمته مهما كلف الأمر، ولقد انطلق منذ ساعات إلى مهمته" أجاب أبو أحمد. "لم أحاول ثنيه عن ذلك لأنه ذكر لي سلفاً أنه يخبرني عن ذلك من قبيل الواجب، ولكن واجبه تجاه الله والنبي وأمته هو أعظم. لقد قررت يا أم أحمد أن أفعل ما يتوجب علي فعله.. شيءٌ ما أشعر بأنه قد استفاق في داخلي يأمرني بأن أقف في وجه تنفيذ هذه العمل الرهيب. أحمد، لن يثنيه عن قراره أحد، وكذلك أنا، لن يثنيني عن قرار الوقوف في وجه تنفيذ هذه الجريمة أحد!.. إذا كان قراري سوف يؤدي إلى موت ولدنا، فليكن ذلك، إذ أنه على أي حال سيموت. لا بل ربما سينقذه قراري من الموت كما سينقذ آلافاً من الأبرياء.
******************
يوم كامل انقضى بليله ونهاره بعد رحيل أحمد. استفاق أبو أحمد باكراً جداً هذا الصباح وجلست أم أحمد هذه المرة إلى قربه تحدق في شاشة التلفزيون تترقب معه الأخبار. ولم يطل الانتظار إذ أطل المذيع فجأة يقطع البرامج العادية ليعلن: "أغلقت السلطات الأميركية جميع المطارات في الولايات المتحدة الأميركية بعد أن ألقت القبض على مجموعة من الشبان العرب الذين وصلوا إلى أميركا، وأعلن أحد المسؤولين أن أسلحة ومتفجرات قد وُجدت في حوزتهم قبل صعودهم إلى إحدى الطائرات التي كانت على وشك الإقلاع إلى مدينة داخلية. تقول السلطات أنّ الفضل في اكتشاف المؤامرة يعود إلى اتصال أجراه مع السفارة الأميركية مواطن عربي يقول أنه صاحب ضمير.
******************
مدّ أبو أحمد سجادته وركع يصلي هو وأم أحمد. انتهت الصلاة والتفت أبو أحمد إلى يمينه وقال، "السلام عليكم ورحمة الله" ثم التفت إلى شماله لتلتقي عيناه بعيني أم أحمد الممتلئتين بالدموع ليتابع ويقول، "السلام عليكم ورحمة الله!".