"قاعدون في حضنه ناتفون من ذقنه"
كانت عبارة تاريخية تلك التي تفوه بها الرئيس الراحل جون كندي، خلال خطبة له قال فيها: "لا تتساءل عما يمكن لبلدك أن يقدمه لك، بل اسأل نفسك عما يمكن أن تقدمه أنت لبلدك!"
حين قال الرئيس كندي العبارة المشهورة تلك، لم يتوجه بها إلى فئة دون أخرى من الناس. لم يتوجه بها إلى سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر أو الأميركييين الذين ولدوا أباً عن جد لجيلين أو ثلاثة أو أربعة من الزمن، بل قصد بها كل الأفراد الذين تتكون منهم هذه الأمة بمختلف أصولهم وألوانهم وعقائدهم. أمة تكونت من جميع أمم الأرض قاطبة إذ ليس هناك من أمة لا يمثلها في هذا البلد فردٌ، على أقل تقدير، أو جماعة من الناس.
هناك الإنكليزي والألماني والإيطالي والروسي والياباني والمالطي والإسباني.. هناك الصيني والهندي والإيراني والباكستاني.. هناك النيجيري والعربي والسوري والأرمني والكردي وغيرهم.
هناك أيضاً من ديانات العالم كله.. فهناك المسيحيون واليهود والهندوسيون والمسلمون والبوذيون والبهائيون والسيخ وعبدة الأوثان وأيضاً الذين لا يؤمنون بدين من الأديان.
كلٌّ من هؤلاء جاء إلى هذا البلد لسببٍ يختلف عن السبب الذي دفع الآخر للمجيء إليه. ولكنهم كلهم جاءوا إلى هنا هرباً من وضع من الأوضاع، أو سعياً وراء فرصة لم تتوفر لهم في مواطنهم الأصلية.
منهم من فزع إلى هذا البلد من جور حاكم، ومنهم من هرب من اضطهاد ديني أو سياسي أو عرقي أو اجتماعي أو فكري. ومنهم من جاء إليه يسعى وراء لقمة عيش، أو لطلب علمٍ، أو وراء الأمن أو الراحة والرخاء.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو الآتي:
كيف ينظر هؤلاء الناس إلى هذا البلد سواء كانت إقامتهم فيه إقامة مؤقتة أو أنهم قرروا الاستقرار فيه كوطن دائم لهم؟
قبل أن نجيب على هذا التساؤل، يتوجب علينا أن نتأمل في معنى كلمة "الوطن".
ما هو "الوطن" وما هي مقوماته؟
لو كان الوطن تراباً، فهناك تراب وهنا أيضاً تراب. أما إذا كان ذلك التراب أغلى على قلوب هؤلاء من هذا التراب فكان يجدر بهم أن لا يفارقوا ذلك التراب ويتخذوا إن استطاعوا منه طعاماً لهم أو يصنعوا منه دفاتر مدرسية لتعليم أولادهم أو علاجاً لأمراضهم.
كان يجدر بهم أن يبقوا عليه متشبثين به إلى أن يُسـْـدَلَ فوق أكفانهم.
لو كان الوطن حدوداً جغرافية وذكريات وروائح توابل، لكان عليهم البقاء ضمن تلك الحدود يدافعون عنها حتى الموت يأكلون ويطعمون أولادهم من ذكرياته ويملأون صدورهم من روائحه العطرة.
ولكن الوطن أعظم من أن يكون حفنة تراب.
الوطن أعظم من أن يكون خارطة جغرافية أو كتاب تاريخ.
والوطن بالتأكيد هو أعظم من أن يكون جلسة مع الجيران في ليلة صافية أو نفس أرجيلة وطاولة زهر وشجرة ياسمين.
الوطن كرامة وحرية وبيت وعائلة ومجموعة حقوق.
هذه هي بعض العناصر الأساسية التي تشكل الوطن. ومن أجل هذه العناصر الأساسية يهاجر الناس من بلد إلى آخر إذ لو توفرت لهم حيث كانوا لما هاجروا سعياً وراءها.
وبدون هذه العناصر لا يعود الوطن وطناً بل يصبح حفنة من تراب لا تساوي شيئاً ومجموعة ذكريات لا تسد جوعاً أو تروي عطشاً.
وحين تتوفر هذه العناصر يصبح للتراب وللحدود قيمة وللذكريات معنى.
حين يحمل الواحد منا سلاحاً للدفاع عن الوطن، فإنه ليس إلا مخبولاً إذا كان يحمل ذلك السلاح ليَـقـتُـل أو لـيُـقـتَـل من أجل حفنة تراب أو حدود جغرافية أو أصداء ذكريات.
يحمل الواحد منا سلاحه ليدافع عن بيت جبل أساسه بعرق جبينه.
عن عائلة يخشى عليها أن تفقد ذلك البيت.
عن حقوق مكتسبة أو غير مكتسبة يخشى عليها أن تضيع.
عن كرامة يخشى عليها أن تُداس.
يدافع عن مصدر رزق سواء كان مؤسسة أو محلاً تجارياً أو مصنعاً أو وظيفة تؤمن له العيش الكريم.
فإذا لم يكن للإنسان حيث يقيم كرامة وحرية وحقوق وبيت ومصدر رزق فأي وطن هو ذاك الذي يهب للدفاع عنه؟
فليتغنَّ المتغنون العاطفيون ما شاؤوا بدجلة والفرات أو النيل..
ليتغنَّ المتغنون ببرتقال يافا وبالخيل أو بشجر النخيل!..
ليتغنَّ المتغنون بالعيون الحور والصحراء والسماء..
ليتغنوا ما شاؤوا بصلاح الدين أو بعنترة وعبلة وبكل ما في كتب التراث أو التاريخ .
ليتغنوا ما شاؤوا أن يتغنّـوا..
فمن حقهم أن يتغنوا رغم ما يدخل تغنيهم من سرور على قلوب حكامهم.
أما أن يتنكر هؤلاء للنعمة التي أفاء الله عليهم بها في هذا البلد الذي فزعوا إليه فشرع لهم أبوابه.
أما أن يأكلوا من خيره، ويحتموا بقوانينه، وينالوا حقوقاً لم يكونوا ليحلمون بنيلها في مواطنهم الأصلية، ثم ليصبوا بعد كل ذلك جام حقدهم عليه ويكيدون له فهؤلاء بالحقيقة هم الكافرون.
إذا كان "الولاء لمن أعتق"، كما يقول كتاب "الحديث"، فما على الذين كفروا بهذه النعمة التي مُنحوا إياها إلا أن يقوموا بفحص ضمائرهم بتجرد وحسن نية، ولا شك أنهم آنذاك سيعلمون علم اليقين أن البلد الوحيد الذي يستحق ولاءهم، هو هذا البلد الذي أعتقهم مانحاً إياهم كل ما حُرموا منه من حرية فكرية وثقافية واجتماعية ودينية وسياسية واقتصادية، وأعاد لهم شعورهم بإنسانيتهم وكرامتهم.
هذا البلد قد أعطى وهو لمستحقٌّ بأن يأخذ، فإذا تساءلت عما يمكن لهذا البلد أن يقدمه لك، فإنه قد قدم لك الكثير، وقد جاء دورك لكي تقدم له كل ما تستطيع أن تقدمه.
هذا البلد، إن كان قد شرع أبوابه لكل هؤلاء الذين لجأوا إليه من كل حدب وصوب، فإن أبوابه تلك، تبقى مفتوحة أيضا لكل الذين لا يعجبهم "العجب ولا الصيام برجب" وللذين لا زالوا يرون فيه شيطاناً أكبر وما عليهم إلا أن يعودوا منها إلى حيث كانوا و"أسـْــعَـدَهُمُ اللهُ وأبعَـدَهُم!"