كانت مصادر مواد البناء متعددة فقد كان البيروتيون يجلبون الحجر الرملي للبناء من مقالع المصيطبة والزيدانيّة، تتولى أرتال من الحمير نقله إلى موضع الورش.
من هذه المقالع ما ذكرته الوثيقة المسجلّة سنة 1266هـ والتي باع بموجبها محمود وناصيف إبراهيم تلحوق إلى متري عبده سركيس ما يخصهما في (قطعة الأرض الكائنة في مزرعة المصيطبة بالقرب من عين الجديدة التي كانت سابقاً مقلعاً لأجل استخراج الأحجار ... وكان من شهود الوثيقة الشيخ محيي الدين أفندي البكري اليافي المفتي بمدينة بيروت).
ويستفاد من الوثيقة المؤرخة في 22 ذو القعدة سنة 1268هـ أن ميخائيل ناصيف بلبول استأجر قبل سبع سنوات (من السنة المذكورة) قطعة أرض في المصيطبة من سلمى ميخائيل خليل، ليخرج منها أحجاراً على سنة بأجرة قدرها خمسة آلاف قرش.
وفي 9 ربيع الآخر سنة 1281هـ إشترى نعمة جرجس الشويري من طنوس حنا المعلوف قطعة أرض من (محلة المقالع في مزرعة المصيطبة).
يُذكر أن الطريق الآخذة من خلف مدرسة المقاصد للبنات في قبر الوالي (الباشورة) قرب مركز الإطفائيّة والمتجهة إلى برج أبي حيدر والمصيطبة كانت تُعرف بطريق المحافر.
وكان من جملة المقالع قطعة أرض مساحتها سبعة آلاف وثلاثمائة ذراع معروفة بالمقلع العتيق في مزرعة المصيطبة إشتراها ملحم بن ديب إلياس مطر من أندراوس بطرس سلوم جنحو وكان هذا الأخير قد تصّرف بها لمدة تسع عشرة سنة ثم استأجرها ميخائيل أبي جبرا الشويري وإلياس الكريشاني لقلع الأحجار، فقلع منها أحجاراً كثيرة على ما أعلمتنا وثيقة منازعة حول الأرض المذكورة حصلت سنة 1298هـ .
وكانت الحجارة تلتصق فوق بعضها بالجص وهو جبصين يُحرق في أتون ويطحن ويُنخل وهو للحجر كالمسمار للخشب.
والأتون هو معمل الكلس القديم، عرفت بيروت القديمة محلة باسم (الأتونات)، الأتون لغة موضع مخصوص في حفرة من الأرض توقد فيها النار لعمل الجير والجص والجمع أتاتين.
وكان البيارتة يلفظونها (يتون) واستعملوا الأتون بحرق الجير (الكلس) وإعداده لخلطه مع الرمل في البناء. وكان الكلس إلى عهد قريب تحفر له حفرة خاصة في الورش. أما موقع الأتونات فتحدده وثيقة تاريخ 18 شوال سنة 1263هـ التي إشترى بموجبها مصطفى يحيى شاتيلا من وقف كنيسة الروم، الجل التين الكائن في أرض تين الرمل قريباً من الأتونات الشهير برأس بيروت المشتمل على تين وتوت وأصول مقساس وعمار بيت، واشترى مصطفى شاتيلا المذكور من سعيد يموت كرم التين المحتوي على جلّين مشتملين على أرض وغراس تين الكاين في تين الرمل المشهور برأس بيروت بالقرب من (الأتونات) المحدودة قبلة الأودية وشمالاً بني الصايغ وشرقاً سيد أحمد زيتون وغرباً ساقية الجنزير، أما الورقة الداخليّة فكانت من كلس وقصرمل.
ومنذ سنة 1859م كانت الأخشاب المستعملة في الجسور والألواح للسقوف والمنجور من اللون الأحمر اللقش قد وردت من أميركا وبيعت في محل ثابت أخوان وشركاهم وقيل في حينه بأنها أرخص من الخشب الوارد إلى بيروت من الأناضول، وكانت أول شحنة منه قد وردت في تلك السنة وإشتهر في بيروت والشام بأنه أحسن من الخشب القطراني، فكثر عليه الطلب منذ سنة 1867م من مخازن ثابت في سوق السادات حمادة وفي مخازن مصطفى الغندور بآخر سوق الخشب في السنطيّة، أما القرميد فكان الوطني منه مصنوع من محل يوحنا مسك ويُباع على يد جرجي شهدان عازار عند باب الدّباغة، أما الأجنبي فكان يُستورد من معمل جبشارد أخوان في سان هنري بفرنسا، وقد إشتهر بجودته وصلابته ففضله أهل الآستانة ودوائر الحكومة، وكان يباع في بيروت بواسطة أوغست دوبلان وشركاه.
وكانت جسور الحديد التي تحمل ألواح الكريش ترد من محل يُوسُف ديجون في بلجيكا وقيل إن جودتها كانت في خلوها من البولاد وكانت تباع عن السادة باز أخوان ومايز وهاني وشركاهم الذي كانوا قد استحضروا أيضاً الكلس الأفرنجي (Chaux Hydraulique) من مرسيليا، في الوقت الذي كان فيه شكري بولس ملحة وشركاه قد باشروا بعمل كلس من (أعلى جنس كل يوم بيومه صيفاً وشتاءً بأسعار متهاودة فمن يرغب يشّرف محلنا في أجزائية (صيدلية) الخواجات عرب وملحة أو محل المعمل في أنطلياس).
يُذكر أن بعض مستوردي الرخام جرب نظراً لارتفاع أسعار رخام كرَّارا، الاستعاضة عنه برخام من سير فيتزا قرب ليورنا، ولكن أصحاب الأبنية فضلوا رخام كرَّارا مما دفع الخواجة ميخائيل عكه إلى الاتفاق مع صاحب مقالع الرخام في جبل كرَّارا الإيطالي، السنيور اكوستينو ماركيني على توريد أنواع الرخام المذكور للتبليط والبلكونات والزفورة إلى المعمل الكائن بجانب خان أنطون بك.
وكان مصطفى العريس يبيع في محله تجاه المستشفى العسكري، حربة الصواعق (Paratonnere) التي كان الأوروبيون يركبونها في بيوتهم في بيروت، كما باع فرنسيس راهبة وولده الحيّات الحديدية وقساطل الصب وطلمبات لسحب المياه وذلك في محله عند بوابة الدّباغة قرب الميناء.
وإذا تعرضت أبنية الجيران إلى الأخطار نتيجة حفريات إنشاء بناء مجاور، انتقلت المحكمة لأجراء الكشف الحسي برفقة ناظر الأملاك ومعمار باشي (شيخ المعماريّة) وغيرهما من ذوي الخبرة، أو يُكلّف بالكشف (مأمور أبنية بيروت) عارف أفندي.
وكانت السطوح من الحجرية المسماة (عدسة) تمنع تسرب المياه إذا أُتقن صنعها وتتألف من بحص ناعم يؤخذ من شواطئ الأنهر بعد غربلته جيداً ثم من رمل أبيض يدعى مجرّي، نسبة إلى منطقة المجري في محلة الجناح، فكلس عربي يصير جبلة ومدُّهُ بسماكة عشر سنتيمترات تقريباً على طبقة من فضلات الحجر الرملي وتدعى (نحاتة) وخبطهِ جيداً مدة يومين بمخباط خشبي ثم يُبنى على جهاته الأربع حائط قليل العلو أم كثيره، حسب الطلب ليحفظ موازنة الثقل ويسمونه إفريز أو عمامة.
وتُظهر الصور القديمة للبيوت أن هذا الإفريز يرتفع جزء منه عند زوايا السطح وكأنما أريد له أن يكون متراساً يقف المقاوم خلفه بحال تعرض البلدة لإعتداء أو هجوم.
ومنذ مطلع القرن العشرين بدأ استعمال ألواح الأترنيت، والطريف أن مستورده من بلجيكا درويش يُوسُف حداد أوضح في نشرة إعلانيّة سنة 1914م معنى اللفظة فقال : (إن اسم ايترنيت مأخوذة من لفظة (Eternité) ومعناها (الأبديّة)، وتفسيره المعنوي (الألواح الأبديّة)، فهذه الألواح هي إختراع جديد لسقف الثكنات بدلاً من القرميد، لكونها تقوى على إحتمال العواصف والجليد وهي بالوقت نفسه غير قابلة للحريق، فضلاً عن خفة وزنها مما يسهل نقلها باجرة زهيدة ... وهي لا تفعل بها عوامل الطبيعة خصوصاً رطوبة البحر في البلاد الساحليّة .... ومنظرها على الثكنات بديع للغاية كما ينظر ذلك في بنايات الكليّة الأميركيّة ومدرسة الطب الفرنسوية في بيروت.
ومن الطريف الإشارة إلى وجود كفّ من النحاس مثبتة على مدخل البيت يُطرق بها لإعلام أهل الدار بقدوم زائر. وإستمر ذلك حتى سنة 1902م عندما أعلن مصطفى العريس (أن من الإختراعات التي اقتضاها التمدن العصري ما يزيد الإنسان راحة وحياته وقاية)، باستبدال الطرق على الأبواب والصياح في داخل المنزل وخارجه، بجرس كهربائي .... وثمن الجرس مع لوازمه 20 فرنكاً.
يُذكر أن صوت المرأة كان يعتبر عورة، فكان على المرأة عندما تسمع الطرق، أن تضع أصبعها في فمها قبل السؤال عن الطارق.