إعتمدنا في هذه النبذة على وثائق محكمة بيروت الشرعيّة في سجلاتها المحفوظة منذ سنة 1259هـ 1843م وعلى وثائق متفرقة يعود أقدمها إلى سنة 1635م محفوظة لدى بعض الأسر كآل القصّار وبيهم والعيتاني والهبري وغيرهم، كما إعتمدنا أيضاً فيما خص جور آل الفاخوري في محلة الشيخ رسلان، تجاه المدخل الشمالي للجامع العمري الكبير، على ذكريات السيد مصطفى عبد اللطيف فاخوري وعلى ذكريات رواها عن عمه المرحوم مواهب عبد الرحمن الفاخوري، عن بيت جدهما في تلك المحلة على أحمد الفاخوري وجدتهما صفيّة بنت الشيخ محمد عمر الفاخوري، علماً بأن مواهب ولد سنة 1902م في البيت المذكور الذي هدم أثناء الحرب العالميّة الأولى في مشروع عزمي بك لتوسعة شوارع المدينة وإعادة تنظيمها.
وقد ورد ذكر الشيخ محمد المذكور بمناسبة غرفة أنشأها على نفقته سنة 1234هـ 1818م في مقام الإمام الأوزاعي أرّخ لها مفتي بيروت في حينه الشيخ عبد اللطيف فتح الله بقوله:
هذه حجرةٌ بناها مُحِــــــبٌّ لأبي عَمْرِو الإمام الشهير
قال لي قائل : فمن ذا بنــاها؟ أنت فيه ولا إمترا بالخبير
قلتُ : فاسمع ودمتَ أرِّخ مُحبًّا قد بناها محمد الفاخـوري
كما سكن في تلك المحلة أيضاً الشيخ علي الفاخوري والد المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وكانت داراً فسيحة وغرفها كثيرة، كان البيارتة يقيمون فيها أفراحهم على ما رواه الشيخ عبد القادر القبّاني.
أخذت المحلة اسمها من الشيخ رسلان أو أرسلان بن يعقوب بن عبد الله بن عبد الرحمن الجعبري الدمشقي من أكابر مشايخ الشام وأعيانها العارفين الصالحين، صاحب أنفاس صادقة وكرمات خارقة، وأرسلان بالتركيّة تعني (أسد)، عاش أيام الحروب الصليبيّة وبقي تأثيره الروحي قروناً عديدة، كما سار صيت كراماته في الآفاق والبلدان وقال عنه أحد الرواة : رأيت الشيخ رسلان بظاهر دمشق مرة وبين يديه حصى يرمي بها فسألته فقال : هذه سهام في الفرنج . لقب بالباز الأشهب وله قصيدة طويلة في التوحيد.
وله ضريح في دمشق بناه سنة 1049هـ أحمد بن محمد المعروف بالزريابي وأجرى مالاً للشباك قبالة الضريح.
يُعتقد أن تسمية المحلة بالشيخ أرسلان يَعود إلى أيام الحروب الصليبيّة، يعزز هذا الرأي أن الساحة القريبة من تلك المحلة كانت تُعرف بساحة الشهداء، أي الشهداء الذين قتلوا أثناء الحروب المشار إليها. وهي غير ساحة البرج التي أُطلق عليها بعد سقوط الدولة العُثمانيّة اسم ساحة الشهداء.
يعزز هذا الرأي أيضاً إعتقاد آبائنا وأجدادنا بكرامات الشيخ رسلان، فأطلقوا اسمه على أبنائهم، نذكر منهم رسلان دمشقيّة جدّ السفير نديم دمشقيّة، وكانوا يرددون عند الملمات عبارة : (شي لله يا شيخ رسلان، يا حامي بر الشام).
وعمارة بيروت العتيقة مشابهة لأسس العمارة العربيّة ولميزتها المتمثلة بمواكبتها لمتطلبات واحتياجات المجتمع بما يتفق مع التعاليم الروحيّة والأخلاقيّة من جهة وآخذة بالاعتبار الظواهر المناخيّة والنواميس الطبيعيّة من جهة ثانية .
وقد إتسمت بالفرديّة والجماعيّة في آن معاًً، الفرديّة داخل البيت بما يحفظ حرمته وخصوصية ساكنيه. والجماعية خارجه، من حيث الانسجام مع الأبنية المجاورة والملاصقة ولبقية خطط المدينة.
والعمارة البيروتيّة العتيقة بسيطة في الشكل المادي ولكنها شاملة في تلبية الاحتياجات الماديّة والنفسيّة. وغالبية بيوت بيروت كانت مؤلفة من طابقين فوق الدكاكين المعقودة بشكل أقبية (جمع قبو) فعندما يقال الأرضي يعنون به الأول فوق الدكاكين.
ويمكن ملاحظة التناسق بين العائلة والبيت والمدينة، فالمدينة يحدها سور تقفل أبوابه مساءً. والبيت مقفل على الخارج لا ينبى مظهره عن داخله. والعائلة تتوزع الغرف وتشترك في المنافع العامة له بعيداً عن أعين الغرباء، يتحرك أفرادها وينتقلون ويمشون فيه بكل راحة وطمأنينة، إذا أمطرت جلسوا تحت القسم المسقوف من أرض الدار ، الفسحة السماويّة، وإذا إعتدل الحر جلسوا حول البركة في وسط الفسحة المذكورة، فإذا إشتّد الحر صيفاً صعدوا إلى العليّات وسهروا وتمتعوا بالهواء الغربي الذي وصفوه بالحنون وغنوا له :
يا رب يدوّر غربي تيرجع حبيب قلبي
وبما أن تخطيط المدينة القديمة لم يراع فيه أي نظام هندسي، ولم توضع أية خرائط طبوغرافية لبيروت إلا سنتي 1841-1842م وضعها مهندسوا البحرية الإنكليزيّة عند حملة إخراج إبراهيم باشا، فكان من الطبيعي أن يخضع تخطيط الدور بوحداتها الأساسيّة والثانويّة وملحقاتها إلى شكل الموقع الذي أقيمت عليه الدار سواء تألف من بيت واحد أو من عدة بيوت . وهو أمر طبيعي نظراً لعدم إنتظام الطرق والأزقة والدروب.
ورغم ذلك فقد نجح المهندسون أو معلمو البناء في جعل العناصر الرئيسيّة في البيوت ونعني بها الأفنية الداخليّة والإيوانات، ذات أشكال هندسيّة منتظمة بين المربع والمستطيل. والدليل إستعمال لفظة (المربع) عند ذكر محتويات البيوت.
لا يبدو من الوثائق القديمة أن تخطيط البيوت كان يراعى فيه دائماً أن تأخذ الإيوانات المفتوحة على الفسحة السماويّة الوسطى إتجاهاً جغرافيّا معيّناً، وهذا أمر طبيعي ناتج عن كثافة السكان داخل النطاق الضيّق للسكن في المدينة داخل السور.