قافلة الحج الشآمي
الدكتور حسان حلاق
فرض الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة أداء فريضة الحج ولو مرة واحدة في العمر ولمن استطاع إليه سبيلاً، وذلك ابتداء من السنة التاسعة من الهجرة، كما أن الرسول محمد (ص) حج في السنة العاشرة من الهجرة حجة الوداع في العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، بعد أن كان الحج في السابق في شهري شوال وذي القعدة (...).
والحج يمثل أهم مؤتمر ديني سنوي للمسلمين، بحيث يتمكن المسلمون من التفاعل والتباحث حول مختلف الشؤون الدينية والاجتماعية والروحية والاقتصادية والثقافية، وكل ما يتعلق بقضاياهم وبلدانهم. وهو يمثل صيغة مساواة وعدل بين جميع أفراد الأمة الإسلامية لا فرق بين ألوانهم وقومياتهم وألسنتهم وأموالهم. ولقد حرص المسلمون منذ فجر التاريخ الإسلامي على أداء هذه الفريضة، بالرغم من كثرة المشاق والمصاعب والمخاطر الأمنية والصحية والغذائية والاجتماعية، لهذا حرصت الدول الإسلامية على تنظيم رحلات الحج، وتحويلها مؤسسة إسلامية قائمة بذاتها على غرار ما حدث في العهد العثماني.
ونظراً الى اهمية مكة المكرمة والكعبة المشرفة فقد سيّر الرسول محمد (ص) المحمل الأول إلى مكة بواسطة الجمال التي حملت الهدايا التي تليق بأهل مكة وبالكعبة المشرفّة.
وقد عرفت العهود الإسلامية المتنوعة العديد من المحامل القوافل، وذلك في العهود الأموية والعباسية والفاطمية والزنكية والأيوبية والمملوكية والعثمانية غير أنها لقيت اهتماماً لافتاً للنظر في العهد العثماني تحديداً. كما حرص السلطان العثماني أن يطلق على نفسه لقب "خادم الحرمين الشريفين" أكثر من حرصه على لقب السلطان أو الملك. لهذا نظم السلاطين قوافل الحج تقرباً من الله عز وجل، وقسموها إلى قوافل عدة أو محامل منها: قافلة الحج الشامي، قافلة الحج المصري، قافلة الحج العراقي، قافلة الحج اليمنـي، قافلة الحج المغربي، قافلة الحج التركي العثماني.
لقد شهدت قوافل ومحامل الحج الكثير من المشاق والمصاعب، لهذا حرصت الدولة العثمانية خاصة على تنظيم هذه القوافل حرصاً على راحة الحجاج وأمنهم، وقد رافق هذه القوافل عبر التاريخ الكثير من التنظيمات والعادات والتقاليد نذكر منها التنظيمات المتعلقة بقافلة الحج الشامي في العهد العثماني، منها على سبيل المثال:
1) تعيين أمير الحج على رأس كل قافلة اقتداء بالسلف الصالح لاسيما الخليفة أبو بكر الصديق الذي عين أول أمير للحج. وكان أمير قافلة الحج الشامي هو قائد الفرق العسكرية المواكبة للقافلة بهدف حمايتها، ومنذ النصف الثاني من القـرن التاسع عشـر أصبح يسمـى "محافظ الحج" لاسيما بين أعوام 1866 1916.
2) تعيين "سردار الحج" وهو نقيب الحملة، فضلاً عن تعيين إمام الحملة وقاضيها.
3) تعيين "أمير الركب" وهو أحد الباشوات العثمانيين المسؤولين عن قافلة الحج الشامي.
4) إقامة الخانات (الفنادق) والآبار والدوريات العسكرية والثكن والقلاع والأبراج والمخافر في الطرق المؤدية إلى الحج.
5) إعفاء الدولة العثمانية منطقة الحجاز من الضرائب والرسوم نظراً الى مكانتها الشريفة، وإعفاء سكان الحجاز من التجنيد الإلزامي.
6) إرسال "الصرة الهمايونية" المحملة بالهدايا النفيسة بما فيها المؤن الآتية من مصر والشام، لتقسم بين أهالي الحجاز بالعدل والمساواة. وكانت هذه الهدايا تضم السجاد والثريات والمصابيح والشمعدانات والشموع والمواد الغذائية والزيوت وسواها.
7) تخصيص الدولة العثمانية لاسيما في عهد السلطان سليم الأول ثلث ما كان يجبى من مصر، وتخصيص خراج اليونان على الحرمين الشريفين. كما خصصت أموال للبدو منعاً من اعتداءاتهم على الحجاج.
8) إصدار فرمان سلطاني خاص بأمير مكة يتمتع بموجبه في التشريفات بأسمى مقام في صف الصدر الأعظم في الآستانة والخديوي في مصر، وترتب له العطايا والهدايا من قبل السلطان.
9) وقف العديد من الأوقاف الإسلامية يخصص لقوافل الحج لاسيما قافلة الحج الشامي للسهر على راحتها وسلامتها وأمنها(...).
لقد شهدت قافلة الحج الشامي قبل انطلاقها من دمشق من "قبة الحاج" الكثير من الاحتفالات والعادات والتقاليد المرتبطة بها من تلاوة للقرآن الكريم والسيرة والأناشيد النبوية، وشهدت دمشق مسيرات متنوعة خاصة بحجاج كل ولاية من الولايات العثمانية والإسلامية. وكانت هذه القوافل تشكل عبر التاريخ تمازجاً سكانياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً بل اعتبرت دمشق في موسم الحج سوقاً رائجة للبضائع المتنوعة. وقبل مغادرة القافلة دمشق إلى الأراضي المقدسة يقوم هذا المزيج الإسلامي بزيارة الأماكن الدينية مثل قبور وأضرحة الأولياء والمساجد مع ما يرافقها من طبول وأناشيد ومزامير(...).
ومن العادات الدمشقية المصاحبة لقافلة الحج الشامي الآتي:
1) مواكب الزيت والشموع: وهي التي تضم الزيوت والشموع الشامية التي تنقل إلى أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة.
2) موكب المحمل والسنجق: ويضم هذا المحمل مجسم للكعبة المشرفة مغطى بقماش مخملي أخضر، وقد كتب عليه بالقصب المذهب آيات من القرآن الكريم، ويحمله جمل مزين بأقمشة مزركشة وجلود جميلة، وهذا الموكب يرافق قافلة الحج الشامي إلى الأراضي المقدسة في الحجاز. أما السنجق فهو علم النبي محمد (ص) كان يحمل على جمل آخر، ويمسك بهذا الجمل حارس خاص يلبس هنداماً مزركشاً.
3) موكب قافلة الحج : وكان موعد خروجها بين 15 20 من شهر شوال من كل عام. وكان على رأس كل مجموعة من القافلة شخص يمسك بيده علماً من الحرير الأحمر أو الأخضر أو الأصفر. كما يتقدم الموكب بعض جنود السباهية والانكشارية والأغوات وعناصر من الجنود العثمانيين يمتطون جياداً مزينة بأجمل الزينات والأقمشة المزركشة، وأمامهم "الهودج" المحمول على ظهر جمل ضخم، بالإضافة إلى حملة القناديل للإضاءة ليلاً.
وقبل انطلاق قافلة الحج الشامي يصلي الجميع صلاة السفر وعلى نية التوفيق والسلامة والأمن. ويحرص والي دمشق وأمير الحج والمسؤولون العثمانيون كافة على التأكد من أن صناديق الهدايا والصرة الهمايونية مقفلة بإحكام ومختومة بخاتم الوالي. وترافقها الطبول والفرسان المكلفون حراسة الصناديق والصرة وعرفت تلك الفرقة العسكرية باسم "صرة آلاي"، فضلاً عن أربع فرق تضم كل فرقة مئة جندي يرأسها "أونباشي" تتقدمها فرقة موسيقية عثمانية تعزف على آلات موسيقية متنوعة، وتضرب على الصنوج. كما تضم القافلة فرساناً آخرين يزيدون على مئتي فارس يتسلحون بالأسلحة الفردية والمدفعية.
وبما أن فريضة الحج فريضة دينية، فإن المفتين والقضاة والعلماء والخطباء والمدرسين والشيوخ وأئمة المساجد يتقدمون عادة موكب قافلة الحج الشامي. وبالرغم من معاناة الحجاج فقد كان الجميع حريصاً على المشاركة في أداء فريضة الحج ابتداء من دمشق إلى المدينة المنورة (وتبلغ المسافة بينهما حوالي 1300 كلم) وزيارة قبر الرسول محمد (ص) حيث يتجه في ما بعد ركب المحمل الشامي إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج.
وكانت قافلة الحج الشامي من أهم قوافل الحج التي كان موعدها يبدأ عادة منذ منتصف شهر شوال من كل عام وبالتحديد بعد عيد الفطر السعيد، وكانت تضم حجاج بلاد الشام (الولايات السورية والولايات اللبنانية بما فيها حجاج بيروت والولايات الفلسطينية والأردنية) وحجاج كردستان وأذربيجان والقوقاز والقرم والأناضول والبلقان، وحجاج اسطنبول ذاتها، فضلاً عن حجاج العراق، وقد وصل عدد حجاجها في بعض سنوات القرن التاسع عشر إلى خمسين ألف حاج. ونظراً الى أهميتها فقد كان السلطان العثماني يشرف بنفسه على تنظيمها ورعايتها والصلاة من أجل سلامتهـا، قبل انطلاقها من اسطنبول، ومن ثم وبرئاسة أمير الحج تقطع القافلة الطريق التجاري وصولاً إلى دمشق، ومنها إلى مؤاب وبلاد معن ومزريب، ومن ثم إلى مدائن صالح حتى تصل القافلة إلى المدينة المنورة. وكان كل والٍ لولاية عثمانية مسؤولاً عن حماية قافلة الحج الشامي حتى تصل إلى حدود الولاية الثانية وهكذا.
لقد كانت الدولة العثمانية حريصة أشد الحرص على سلامة الحجاج ذهاباً وإياباً، لهذا فإنها لم تتردد في تخصيص رواتب وعطايا للبدو وللقبائل الذين كانوا يتعرضون للحجاج. ولوقف التهديدات المستمرة على قوافل الحجاج، فقد قامت الدولة العثمانية بعمل حزام أمن حول الحجاز، يمتد من منطقة سواكن وموانئ اليمن وخليج البصرة وجدة والسويس، وتأمين أمن البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. وبالرغم من ذلك فقد استمرت القوافل البرية والبحرية تتعرض لبعض المشكلات الأمنية، ولم يشعر الحجاج بالأمان والسلام بشكل لافت للنظر إلا منذ أن تولى الملك عبد العزيز آل سعود حكم بلاد الحجاز، واستمرت هذه السياسة حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ومن ثم شقيقه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود. وقد اهتمت الأسرة السعودية اهتماماً بارزاً بمكة المكرمة والمدينة المنورة وتوسعة مساجدها وإعداد كل ما يلزم لراحة الحجاج القادمين من كل فج عميق.
وبعد أن تؤدي قافلة الحج الشامي شعائر الحج تبدأ بالعودة ابتداء من شهر محرم مع بداية السنة الهجرية الجديدة. وكان من عادة أمير قافلة الحج الشامي عند عودة قافلة الحج أن يجلب معه بعض قطع من كسوة الكعبة المشرفة الخاصة بالسنة التي انقضت (التي قام ولاة مصر عبر التاريخ بالاهتمام بصناعتها وإبدالها سنوياً). وذلك تبركاً بها ولتغطى بها أضرحة الأولياء. وقد صودف أن نقل بعض الحجاج البيارتة وفي مقدمهم مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي شارك في قافلة الحج الشامي بعض هذه القطع وجعلوها كسوة لضريح إمامهم الإمام الأوزاعي (رضي الله عنه) ولبعض أضرحة الأوليـاء الصالحين.
وكانت المدن الشامية تستقبل حجاج قافلة الحج الشامي بمثل ما ودعوا به من ترحاب وأهازيج وأناشيد ومدائح نبوية وزينات لاسيما زينات من أشجار النخيل وكان البيارتة وأهل صيدا وطرابلس والمناطق اللبنانية يستقبلون ذويهم في دمشق وفي مناطق الجبل وفي ضواحي بيروت مهللين مكبرين. وبعد أن أنشأ السلطان عبد الحميد الثاني سكة حديد الحجاز عام 1908 كان الجميع يودع ويستقبل الحجاج بالقرب من مرفأ بيروت. والحقيقة فإن قافلة الحج الشامي تعتبر مظهراً مهماً من مظاهر الحج عبر التاريخ العثماني، وقد بدأت بالزوال تدريجياً منذ القرن العشرين.