الفصل الثالث
إشغال الناس
علمت قريش أن اتهام مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* بالكذب أو الجنون، ورميه بالكهانة أو السحر لا طائل خلفه، وظنوا بسقيم عقولهم أن الناس إنما يجتمعون حوله لعذوبة حديثه، وجمال منطقه، وتناسوا الحقيقة الناصعة، أنهم يجتمعون حوله لصدق حديثه، وقوة منطقه، إذ حديثه هو قرآن رب العالمين، وتمادي القوم في غيهم فرأوا أن يصنعوا حديثًا جذابًا كحديث مُحَمّد!! وبادر النضر بن الحارث لتنفيذ هذه الخطة العليلة فذهب إلي الحيرة، وتعلم بها حكايات ملوك فارس وأحاديث رستم وإسفنديار، ثم عاد يزاحم النبي *صلي الله عليه وسلم* مجلسه ويقول: والله ما مُحَمّد بأحسن حديثًا مني! ثم يتساءل دهشًا: بماذا مُحَمّد أحسن حديثًا مني؟ ولأن حديث النضر لا يجذب إلا البلهاء مثله ممن يهوون الأساطير والترهات غناءً عن الحقيقة الناصعة فقد اشتري بعض المغنيات، حتى إذا سمع أن رجلاً قد مال إلي النبي *صلي الله عليه وسلم* سلطها عليه، تطعمه وتسقيه وتغني له، حتى لا يبقي له ميل إلي الإسلام!!.
المساومة والإضطهاد
لأن عبادة قريش للأصنام تدر عليهم ربحًا وفيرًا، وتنشط تجارتهم، فقد ساوم المشركون مُحَمّدا*صلي الله عليه وسلم*علي العقيدة كما يفعلون في البيع والشراء، محاولين الوصول إلي تسوية ملائمة!! فذهبوا إلي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* يعرضون عليه أمرًا عجيبًا: أن يعبدوا إلهه عامًا ويعبد آلهتهم عامًا بعده؛ حتى تتراضي جميع الأطراف. وإن قبل المشركون ترك آلهتهم عامًا فإن مُحَمّدا صلي الله عليه وسلم* لم يقبل أن يترك عبادة ربه لحظة واحدة أو ما دون ذلك.
فاقد المنطق، عديم الرأي، ماذا يملك حين يعاند الحق سوي أن يمد يده ببطش وتنكيل؟ هذا ما صنعه مشركو مكة بمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* وصحبه الأبرار، يحاولون مرة بعد مرة أن يقتلوا النبي الكريم، إما بتسليم أبي طالب مُحَمّدا لهم ليقتلوه، وإما بإلقاء صخرة علي رأسه الشريف أثناء سجوده كمحاولة أبي جهل الفاشلة، وإما بخنقه بثوب من عنقه كصنيع عدو الله عقبة بن أبي معيط، وإما بمحاولة عمر بن الخطاب التي انتهت بإسلامه، ولئن فشل المشركون في إزهاق روحه*صلي الله عليه وسلم* فلقد وصل إليه من شرهم الكثير والكثير، بداية من رميه بالحجر كما فعل أبو لهب عند جبل الصفا، ومرورًا بوضع الشوك علي بابه وفي طريقه، وبسط اللسان بالإساءة إليه، والافتراء عليه، كما كانت تصنع زوجه أم جميل، ثم ما كان يصنعه جيرانه من إلقاء القاذورات عليه أثناء سجوده، وما كرره عقبة عند الحرم حين ألقي بسلا جزور علي ظهره *صلي الله عليه وسلم* وهو ساجد، وما فعله الأخنس بن شريق من تطاول عليه وتبجح، حدث هذا لرسول الله *صلي الله عليه وسلم* وهو الشريف في قومه، الداخل في حمي أبي طالب سيد بني هاشم وكبيرها المطاع، فما بالنا بما حدث لصحبه، خصوصًا الضعفاء منهم؟ إن قصص تعذيبهم يندي لها جبين الإنسانية، كما إن صور بطولاتهم ترفع هاماتهم في عنان السماء، ما سلم أحد منهم من الأذي، بداية من أبي بكر الصديق، ثم عثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، ومصعب بن عمير، وبلال الحبشي، وعمار بن ياسر وأبيه، وأمه، وأبي فكيهة، وخباب بن الأرت. وما اقتصر الأمر علي تعذيب الرجال بل إن المرأة التي سبقت إلي الإسلام سرًا كان لها في الاضطهاد نصيب كبير! فكما كانت خديجة رضي الله عنها أول من أسلم كانت سمية *رحمها الله* أول من استشهد وقصص تعذيب زنيرة، والنهدية، وأم عبيس، وجارية بني مؤمل، وغيرهن حافلة ومؤلمة، لكن هؤلاء الأبطال البررة قد اختطوا لأنفسهم طريقًا واضحًا، كان عاملاً من عوامل صبرهم وثباتهم لاجتياز تلك المحنة.
الضغط علي أبي طالب
إن أبا طالب وقد نشأ مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* في بيته، وكبر أمام عينيه، وشهد من كريم صفاته، وسامي أخلاقه، ما قرت به عينه، يشعر حقيقة أن مُحَمّدا ابنه لا ابن أخيه. إنه نبي، هذه الحقيقة التي تملأ فؤاد أبي طالب، ويفخر بها لسانه، هي نفسها التي نطق بها حين سأله بحيرا الراهب: ما هذا الغلام منك؟ وقد اصطحب مُحَمّدا صبيًا في رحلته إلي الشام، ولأنه ابنه، ولأنه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* الذي يعرفه جيدًا فقد ناصر أبو طالب مُحَمّدا في كل موقف، وسانده في كل ضيق، وسانده حين أقر لابنه علي اتباعه، وحين أعلن تأييده يوم دعا الرسول بني هاشم، وصرح أبو طالب بمناصرة مُحَمّد في أروقة مكة وأنديتها، وما كان جوار أبي طالب *كبير مكة وسيد بني هاشم* بالجوار الذي يعتدي عليه؛ لذلك رأت قريش أنه لا سبيل إلي مُحَمّد إلا عن طريق عمه، فأخذت تمشي إليه مرة بعد مرة، مشت إليه في بداية جهره فردها ردًَّا رقيقًا، ومشت إليه في العام السادس للنبوة عارضة أن يبدلوه عمارة بن الوليد بن المغيرة *أنهد فتي في قريش وأجمله* بمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* ليقتلوه، فتعجب أبو طالب من عرضهم وأجابهم داهشًا: أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟!. وذهبت إليه قريش مرة ثالثة متهددة متوعدة: تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتي يهلك أحد الفريقين. ولقد تعبت أعصاب أبي طالب واهتزت في هذه المرة فراجع ابن أخيه قائلاً: ابق علي وعلي نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فأجابه الرسول *صلي الله عليه وسلم* حزينًا: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر حتي يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته، ثم دمعت عيناه ومضي *صلي الله عليه وسلم*، أما أبو طالب فقد ناداه ثم قال له: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.
عوامل الصبر والثبات
عشر سنوات كاملة قضاها المسلمون مع نبيهم تحت وطأة التعذيب، يكتوون بجمر قريش، ويسامون الضيم من سفهائها فما تخلف أحد منهم عن دينه، وما نقص يومًا عددهم أو إيمانهم، ولقد كان وراء ذلك من ثبات علي العقيدة، وانتشار للدعوة رغم حلكة ظروفها، عوامل بارزة وأسباب عديدة:
أولها: إيمانهم العميق بالله: حتى إنهم عرفوه حق المعرفة، فملأ اليقين قلوبهم، وهانت الشدائد علي نفوسهم.
ثانيها: يادتهم المحبوبة: مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* الرجل الكريم الذي تجتمع عليه الأفئدة، وتنجذب إليه النفوس، ويوقن بقدره، ويعترف بذلك الأعداء له قبل الأصدقاء.
ثالثها:الشعور بالمسئولية: حتي إن أحدثهم إيمانًا يعلم علمًا أكيدًا، أنه مكلف من ربه {ز وجل}بحمل الرسالة إلي العالمين، والصبر من أجل ذلك.
رابعها: ليقين بالآخرة: وحسبهم أن يروا البعث والحساب، والجنة والنار، رؤية العين حتي يعملوا فلا يملوا، ويصبروا فلا يكلوا.
خامسها: قرآن: الذي كان الوحي يأتي به صباح مساء، يعالج قضاياهم الآنية، ويجيب عن أسئلتهم الحائرة، ويرد علي خصومهم وأعدائهم، ويطوف بهم في أرجاء الكون الواسع، ثم يعرج بهم إلي ما خلف هذا الكون، فتنشرح صدورهم، وتثبت أقدامهم.
سادسها: لبشارات: التي كان القرآن يتنزل بها، والنبي *صلي الله عليه وسلم* يحدثهم عنها فهم في صبرهم ذلك موقنون بالنصر، متحينون مقدمه.
سابعها: ذه التربية الدقيقة التي كان يقوم بها النبي بنفسه، فيغذي أرواحهم، ويزكي نفوسهم، ويطهر أخلاقهم يومًا بعد يوم، من أدران الجاهلية ولوثاتها.
ثامنها: نهم مع هذا كله لم يكونوا قاعدين مستسلمين لما يسومهم به مشركو مكة من التعذيب والتنكيل منتظرين فرج الله دون عمل، بل كان للقوم طريق واضح، يبصرونه جميعًا، ويسيرون عليه دأبًا؛ للخروج من هذه الأزمة الطاحنة.
وضوح الطريق والمقامة السلمية
اختط المسلمون ونبيهم مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* لأنفسهم طريقًا واضحة المعالم، ذلك أن العاقل ينبغي له أن يفقه سيره، ويعلم ما يسمح له فيه، وما يحظر عليه، حتى لا يقف أمام كل عثرة أو منحني يعيد حسابات قد انتهي منها، ويكرر تفكيرًا كان منه قد فرغ!.
وتميز هذا الطريق بقواعد عدة منها: المقاومة السلمية، وإنقاذ المستضعفين، والاستفادة من قوانين الشرك، وعدم المساومة علي العقيدة، والاستفادة من المشاركة بين الإسلام والديانتين السماويتين: اليهودية والنصرانية، وتحييد بعض الشخصيات المشركة، وطلب المنعة من خارج قريش، والمجاهرة بالدعوة في كل وقت وكل حين.
من بين ثلاثمائة صنم يحوطون الكعبة، وآلاف المخمورين الذين يجوبون طرقات مكة، ويطرقون دور البغاء بها صباحًا ومساءً، خرجت الدعوة الخاتمة للعالمين، والدعوة الوليدة تصطدم في جوهرها بنظم مكة العتيقة، وحياة أهلها، فهل يكتب علي المؤمنين بها أن يصطدموا بأهل مكة، والدعوة بعد في أولي خطواتها؟. لقد نهاهم القرآن أن يسبوا الآلهة الصماء، وامتنعوا هم أن يردوا إلي المشركين إساءاتهم ومكائدهم اللئيمة. إن العربي الذي كان يقيم حربًا لسنوات طويلة ولا يقعدها من أجل أن فرسًا سبقت أخري دون حق، صار اليوم بعد أن دخل دين الله يعرف كيف يضبط نفسه، ويشكم جماحها، فقد تعلم من نبيه *صلي الله عليه وسلم* الإخلاص، فإلام الثأر والانتقام؟! ألحظ نفسه؟، حاشاه أن يفعل! أما إن كان لله ورسوله ودينه العمل فالخير إذن في الصبر والاحتمال. كانت هذه الخطة بليغة الأثر في نفوس أهل مكة ومن حولها، فهم يرون قومًا لا يقولون إلا شهادة الحق، ثم يرون آخرين ثائري الرأس، معكري المزاج، يسومونهم خسفًا بعد خسف، ويذيقونهم ظلمًا وعدوانًا، فكان هذا المنظر يهيج النفوس الكريمة؛ لسماع دعوة الحق الطاهرة، النقية الواضحة، التي لم تشوش علي نفسها بحرب أو قتال، وتركت المجال فسيحًا لآيات الله فحسب، تبين الحق، وتنير السبيل، وترد على المشركين.
إنقاذ المستضعفين
لم يكن موسرو المسلمين حين يلتقون مع الفقراء والضعفاء منهم يرون أن واجبهم تجاههم هو السلام والتبسم، ثم صالح الدعاء فحسب، بل كانوا يعلمون أن عليهم أن ينقذوا هؤلاء المستضعفين الذين آمنوا بالله ربًا، وبمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* نبيًّا ورسولاً، وإن أنفقوا في سبيل الله مالهم كله، أليسوا هم يعلمون أن أخوة الإسلام تعلو علي أخوة النسب؟ ألا ينبغي لهم أن يكونوا أسرة واحدة متكافلة متكاتفة؟. لقد حرر أبو بكر الصديق *رضي الله عنه* وحده ست رقاب، بلال سابعهم، وأجاب أباه حين قال له: يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذا فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟! أجابه قائلاً: يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل.
الاستفادة من قوانين الشرك
عاشت الدعوة زمنًا طويلاً في مجتمع تحكمه قوانينه، والمجتمع المشرك بمكة ما كانت تحكمه إلا قوانين الشرك، وشريعة عباد الأوثان، لكن الدعوة وهي تسعي بين دروب هذا المجتمع، ما كانت تسأل نفسها حين تجد قانونًا من قوانين مكة، من وضع هذا القانون؟، إنما كانت تستبدل به سؤالين: هل يناقض هذا القانون شريعة الإسلام أو أحكامه؟، وهل يفيدني هذا القانون بشيء. فإن كانت الإجابة الأولي بلا والثانية بنعم، تناولته ومضت تعبِّد به طريقها!. يحق للضعيف أن يدخل في جوار قوي فلا يهضم حقه أو يمس عرضه أحد قوانين مكة يومئذ، لاقته الدعوة في طريقها، فوجدته متفقًا مع مبادئها، خادمًا لمصلحتها، فاستفادت به أيما فائدة، مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* يجهر بدعوته ليل نهار، وهو في جوار عمه، فلا يمسه سوء وأبو بكر صاحبه الصديق يخرج من مكة مهاجرًا إلي الحبشة فيلقاه ابن الدغنة سيد قبيلة القارة، فلا يرضي بذلك، بل يقول له: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين علي نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، ويعود أبو بكر إلي مكة في جوار مشرك يحفظ للكبار أقدارهم.
عدم المساومة علي العقيدة
لم يقبل رسول الله *صلي الله عليه وسلم* من قريش المساومة علي عقيدته، وكذلك فعل المسلمون، وموقف جعفر بن أبي طالب ممثلاً للمسلمين المهاجرين إلي الحبشة أمام النجاشي ملكها يؤكد ذلك، وقد وردت أخبار عن اضطرار بعض الصحابة أن يقولوا في الإسلام قولاً مكروهًا تحت وطأة تعذيب لا يتحمله بشر، فهل كان هؤلاء السابقون الأجلاء في موقف مساومة؟!. كلا، فقد نزل فيهم (..إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
المشاركة بين الأديان السماوية
وقف أبو جهل ذات يوم في نفر من قريش يعترض ركبًا قد همّ بمغادرة مكة قائلاً: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، وتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال! ما نعلم ركبًا أحمق منكم. أما الركب فكان وفدًا من نصارى الحبشة، وأما الرجل الذي سعوا في خبره فقد كان مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم* ذلك النبي الذي جلسوا عنده يسألونه، فتلا عليهم القرآن حتى فاضت أعينهم من الدمع. وقديمًا قبل هذه الوقعة حزن المسلمون لفوز الفرس عباد النار علي الروم المسيحيين، حتى ليتراهن أبو بكر وأحد المشركين علي نصر الروم علي الفرس في بضع سنين، وكما كان الحال مع النصارى كان مع اليهود، فالمسلمون في هدنة مع هذين الطرفين، حتى إن مشركي مكة حين عادوا بأسئلة يهود يثرب إلي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* فأجابهم، شعروا أن كلا الفريقين والمسلمين واليهود في خندق واحد. والناظر في ثنايا السيرة يشعر أن مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم* وصحبه كانوا يبحثون عن نقاط الالتقاء، ويسعون نحو التقارب، مع من يقابلونه رغم عدم مساومتهم علي العقيدة.
تحييد بعض الشخصيات
الكافرون المعاندون ليسوا سواءً!! هكذا كانت القاعدة التي سار عليها مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* ومن معه. فأبو جهل الذي يؤذي بقوله وفعله ليس كابن الدغنة الذي يجير أبا بكر حتى يعبد ربه، وابن الدغنة ليس كأبي طالب الذي يجير مُحَمّدا حتى يدعو إلي ربه، وغير هؤلاء جميعًا هناك من لا يؤذي ولا يجير، أو بعبارة أخري لا يضر ولا ينفع، وهو بغير شك خير ممن يضر ولا ينفع! جلس عتبة بن ربيعة سيد بني أمية إلي النبي يفاوضه، فما قاطعه الرسول*صلي الله عليه وسلم* ولا استعجله، إنما استمع له بصدر رحب، يعرف كيف يحاور الخصوم، ويحترم آراءهم المخالفة، حتى إذا انتهي عتبة من حديثه، سأله الرسول *صلي الله عليه وسلم* برفق وأدب: أقد فرغت يا أبا الوليد؟، فأجابه عتبة: نعم، فمضي رسول الله *صلي الله عليه وسلم* يقرأ من سورة فصلت حتى أتي موضع السجدة فسجد، وقام عتبة إلي قريش يقول لهم: خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه. إن عتبة لم يؤمن لكن الرسول*صلي الله عليه وسلم* استطاع بحواره أن يحيده هو وبني أمية أكبر تجمع عربي بعد بني مخزوم، وتفتيت صف المشركين نصر كبير ولا شك.
الإصرار علي الجهر بالدعوة
منذ أن اعتلت قدما مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* جبل الصفا بمكة جاهرًا بدعوته، وحديث الإسلام في كل بيت، وخبر دعوته في كل ناد وطريق، اختبأ المسلمون بدار الأرقم أم ظهروا، أعلنوا عن إسلامهم أم أسرّوا، فالدعوة وخبرها هما موضوع الساعة ومحور الحديث. يظن المشركون أن الدعوة مخنوق نورها بمكة، فيجدون أبا ذر الغفاري يطلع عليهم عند الكعبة ليهزأ بآلهتهم وقد آمن، ويعتقد الواهمون منهم أن صوتها قد كبت من الخوف، فيفاجئون بصوت عبد الله بن مسعود يصدح بالقرآن بين ظهرانيهم، ويتمطون يومًا متكاسلين وقد اطمأنوا أن الدعوة حوصرت في البيوت، فيستيقظون علي أقدام المسلمين تدق طرقات مكة في صفين علي أحدهما حمزة وعلي الآخر عمر، وهكذا حرص المسلمون طوال هذه الفترة ألا تنسي دعوتهم ولا يغيب ذكرها، أما مشركو مكة الذين يريدون منع النبي *صلي الله عليه وسلم* من نشر دينه بين القبائل في موسم الحجيج، فقد قدموا للإسلام خدمة جليلة حين جابوا قبائل الحجيج وبطونهم يحذرونهم من هذا النبي الجديد، لأنهم قد نشروا الخبر بأنفسهم في الجزيرة بأسرها، حين لم يستطع المسلمون وقتها أن يصنعوا ذلك.