الفصل الرابع
دار الأرقم
الوضع في مكة جد خطير، فالدعوة الوليدة تنساب إلي كل بيت، تهز كيان مكة الديني، وتزعزع أركان قريش في أرض العرب، وأعين المشركين وآذانهم تعد علي المسلمين أنفاسهم، وتحصي خطواتهم، وتتسمع أخبارهم، لتجهز عليهم، ولذا كان من الواجب علي المسلمين أن يستتروا، وأن يتخفوا عند اللقاء، وبدار الأرقم بن أبي الأرقم كان اجتماعهم الدوري بنبيهم *صلي الله عليه وسلم* وكان وراء اختيار هذه الدار أسباب وجيهة. أما ما كان يحدث داخلها، بعيدًا عن أعين قريش، فكان حدثًا فريدًا في التاريخ، صحابة رسول الله *صلي الله عليه وسلم*أول من آمن به وصدقه ودافع عن دين الله، يجلسون إلي رسول العالمين بنفسه، يتلقون منه آخر ما نزل به جبريل الأمين من ربه *عز وجل*، تلقيا دائمًا مستمرًّا، تزكو به نفوسهم، وتتطهر قلوبهم، وتصاغ عقولهم وأرواحهم صياغة جديدة، رحم الله الأرقم ورضي عنه، لقد جعل داره مرفأ لسفينة الإيمان، ومهدًا لدعوة الله عز وجل، ومدرسة تلقي فيها الأولون دينهم.
أسباب اختيار دار الأرقم
كان وراء اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم أسباب عديدة تهدف جميعها إلي حجب المسلمين عن أعين أعدائهم.
أما أول هذه الأسباب، فهو جهل قريش بإسلام الأرقم.
وأما ثانيها: فكون الأرقم من بني مخزوم، حاملي لواء الحرب والتنافس مع بني هاشم، فلا يسبق إلي ذهن قريش أن مُحَمّدا يلقي صحبه في بيت عدوه بمقاييسهم الجاهلية.
وأما ثالثها: فهو أن الأرقم كان فتي عند إسلامه، في حدود السادسة عشرة من عمره، فلا يعقل أن يجتمع المسلمون في بيته، دون بيوت الكبار منهم. ولقد كان احتياط النبي *صلي الله عليه وسلم* وصحبه في اختيار هذه الدار سببًا لاستتار أمرهم، وعدم انكشاف حركتهم يومئذ.
الهجرة إلى الحبشة
الدفاع عن النفس، وقتال من بغي واعتدي، لم ينزل أمر الله به بعد، والبقاء في مكة أصبح مستحيلاً، مع هذا الاضطهاد والتعذيب، فماذا يفعل المسلمون إذن؟ إن رسول الله *صلي الله عليه وسلم* الرحيم بأمته، قد ارتأى لهم أن يفروا بدينهم إلي ديار آمنة، فأشار عليهم بالهجرة إلي الحبشة، فهاجر منهم في رجب سنة خمس من النبوة اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجه السيدة رقية بنت رسول الله *صلي الله عليه وسلم*، وقد هاجر هؤلاء الصحابة تسللاً وخفية، في سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلي الحبشة، حيث النجاشي الملك العادل، الذي لا يظلم عنده أحد. وما كاد المسلمون المهاجرون يستقرون بالحبشة حتى سارت إليهم شائعة بإسلام قريش، فقفلوا راجعين إلي مكة في شوال من نفس العام، وما تبينوا الحقيقة إلا بعد ساعة من نهار في مكة. واشتد تعذيب المشركين لهم، فكانت هجرتهم الثانية رغم يقظة المشركين، وشدة حذرهم. وبلغ عددهم في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة، لكن أني لنار قريش أن يهدأ أوارها، لقد عز عليها أن تعلم أن المسلمين قد وجدوا مأمنًا يعبدون فيه ربهم، فكانت مكيدتها بإرسال رسولين إلي الحبشة لاستردادهم من النجاشي، وقد خاب سعيهم، وبطل مكرهم، ورد النجاشي رسولي مكة دون أن يقضي لهما حاجة، بل أعلن إيمانه بما جاء به مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*، أما هؤلاء المهاجرون، فقد مكثوا بالحبشة، حتى مكن الله لنبيه بالمدينة، فعادوا إليها، وكان آخرهم عودة جعفر بن أبي طالب بعد فتح خيبر.
إشاعة إسلام قريش ومكيدتهم
بينا سادة وكبراء مكة جالسين حول الحرم في جمع كبير، في رمضان من العام الخامس للنبوة، إذ فوجئوا برسول الله *صلي الله عليه وسلم* يطلع عليهم، جاهرًا بتلاوة سورة النجم، وأخذ كلام الله المبين بتلابيب عقولهم، فما استطاعوا منه فكاكًا، ووصل النبي إلي قوله تعالي: (فاسجدوا لله واعبدوا) فسجد، وما تمالك المشركون أنفسهم حتى سجدوا معه جميعًا، وقد صدعت الآيات عناد نفوسهم واستكبارها، وهنا ارتبك المشركون مما حدث لهم ولم يدروا ما هم صانعوه، وتخوفوا العتاب واللوم ممن كانوا يتبعونهم أو يعارضونهم، فاحتالوا لذلك حيلة دنيئة، ومكروا مكرهم السيِّئ، وافتروا علي رسول الله *صلي الله عليه وسلم* الكذب والبهتان، فزعموا أنه قال: تلك الغرانقة العلي، وإن شفاعتهن لترتجي، بعد أن تلا: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) يريدون أن يزعموا أنهم ما سجدوا لإله مُحَمّد، إنما مُحَمّد هو الذي ذكر آلهتهم بخير، وكان من توابع هذه الحادثة العجيبة أنها وصلت إلي مهاجري الحبشة، لكن في صورة جديدة، فقد وصل إليهم أن قريشًا قد أسلمت، وسجدت لله رب العالمين، فاستبد بالقوم الفرح، وعزموا علي الإياب لمكة، فدخلوها في شوال من العام نفسه، فسامتهم قريش التعذيب والتنكيل، واحتاطوا ألا يهربوا منهم ثانية، إلا أن تدبير الله أعظم، فقد عاد المهاجرون إلي الحبشة في هجرة جديدة رغم حيطة قريش وحذرها.
مكيدة قريش
هجرة المسلمين للحبشة للمرة الثانية وبعدد يبلغ خمسة أضعاف العدد الذي هاجر أول مرة، كانت صفعة آلمت صدغ قريش وصكت أسنانها!! وبحركة لا ينهزها إلا الحقد، ولايحدوها إلا ألم الهزيمة، بعثت قريش اثنين من خيرة رجالاتها إلي الحبشة، ليسألا النجاشي أن يرد مهاجري المسلمين إلي مكة ثانية، وبقدر ما كان هذا الطلب شرسًا، بقدر ما كان غريبًا مضحكًا!! أناس كانوا يعبدون ربهم ببلدهم فأبي قومهم أن يعبدوه، فهاجروا إلي أرض بعيدة، يعبدون فيها إلههم، ولا يؤذون بها جارًا أو يعتدون علي مواطن، ما المنطق في أن يستردهم كارهوهم؟ وما الحكمة في أن يردهم مضيفوهم؟!. تكلم رسولا قريش عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة إلي النجاشي في رد المسلمين، وصدهما بطارقته، فأبي الرجل العادل أن يفصل في قضية دون سماع جميع أطرافها، وتحدث جعفر بن أبي طالب عن المسلمين، فوصف ما كان عليه قومه من الجاهلية، وأبان ما أمرهم نبيهم صلي الله عليه وسلم* أن يفعلوه من الخير وما أمرهم أن يتركوه من الشر، ووضح كيف اضطهدتهم قريش وسامتهم العذاب، حتى لجئوا إلي أرضه واحتموا ببلاده، وقرأ عليه من سورة مريم، حتى بكي النجاشي ودمعت أعين أساقفته، وهنا أطلق النجاشي حكمه، وفصل في قضيته قائلاً: إن هذا والذي جاء به عيسي ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون. فخرج عمرو وصاحبه بخفي حنين لكن عمرو بن العاص داهية العرب لم يستسلم، فكرَّ علي النجاشي صبيحة اليوم التالي ليوقع بينه وبين المسلمين قائلاً: أيها الملك إنهم يقولون في عيسي بن مريم قولاً عظيمًا؛ فاستدعي النجاشي جعفرًا ليسأله فأجابه: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلي مريم العذراء البتول؛ فصدقه النجاشي علي ذلك وأخذ عودًا من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسي بن مريم ما قلت هذا العود. وأمّن المسلمين علي أنفسهم، وردّ علي رسولي قريش هداياها، وأعادهما خائبين لمكة.
تقوية شوكة المسلمين
كلما زاد الليل ظلمة، وكلما اشتدت السماء حلكة، كلما كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر جديد. أبو جهل يمر بالنبي *صلي الله عليه وسلم* عند الصفا فيؤذيه وينال منه، فلا يرد عليه الرسول *صلي الله عليه وسلم* شيئًا، ويأبي المعاند أن يترك مُحَمّدا كريم الخلق يمضي في طريقه، حتى يضربه بحجر في رأسه الشريفة؛ فيسيل منها الدم نزفًا، ثم تكون هذه الحادثة الأليمة مقدمة لنهاية سعيدة هي إسلام حمزة بن عبد المطلب. حمية في بادئ الأمر، ثم إيمان راسخ بعدها. ولا تكاد أيام ثلاثة من شهر ذي الحجة للعام السادس من نبوته *صلي الله عليه وسلم* تمر بعد إسلام حمزة *رضي الله عنه* حتى يلطم عمر بن الخطاب أخته فاطمة علي وجهها لطمة شديدة؛ لإيمانها بمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*، فيكون الدم السائل من وجهها سببًا لإيمان ابن الخطاب، وإعلانه شهادة الحق، وفي أيام ثلاثة تتبدل أحوال المسلمين، والدعوة المحبوسة في دار الأرقم في تجد طريقها إلي الكعبة، في وضح النهار، وعلي مسمع قريش ومرآها، أقدام المسلمين تشق طرقات مكة، في صفين طويلين، يقدم أحدهما أسد الله حمزة، ويسبق الآخر الفاروق عمر، الذي أبي الاختباء، وأقسم لنبيه *صلي الله عليه وسلم* قائلاً: والذي بعثك بالحق لنخرجن!، فكان خروج المسلمين وكانت عزتهم. يصف صهيب تلك الحال قائلاً: لما أسلم عمر، ظهر الإسلام ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به!.
مساومة قريش
المساومة وسيلة مباحة! لكن أن تكون علي العقيدة، فهذا أمر لا سبيل إليه، وقريش وقد رأت شوكة المسلمين قد قويت، أخفت عداءها داخل صدرها، وجاءت تساوم علي عقيدة النبي *صلي الله عليه وسلم* ومن معه، أما ما ساومت به، فكان جمع المال حتى يكون النبي أكثرهم مالاً، وكان الملك والسيادة حتى يكون أكثرهم جاهًا، وكان العلاج إن كان ما أصابه مسًّا من الجان! والحق أن قريشًا بمساومتها تلك قد أعلنت أمرين أولهما: فراغ جعبتها، وضعف عزيمتها بعد تقوية شوكة المسلمين، وثانيهما: أن المال والجاه عندها أنفس من العقيدة وأغلي ثمنـًا إذ ما تصورت حين عرضت بضاعتها، أنها ستئوب بها وقد ردها النبي *صلي الله عليه وسلم* أما مُحَمّد فقد وجد نفسه في وادٍ والقوم في وادٍ آخر، فأبي أن يساوم أو يساوم، وعاد إلي بيته حزينًا آسفًا.
تجمع بني هاشم وبني المطلب والمقاطعة العامة
الأفضل عند المواجهة ألا تكتفي بالرد علي خصمك، بل تضع نفسك مكانه، لتتنبأ بما ينوي أن يصنعه، فتبادره قبل أن يسبقك. هكذا تعلم أبو طالب من بيئته الصحراوية المتقلبة، والرجل العاقل الحريص علي ابن أخيه استقرأ الأحداث، فوجد قريشًا قد وصلت مع مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* إلي طريق مسدود، ولم يعد أمامها إلا قتل مُحَمّد، رضي أبو طالب بعد ذلك أم سخط، ثم إن أحداثًا متعاقبة صارت تؤكد لديه حدسه، فالمشركون هددوه بالمنازلة، وساوموه علي قتل ابن أخيه مقابل إعطائهم ابن الوليد له يربيه ويتخذه عوضًا، ثم محاولة أبي جهل رضخ رأس النبي *صلي الله عليه وسلم* بحجر ألقاه، ومحاولة عدو الله عقبة بن أبي معيط خنقه بردائه، وخروج عمر *قبل إسلامه* بسيفه عازمًا ذبح مُحَمّد* كل هذه الأحداث تؤكد لأبي طالب أن المشركين لن يأبهوا لجواره وذمته. وهنا لم يبق لأبي طالب إلا المبادرة والحزم، فجمع أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف، ودعاهم إلي منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابه إلي ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربي، وأدخلوا رسول الله *صلي الله عليه وسلم* في شعبهم، منعًا له ممن أراد قتله، فأسقط في يدي قريش، ولم يبق أمامها إلا إعلان المقاطعة العامة.
المقاطعة العامة الأحداث في مكة صارت متلاحقة، حمزة يدخل الإسلام، ولا تكاد أيام ثلاثة تمر حتى يتبعه عمر، والمسلمون يخرجون في طرقات مكة، يعلنون عن إيمانهم، وقريش تتنازل عن بعض كبريائها وتذهب إلي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*؛ لتساومه، لكن النبي *صلي الله عليه وسلم* يردها خائبة، ثم يعلن أبو طالب جمعه لبني هاشم وبني عبد المطلب علي نصرة مُحَمّد، والرسول يدخل في شعبهم احتماء من كيد قريش. إن سرعة الأحداث وتعاقبها في فترة وجيزة، لا تتجاوز الأسابيع الأربعة تنبئ بحدث جلل، لم يلبث حتى أسفرت عن وجهه الأيام، فقد هدي قريشًا شيطانها إلي كتابة صحيفة علقت بالكعبة؛ لمقاطعة بني هاشم وبني المطلب مقاطعة تامة تفضي إلي هلاكهم، وصبر رسول الله *صلي الله عليه وسلم* والمسلمون، ومعهم بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم في شعب أبي طالب، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشًا علي رحمه، وذلك من ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، ولمدة ثلاث سنين متصلة، حتى منّ الله تعالي عليهم، ونقضت الصحيفة الظالمة، القاطعة للرحم.
كتابة الصحيفة ونقضها
اجتمع سادة قريش في خيف بني كنانة من وادي المحصب، فتحالفوا علي بني هاشم وبني عبد المطلب، ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموه للقتل. ويقال إن منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم هو الذي كتبها، ويقال النضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، وقد دعا رسول الله *صلي الله عليه وسلم* علي كاتبها، فشلت يده.
لا تعدم الدنيا رجالاً ذوي خلق، يحكمون عقولهم، وإن زاغت أبصارهم عن رؤية الحق في دين الله! من هؤلاء الرجال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، يشبه في نعته دعاة الإنسانية، المنتشرين عبر العصور، ومن كافة الأديان، أبت نفس الرجل أن يري أناسًا يتضورون جوعًا، وأسباب الطعام تلقي في طرقات مكة لقلة آكليها، فكان يمد بني هاشم بالطعام ليلاً دون أن يفطن إليه أحد، لكن المقاطعة طالت حتى مر عليها ثلاث سنوات، ففيم الوقوف والانتظار؟. احتال هشام علي صحيفة قريش بحكمة ودهاء، فذهب أولاً إلي زهير بن أبي أمية المخزومي *وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب* فأثار حميته: أرضيت أن تطعم الطعام، وتشرب الشراب وأخوالك بحيث تعلم؟، فاحمر وجه زهير وقال له: ويحك فما أصنع وأنا رجل واحد؟، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها! قال: قد وجدت رجلاً، قال: فمن هو؟، قال: أنا، فأجابه زهير: ابغنا رجلاً ثالثًا. وما زال هشام يعمل بحيلته حتى جمع مع زهير ثلاثة رجال غيره: المطعم بن عدي وأبا البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، فصاروا جميعًا خمسة، وفي الصباح غدا زهير إلي الكعبة، فطاف سبعًا، ثم أقبل علي الناس قائلاً: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكي، لا يباع ولا يبتاع منهم؟، والله، لا أقعد حتي تشق هذه الصحيفة القاطعة للرحم الظالمة، فقال أبو جهل غاضبًا: كذبت! والله لا تشق؛ فثار زمعة علي أبي جهل ثم أيده أبو البخترى، فالمطعم، فهشام بن عمرو، وهنا بهت أبو جهل ثم قال بمكر: هذا أمر قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. وكان أبو طالب جالسًا في ناحية من المسجد، فأخبرهم بقول رسول الله *صلي الله عليه وسلم* أن الأرضة قد أكلت صحيفتهم حتى لم يبق فيها إلا "باسمك اللهم"، وتحداهم أبو طالب قائلاً: فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، فأجابوه لذلك، وقام المطعم ليمزق الصحيفة، فوجدها كما قال أبو طالب، فنقضت وعاد بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلي مخالطة قريش، التي لم تهزها هذه الآية العجيبة قيد شعرة عن كفرها وعنادها.
آخر وفد قريش إلي أبي طالب
أحداث جسيمة مرت بأبي طالب فأثرت فيه، وقد جاوزت سنه الثمانين، وكان آخر هذه الأحداث المقاطعة القاسية، والتي هتفت بالمرض، فألح علي الشيخ الكبير يلاحقه، ورأت قريش أن أبا طالب سائر إلي منيته علي عجل وخشيت أن تفتك بمُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* بعد موته، فتعيرها العرب بجبن صنيعها، إذ تركته حين أحاطه عمه، ثم انتهشته حين ولي عنه، فأجمعت رأيها أن تذهب إليه فتعيد مساومته، حتى تصل مع مُحَمّد إلي حل وسط. وبجوار فراش أبي طالب حكمت قريش سيدها الذي حاصرته حتى قريب وأنهكت عافيته* حكمته بينها وبين مُحَمّد، فاستدعي أبو طالب ابن أخيه، ليري رأيه في قول قريش، فسمع منهم النبي، ثم أجابهم قائلاً: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم؟. فتعجبوا من قوله وتحيروا، حتى أجابه أبو جهل قائلاً: ما هي؟، وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها!، فقال لهم النبي: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه؛ فصفق القوم بأيديهم، ثم قال: أتريد يا مُحَمّد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟، إن أمرك لعجب!. ومضوا إلي ديارهم، وقد علموا *من جديد* أنه لا سبيل إلي المساومة مع هذا النبي الثابت علي مبادئه.
عام الحزن
تعاقب المسرات والأحزان، وتتابع اليسر والعسر، سنة من سنن الحياة، والعام العاشر للنبوة وقد شهد فجره سعادة المسلمين ونبيهم (صلي الله عليه وسلم) بخروجهم من الشعب، ونقض صحيفة البغي التي خطتها قريش، ولم يلبث {هذا العام} أن دارت أيامه وتوالت، فأظهرت من الحوادث ما آلم النبي (صلي الله عليه وسلم) والمسلمين جميعًا. أما أول هذه الحوادث فكان وفاة أبي طالب عم النبي (صلي الله عليه وسلم) ودرعه الذي يتقي به كيد قريش، وأما ثانيها: فكان وفاة السيدة خديجة {رضي الله عنها}، زوج رسول الله، وشريكة كفاحه، وراعية بيت النبوة. وكما كانت هاتان الحادثتان مصيبة رزء بها مُحَمّد (صلي الله عليه وسلم) ، فقد كانتا أيضًا باب شر علي من آمن معه؛ تجرأت قريش علي المسلمين، حتى التجأ أبو بكر إلي الهجرة من مكة، وما رده إلا ابن الدغنة، إذ أدخله في جواره، ونالت قريش من النبي (صلي الله عليه وسلم) ما لم تنله في حياة أبي طالب، وبلغ فجورها أن يعترضه سفيه من سفهائها، فينثر التراب علي رأسه، ويقول الكريم لابنته {وهي تغسله عنه وتبكي}: لا تبكي يا بنية، فإن الله مانعٌ أباك. ولتتابع هذه الأحزان سمي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) هذا العام بعام الحزن، وقد شهد شهر شوال من هذا العام زواج النبي بالسيدة سودة بنت زمعة، رضي الله عنها وأرضاها، ولعل هذا الزواج كان نسمة باردة طيبة في قيظ العام العاشر للبعثة.
وفاة أبي طالب: في رجب من السنة العاشرة للنبوة، أفل نجم أبي طالب عم النبي، ذلك الرجل الذي كان حصنًا لمُحَمّد (صلي الله عليه وسلم) ودينه الجديد، أبو طالب الذي ربي مُحَمّدا طفلاً في بيته، وأحاطه وذاد عنه وقد أصبح نبيًا يهتدي به، أبو طالب الذي كانت تهابه قريش وتحترم جواره، ويقدره المسلمون لمنزلته ودوره الذي يؤديه لهم، وأبو طالب الذي سارعت إليه قريش علي فراش موته ترجو أن يبقي علي دين آبائه، وطمع رسول الله (صلي الله عليه وسلم) طيلة حياته أن يهتدي لدين الله كانت كلماته التي سمعتها آذان قريش تتردد في مكة: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدًا. وكانت كلماته التي نصح بها ابنه عليًا: أما إنه لم يدعك إلا إلي خير فالزمه، ثم كانت آخر كلماته وقريش والنبي يحوطانه علي فراش موته، ويبادرانه، "علي ملة عبد المطلب". وبموت هذا الرجل العظيم انقطع رجاء المسلمين في إيمانه، وانقطعت أهم قنوات الصلة بين مُحَمّد (صلي الله عليه وسلم) وقومه، وانقطع السياج الذي كان يحوط به أب