الفصل الخامس
زواجه (صلى الله عليه وسلّم) وزوجاته
هذه وقفة من الوقفات نواصل فيها الحديث عن بعض خصائص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، تلك الخصائص التي ميزه الله بها على غيره من البشر ، مما يظهر علو قدره ، وارتفاع مكانته .
فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم ، أنه أبيح له الزواج بأكثر من أربع ، وذلك أنه معصوم من الجور الذي قد يقع فيه غيره في جانب النساء ، إضافة لما في زواجه بأكثر من أربع من مصالح عامة ، والتي منها : نشر الدعوة الإسلامية ، ونقل سيرته الخاصة عن طريق زوجاته ، والارتباط بعدد من القبائل ورجالها بالمصاهرة مما يعطي الدعوة قوة ومنعة .
وقد بلغت زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللاتي دخل بهنّ إحدى عشرة امرأة ، كما ذكر ابن حجر في "فتح الباري" وابن القيم في "زاد المعاد" .
فكانت أولاهنّ خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية رضي الله عنها ، وقد كانت له سنداً في بداية تبليغه رسالة ربه . وقد ثبت في الصحيحين أنها خير نساء زمانها ، وأنه صلى الله عليه وسلم قال فيها : (ما أبدلني الله خيراً منها).
ثم تزوج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة القرشية ، وهي التي وهبت يومها لعائشة .
ثم تزوج بعدها أم عبدالله عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وكانت من أحب زوجاته إليه ، ولم يتزوج بكراً سواها .
ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب.
ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية من بني هلال بن عامر وتوفيت عنده بعد ضمه لها بشهرين .
ثم تزوج أم سلمة هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية ، واسم أبي أمية حذيفة بن المغيرة ، وهي آخر نسائه موتاً وقيل آخرهن موتا صفية .
ثم تزوج زينب بنت جحش من بني أسد بن خزيمة *وهي ابنة عمته أميمة * وهي التي نزل القرآن بحقها في قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } (الأحزاب:37) ، وكانت أولا عند زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبناه ، فلما طلقها زيد زوجه الله تعالى إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوهم ، وكانت تفاخر بذلك الزواج فتقول : " زوجني الله من رسوله وزوجكن آباؤكن وأقاربكن" ، وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وتزوج صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية وكانت من سبايا بني المصطلق ، فجاءته تستعين به على كتابتها فأدى عنها كتابتها وتزوجها .
ثم تزوج أم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب القرشية الأموية.
وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون ابن عمران أخي موسى ، فهي ابنة نبي وزوجة نبي وكانت من أجمل النساء .
ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وهي آخر من تزوج بهن .
وقيل : من أزواجه ريحانة بنت زيد النضرية وقيل القرظية سبيت يوم بني قريظة فكانت من نصيب رسول الله فأعتقها وتزوجها ثم طلقها تطليقة ثم راجعها.
ومما خصه الله به ، أن نساءه اللاتي دخل بهن ، يحرم على غيره الزواج منهن ، قال تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً } (الأحزاب:53) ، وقد أجمع العلماء قاطبة على حرمة الزواج ممن توفي عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ، لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة ، ولأنهن أمهات المؤمنين .
ونقل ابن القيم في زاد المعاد عدم الخلاف في أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع زوجات : عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وصفية وأم حبيبة وميمونة وسودة وجويرية .
وقد كان يَقْسم بين ثمانٍ منهن ، حيث إن سودة وهبت يومها لعائشة ، رضي الله عنهن جميعاً .
فصلى الله وسلم على نبينا محمد ، صاحب الخصال الحميدة ، والفضائل المجيدة ، والخصائص الفريدة ، ورضي الله عن زوجاته أمهات المؤمنين ، اللاتي أكرمهن الله بالاقتران بخير الناس أجمعين ، وجمعنا الله بهم في دار النعيم
الرسول *صلي الله عليه وسلم* في الطائف
لم يكد عام الحزن *العام العاشر للبعثة* يشارف علي نهايته حتى أظهرت صفحاته حادثة أليمة أخري كانت تنتظر النبي *صلي الله عليه وسلم*، فدور مكة التي أوصدت أبوابها دون دعوته، وسفهاؤها الذين صاروا يتجرؤون عليه بعد وفاة عمه أبي طالب، وكبراؤها الذين كاشفوه العداوة والبغضاء، وتطاولوا علي ضعاف المسلمين* كل ذلك قد دفع الرسول أن يلتمس النصرة خارج مكة، وإلي الطائف كان المسير، حيث قطع النبي *صلي الله عليه وسلم* ستين ميلا متوجها إليها علي قدميه، معه مولاه زيد بن حارثة في شوال من العام العاشر للنبوة، فمكث فيها عشرة أيام يدعو أهلها، فردوا عليه دعوته، وأساءوا وفادته، ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل تطاولوا عليه، وآذوه في رحلة عودته. وعاد النبي *صلي الله عليه وسلم* إلي مكة، وبلغ مشارفها فسأله زيد معجبًا: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟، فأجابه الرسول *صلي الله عليه وسلم* مطمئنًا: يا زيد، إن الله جاعل لما تري فرجًا ومخرجًا. إن مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم* الذي أنهكت جسده أحداث هذه الرحلة العصيبة، ظل قلبه وعقله يحلقان بعيدًا يلتمسان الهدي من السماء، ويستشرفان المستقبل لهذا الدين الجديد، لا يفت في عضده شيء، ولا يوهن من عزيمته أحد، ولا يحني من قامته إيذاء أو حادث. كيف؟!، وربه حسبه ونعم الوكيل. والتمس مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* الجوار في مكة، حتى أجيب إلي ذلك، فدخل في جوار المطعم بن عدي.
دعوة أهل الطائف: بين صفحات الكتب يحتفظ التاريخ بصورة عجيبة، بلغ العجب فيها منتهاه: دار من دور الطائف ضمت ثلاثة من سادتها، قد اتكأوا علي أرائكهم، ومدوا أقدامهم الغليظة، وأخذوا يستمعون في كسل شديد، وينظرون بأنصاف عيون، قد ملأ نفوسهم الكبر، وأخذ البطر بأطراف قلوبهم، جلس هؤلاء النفر يستمعون إلي نبي عظيم، خاتم رسل الله للعالمين، بعد رحلة قوامها ستون ميلاً، سارها علي قدميه الشريفتين، أما هؤلاء النفر الثلاثة فكانوا: عبد ياليل، ومسعودًا، وحبيبًا، أبناء عمر بن عمير الثقفي، وأما النبي العظيم فكان مُحَمّدا*صلي الله عليه وسلم* ولا شك! سمعوا منه الدعوة إلي الإسلام ونصرته، فتمطي أحدهم وقال: امرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وتساءل الثاني مستهزئًا: أما وجد الله أحدًا غيرك؟! وتصنع الطرف الثالث قائلاً: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب علي الله ما ينبغي أن أكلمك. هكذا كانت إجابتهم للرسول الكريم! ألم تمتلئ بطونهم بالطعام؟، ألم تكس أجسادهم بالحرير؟، ألم تألف جنوبهم لين المضاجع؟، ففيم البحث والعناء عن الآخرة وأهلها؟!. إن النعم التي منحها إياهم ربهم سبحانه وتعالي قد أحالوها حجابًا يستر عنهم يد المنعم وقدرته، قام رسول الله *صلي الله عليه وسلم* عنهم قائلاً: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، ثم جاب دروب الطائف ودورها يدعو أهلها، ولا يدع شريفًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فما كان يصله منهم إلا قولهم: اخرج من بلادنا. وجاءت ساعة الخروج، فأغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به، وكان الإيذاء في رحلة العودة.
الإيذاء ورحلة العودة: سألت السيدة عائشة *رضي الله عنها* رسول الله ذات مرة: هل أتي عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟، قال: لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة يقصد عند خروجه من الطائف. إن مُحَمّدا صلي الله عليه وسلم* الذي لم يسألهم شيئًا لنفسه أو دنياه، بل سألهم أن يؤمنوا بالله الواحد القهار، ليكون لهم الفلاح في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة، لم يلق منهم إلا أشد العداء، وأسوأ التنكيل. تبعه في خروجه سفهاؤهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، ووقفوا له صفين، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان إذا تعثر قصد إلي الأرض، فيأخذونه بذراعيه، ويقيمونه، فإذا مشي رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى شج في رأسه شجاجًا. ولجأ النبي الكريم *صلي الله عليه وسلم* إلي بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، علي ثلاثة أميال من الطائف، فرجع عنه السفهاء، ورق لحاله ابنا ربيعة علي كفرهما* فأرسلا غلامًا لهما يدعي عداسًا بقطف من عنب، وكان عداس نصرانيًا، فلما قدمه إلي النبي *صلي الله عليه وسلم* مد يده قائلاً: بسم الله، ثم أكل، ودار بينهما حديث قصير لم ينته إلا وعداس قد أكب علي رأس النبي *صلي الله عليه وسلم* ويديه ورجليه يقبلها وقد أسلم. ومضي النبي حزينًا حتى وصل إلي*قرن المنازل* فبعث الله إليه جبريل *عليه السلام* ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين *وهما الجبلان اللذان يحيطان بمكة* علي أهلها فأجابه النبي *صلي الله عليه وسلم* قائلا: بل أرجو أن يخرج الله *عز وجل* من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. وواصل مسيره حتى بلغ وادي نخلة، فبعث الله إليه نفرًا من الجن استمعوا إليه وهو يتلو القرآن، فآمنوا، وولوا إلي قومهم منذرين. حقًا إن أفئدة الطائف ودورها قد أوصدت دون مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*، لكن رحلته تلك قد آمن بسببها عداس الزكي، وأقوام من الجن، أما مكة التي طردته، فقد أيده الله بملك الجبال ولكنه أبي الانتقام، وآثر العفو والصفح. إن رحلة العودة وما حدث بها من تأييد وعجائب، قد أذهبت الحزن عن قلب المصطفي، وجعلته يسمو حتى يري مكة والطائف من علٍ، فلا يشقيه ما يلاقيه فيهما من الصغار.
واصل الرسول *صلي الله عليه وسلم* رحلة عودته حتى شارف مكة، وهناك مكث بحراء عشر سنوات طويلة، مرت به منذ أتاه جبريل لأول مرة بهذا الغار، وها هي الأيام تمر، ويعود مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* إلي نفس البقعة المباركة، لكن دعوته اليوم قد تسربت في دور مكة المعاندة، وكلمات ورقة صارت حقيقة يومًا بعد يوم، والمشاعر التي تزاحم قلبه الزكي الآن لا يستطيع أن يهبط إلي خديجة بمكة مسارعًا ليكاشفها بها؛ لأن خديجة قد ماتت، ومكة قد أخرجته منها. كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟، هكذا كانت كلمات زيد بن حارثة التي طرقت سمع الرسول *صلي الله عليه وسلم*، لكن النبي *صلي الله عليه وسلم* الواثق من ربه، المتوكل عليه، أجابه بيقين: يا زيد، إن الله جاعل لما تري فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. وبعث النبي *صلي الله عليه وسلم* رجلاً من خزاعة إلي الأخنس بن شريق ليجيره فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلي سهيل بن عمرو فأجابه: إن بني عامر لا تجير علي بني كعب! ويبدو أن كلا الرجلين قد أدرك أن الوقوف في وجه قريش أمر لا تحمد عواقبه، فأرسل مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* إلي المطعم بن عدي فقال: نعم، ثم تسلح وألبس بنيه وقومه السلاح، وجعلهم علي أركان البيت، ثم اعتلي راحلته، وقد أرسل إلي النبي *صلي الله عليه وسلم* بالدخول إلي المسجد، وقال مناد: يا معشر قريش، إني قد أجرت مُحَمّدا فلا يهجه أحد منكم، أما مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* فقد استلم الركن *أي قبله*، ثم صلي ركعتين، وانصرف إلي بيته في حراسة المطعم وولده. ويبدو أن أبا جهل لم يجد ما يحفظ به ماء وجهه، فذهب إلي المطعم وسأله: أمجير أنت أم متابع؟ أي: مسلم، فقال المطعم: بل مجير، فأجابه أبو جهل: قد أجرنا من أجرت.
عرض الإسلام علي القبائل
مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* رسول الله ليس إلي قريش خاصة، بل إلي العالمين كافة؛ ولهذا السبب فإن قدمي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* دأبتا علي السعي بين قبائل العرب؛ ليدعوهم إلي الإسلام، منتهزًا فرصة موسم الحج، أما في هذا العام *العام العاشر للنبوة* فقد أصبح للنبي من دعوتهم هدف جديد، تمثل هذا الهدف في طلب صريح للحماية من القبائل العربية، حتى يتمكن من تبليغ دعوة الله *عز وجل*. ومن هذه القبائل التي دعاها *صلي الله عليه وسلم* في هذا العام: بنو كلب، وبنو عامر، وبنو شيبان بن ثعلبة، وبنو حنيفة الذين أتاهم في منازلهم فدعاهم، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردًا منهم.
دعوة بني كلب: أتي النبي *صلي الله عليه وسلم* إلي بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلي الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم. فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
دعوة بني شيبان بن ثعلبة: وقد ذهب إليهم النبي برفقة صديقه أبي بكر، فتحدثا إلي أربعة من أشرافهم حديثًا بدأه أبو بكر، وتحسس فيه قوتهم ومنعتهم، ثم استكمله النبي *صلي الله عليه وسلم* عارضًا دعوته وطلبه للمنعة، فأجابه مغروق بن عامر بقول حسن، لكن ثانيهم: هانئ بن قبيصة رأي عدم العجلة والتروي والنظر في الأمر، وأجابه ثالثهم المثني بن حارثة إلي قبوله النصرة مما يلي مياه العرب لا مما يلي أنهار كسري؛ لأنهم محالفوه، فقال لهم رسول الله *صلي الله عليه وسلم*: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه بجميع جوانبه.
دعوة بني عامر بن صعصعة: أتاهم النبي *صلي الله عليه وسلم* فدعاهم إلي الله، وعرض عليهم نفسه، لكن يبدو أنهم كانوا مشغولين بدنياهم، غير عابئين بآخرتهم، فإن أحدهم ويدعي بيحرة بن فراس حدثهم قائلاً: والله، لو أني أخذت هذا الفتي من قريش لأكلت به العرب، ثم قال للنبي: أرأيت إن نحن بايعناك علي أمرك، ثم أظهرك الله علي من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟، فأجابه الرسول*صلي الله عليه وسلم*: الأمر إلي الله يضعه حيث يشاء، فلم يعجب هذا الرد طالب الدنيا فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، وانصرفوا عنه، وما علموا أي خير فقدوه.
عرض الإسلام علي الأفراد خارج مكة
الناس في ميزان الرجال ليسوا سواء، وإن كان إبراهيم *عليه السلام* أمةً كما وصفه ربه، فإن دونه رجال قد يوزن الواحد منهم بقبيلةً أو أكثر، وإن رسول الله *صلي الله عليه وسلم* الذي كان يقصد القبائل في موسم الحجيج، لم يكن يفوته أن يأتي رجالاً بأعينهم، أو أن يجلس إليهم إن هم بادروه، ومن هؤلاء الرجال الذين لبوا نداء الحق حين سمعوه في زيارتهم لمكة: سويد بن صامت، وإياس بن معاذ، وأبو ذر الغفاري، وطفيل بن عمرو الدوسي، وضماد الأزدي.
سويد بن صامت العاقل الذي يحسن أن يسمع ما أيسر دعوته! هكذا كان سويد الذي سماه قومه الكامل؛ لجلده وشعره وشرفه ونسبه، التقي بمُحَمّد صلي الله عليه وسلم* في أوائل العام الحادي عشر للبعثة فدعاه، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي، فسأله النبي صلي الله عليه وسلم*: وما الذي معك؟، فقال سويد: حكمة لقمان، ثم عرضها علي النبي *صلي الله عليه وسلم* فقال له: إن هذا الكلام حسن! والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالي علي هو هدي ونور، ثم تلا عليه القرآن، فقال سويد: إن هذا لقول حسن، ثم أسلم، هكذا بمنتهي السهولة واليسر. فحوار كحوار مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*، وعقل لم توصد أبوابه، أو تسد نوافذه كعقل سويد، لا يقف أمامهما شيء، أما سويد فكأن الله قد أدركه في فرصته الأخيرة، فإنه ما إن عاد إلي المدينة *بلدته* حتى اختطفه الموت قتلاً في يوم بعاث.
إياس بن معاذ ما أشقي أولئك البشر الذين يدبون في الحياة الواسعة، ثم هم لا يرون منها إلا ما وطئته أقدامهم!. إن وفدًا من أوس يثرب قدم علي مكة يسأل قريشًا حلفًا يستعين به علي قتال بني العم، لم يدع لنفسه فرصة يستمع فيها لنبي الله وهو يدعوه لما هو خير وأبقي. أما إياس بن معاذ، وقد كان غلامًا حدثًا في صحبة قومه، فإنه لم يشغله الباطل الذي بين يديه عن الحق الذي تراءى أمام عينيه، وصاح بقومه عند سماعه حديث مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له!، لكن أين لصوت الحق أن يجد آذانا تسمعه وسط صخب حديث الحرب؟!، إن جواب الأوس لإياس كان حفنة من التراب ألقيت في وجهه علي يد أحدهم *أبي الحيسر بن رافع* وهو يصيح بالنبي: دعنا عنك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. وأين ما جاءوا له مما جاءهم به ؟!. وانصرف الوفد قافلاً دون أن يحوز حلف قريش، أما إياس فإنه لم يلبث أن هلك، وكان يهلل، ويكبر، ويحمد، ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلمًا.
ضماد الأزدي ما أعجب ما لاقاه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* من قومه! من هذا العجب موقفه حين كان سائرًا في طريقه، فإذا هو برجل يمني يعرض عليه بطيبة قلب أن يرقيه حتى يشفي من جنونه. أما هذا اليمني، فقد كان ضمادًا الأزدي، وكان يرقي من الريح ببلده، وغدا إلي مكة فسمع من أهلها أن مُحَمّدا مجنون، فرأي ببساطة أن يرقيه ليشفي، وما نفي مُحَمّد عن نفسه الجنون، وما نهي الرجل عن صنيعه، إنما ابتدره قائلاً: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمّدا عبده ورسوله، أما بعد. وهنا لم يتمالك الأزدي نفسه حتى قال له: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه الرسول *صلي الله عليه وسلم* ثلاثًا، فقال له ببساطة الحق وروعته: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك تلك، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك علي الإسلام، فبايعه. حقًا! إن القلب الصادق، والعقل الفطن، لا يحتاجان لكثير جدال حتى يتبين لهما الحق.
بشري من يثرب في سكون الليل وظلمته، وبينما أوي أهل مكة وحجيج العام الحادي عشر للنبوة إلي فرشهم نائمين، إذ كان هناك فريقان لم يزر النوم عيونهم اليقظة. أما الفريق الأول فستة من شباب الخزرج، ممن ذكرهم موسم الحج بنبوءة جيرانهم وحلفائهم من يهود يثرب، بأن نبيًا من الأنبياء مبعوثًا في هذا الزمان سيخرج فتتبعه يهود ويقتلون معه العرب قتل عاد وإرم، ثم أقض مضجعهم أيضًا ما تركوه بيثرب من حرب أهلية بينهم وبين بني عمهم من الأوس، أكلت الأخضر واليابس، وأنهكت قواهم، وذهبت بها؛ فأخذوا يتحدثون فيما بينهم حديثــًا سري في هدوء الليل، وتسلل إلي آذان الفريق الثاني: مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* النبي الشغوف بدعوته وصاحبيه أبي بكر، وعلي، فقصدوا إلي شباب الخزرج وسألهم النبي: من أنتم؟، قالوا: نفر من الخزرج، فقال: من موالي يهود؟ *أي من حلفائهم*، فقالوا: نعم، فعرض عليهم *صلي الله عليه وسلم* الإسلام ودعاهم إلي الله وحده، وتلا عليهم القرآن فتفجرت ينابيع الحق من قلوبهم النقية، وأنفسهم الظمأي إلي حلاوته، وأسرعوا يقولون لبعضهم البعض: تعلمون والله ياقوم إنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. وأسلموا علي يديه *صلي الله عليه وسلم* ثم قالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولاقوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسي أن يجمعهم الله بك. ورجع هؤلاء المسلمون الجدد إلي بلدهم حاملين رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دورها إلا وفيها ذكر مُحَمّد. وهكذا شاء من جعل سجن يوسف المظلم طريقًا لظهور الحق وعلوِّ الشأن، أن تكون هذه الليلة التي رآها المسلمون مظلمة؛ لضياع قوتهم، وقلة حيلتهم، وانصراف القبائل عن دعوته* أن تكون طريقًا أيضًا لظهور الحق وعلوِّ الشأن، وسبحان من قال: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا).