الفصل الثامن
الدخول في المدينة
إن عافية الله الواسعة، والتي سألها مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* ربه والدماء تغطي عقبيه، وهو مطرود ملاحق من سفهاء الطائف تتبدى الآن إحدى آياتها، فطرقات المدينة وبيوتها تهتز بأصوات التكبير والتحميد، وبنات الأنصار ينشدن الأناشيد فرحًا بقدوم النبي، ونبي الله يتجاذب خطام راحلته أهل الأنصار وكل يقول له: هلم إلي العدد والعدة، والسلاح والمنعة، وهو يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة. أما دابة النبي *صلي الله عليه وسلم* فكان من توفيق الله لها أن بركت في ديار بني النجار *أخوال رسول الله* من كان يحب أن ينزل عليهم، ونزل عنها النبي *صلي الله عليه وسلم* وأقام في بيت أبي أيوب الأنصاري، وأخذ أسعد بن زرارة بزمام راحلته فكانت عنده، وهكذا صار لدعوة الله دار تعيش بها، وصار لقيادتها حصن تأوي إليه، وبقي للإسلام أن يخوض معركته الكبرى بتأسيس مجتمع جديد! وقد دعا نبي الله *صلي الله عليه وسلم* للمدينة حين أخبرته زوجه عائشة بمرض أبي بكر وبلال فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد حبًا، وصححها، وبارك في صاعها ومدها وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجحفة.
هجرة أهله وأهل أبي بكر بعد أيام من وصوله إلي المدينة وصلت إليه زوجته سودة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر.
هجرة علي *رضي الله عنه* إن رسول الله *صلي الله عليه وسلم* الذي أحاط به قومه ليقتلوه ليلة الهجرة أوصي عليًا حين جعله مكانه في فراشه أن يرد الودائع التي عنده لأهلها من قريش، وما إن قام علي بن أبي طالب بمهمته تلك في أيام ثلاثة حتى هاجر ماشيًا علي قدميه؛ ليلحق بنبيه بقباء، وينزل عند كلثوم بن الهدم.
الدفاع عن المدينة
الماء الساكن خلف السد لا تدرك قيمته حتى يتدفق تياره، والحجرة المظلمة لا يري جمالها حتى تضاء أركانها، وكذلك المدينة عند الهجرة كان بها كثير من الخير الساكن، وبعض الأركان المظلمة، وتغير ذلك كله كان ينتظر وصول مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* والذي ما إن وصل حتى بدأ في تأسيس مجتمع جديد قبل أن ينزل عن راحلته، لكن أني للكفر أن يهدأ، وهو يبصر الإيمان ساعده يشتد، وجنوده تتجمع. لم تستطع قريش أن تكظم حقدها فأرسلت تهدد المسلمين وتتوعدهم، وهنا أنزل الله الإذن بالقتال أولاً، ثم فرض القتال بعده، وكما كانت قلوب المسلمين تهفو إلي مكة حوَّل الله صدورهم في الصلاة إلي الكعبة بنزول الوحي بتحويل القبلة. وما إن مر شهر علي تحويل القبلة، حتى ساق الله المسلمين دون تهيؤ منهم إلى غزوة بدر الكبرى فكان نصرًا كبيرًا، ونجاحًا مؤزرًا، تلته أعياد أقيمت، وفروض فرضت. واستمر الجهاد حتى كانت غزوة أحد في العام الثالث للهجرة، ولم يكد المسلمون يضمدون جراحاتهم، حتى استأنفوا جهادهم دفاعًا عن دولتهم الفتية، وأدركت قريش أنه لا قبل للمشركين بمحاربة المسلمين، إلا إذا اتحدت فصائلهم، وتجمعت أشتاتهم، فألفوا الأحزاب، وأحاطوا بالمدينة ينوون استئصال خضرائها، وإبادة ساكنيها، فكانت غزوة الأحزاب، التي نصر الله فيها عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وقد كشفت هذه الغزوة عن لؤم اليهود وغدرهم؛ فتلاها الرسول *صلي الله عليه وسلم* بغزوة بني قريظة، وظل النشاط العسكري متقدًا بعدها حتى كانت وقعة الحديبية، والحق أن مكائد اليهود، والدور الذي لعبه المنافقون جعل مهمة الدفاع عن المدينة، لاتقتصر علي حماية حدودها فحسب، بل تشتمل أيضًا محاربة أعدائها الكامنين داخل الأسوار.
المدينة عند الهجرة
يظن البعض أن رسول الله *صلي الله عليه وسلم* القادم من مكة المشتعلة حربًا عليه وعلي دعوته، قد دخل المدينة الهادئة الوادعة، ليتمتع فيها بالاستقرار والراحة، والحق أن هذا ظن قد فاته الصواب!. إن دخول الإسلام إلي المدينة قد بدل واقعها من حال إلي حال، وإن دخول مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* إلي المدينة كان في قمة هذا التحول! أهل المدينة كانوا أوسًا وخزرجًا، فصاروا مسلمين ومشركين، والروابط كانت للعشيرة، فأصبحت للعقيدة، ومهاجرو مكة أضحوا مواطني المدينة، وحرب بعاث أمست رمادًا، والحكم صار لله، ودار الحكم موقعها المسجد، ومُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* يحكم بأمر ربه، أما تاج ابن أبي فقد طواه النسيان، ويثرب التي كانت تأمن من حولها، الآن تواجه الخطر من قريش والعربان، وأكثر من ذلك كله تنظيم الديار حول المسجد، وتغيير الأعراف الاجتماعية، وزوال أخلاق الجاهلية، وإشراق أخلاق الإسلام، وتجديد أسواق المدينة وعلاقاتها الاقتصادية، كل ذلك التحول الذي بدأه إيمان ستة من أهل يثرب، وزاده انتشار الإسلام في بيوتها وقدوم المهاجرين إلي ديارها* شهد الرسول أقصاه حين دخل المدينة القلقة، وحين تعامل مع أهلها، مسلمين، ومشركين، ويهود فأقام مجتمـعًا قاوم محاولات تفتيته بقوة وعزم.
المسلمون بالمدينة : لم يكن مسلمو المدينة علي وجه واحد، بل كان منهم المهاجرون الذين خلفوا وراءهم أموالهم وديارهم وبعض أهليهم، طاعة لرسول الله، ونصرة لدين *الله عز وجل*، كما كان منهم الأنصار المقيمون بديارهم، واشتمل رهط الأنصار علي شعبتين؛ الأوس والخزرج، وقد تجلت عظمة الإسلام، وحكمة نبيه في تحويل هذه الخيوط المتعددة إلي نسيج واحد، تجمعهم المؤاخاة وتؤلف العقيدة بين قلوبهم.
المشركون بالمدينة :
"لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم"؟! هكذا انطلقت كلمات رسول الله *صلي الله عليه وسلم* تشق غبار حرب أعلنها مشركو المدينة علي مسلميها، وهكذا كانت خطته الحكيمة! فالمشركون يخيفون الناس من خطر قريش القادم، ويَدَّعون الحكمة في قتال المسلمين، ويجعلون من المسلمين عدوهم، أما رسول الله *صلي الله عليه وسلم*فهو يعلن في جمله الثلاث تلك المتعاقبة، أن الخطر في قتال الأهلين من المدينة، والغفلة والسفاهة في إعلان هذه الحرب، وأن العدو الأوحد لكلا الفريقين هو تجمع قريش بمكة!، وبكلماته تلك الحاسمة، استطاع أن ينهي حربًا كاد أن يستعر لهيبها!! وأن يقاوم محاولة لتفتيت المجتمع بالمدينة. والحق أن غالب مشركي المدينة لم يكونوا علي هذا القدر من الحقد والضغينة، فسوي عبد الله بن أبي الذي كاد أن يتوج ملكًا، لولا قدوم رسول الله *صلي الله عليه وسلم* إلي المدينة، وسوي من معه من الرؤساء الذين انهارت زعامتهم الجاهلية بظهور نور الإسلام، لم يكن هؤلاء المشركون يبطنون العداوة للإسلام، بل كانوا علي شك من دينهم، وتردد في تركه حتى انتقلوا إلي الإسلام أرسالاً.
اليهود في المدينة :
بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، تلك قبائل اليهود الثلاث التي كانت تقطن المدينة، وهم رغم أصولهم العبرانية إلا أنهم صبغوا بالصبغة العربية في الزي واللغة والحضارة؛ لطول ما أقاموا في بلاد الحجاز. وقد كانوا يرون أنهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية، لأنهم أهل كتاب ليسوا كوثنيي العرب، وكانوا يعلمون أن نبيًا قد أتي زمانه، واعتقدوا أنه من نسلهم، وتوعدوا أهل يثرب بقتالهم تحت إمرته. وامتاز اليهود بالمهارة في فنون التجارة، فكانوا يوردون الثياب والحبوب والخمر إلي المدينة، ويصدرون تمرها، كما كانوا يضاعفون ثرواتهم من التعامل بالربا، وقد سقط في أيديهم حين رأوا مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم*، لعلمهم بصدق نبوته، وخروجه عن بيتهم، وشعورهم بزوال مكانتهم، وضياع مصالحهم، باهتداء من حولهم من العرب، إلي دين الله القويم؛ ولذا كتموا عداوتهم حينًا، وأظهروها حينًا آخر، وأعماهم حقدهم حتي تحالفوا مع عباد الصنم ضد المسلمين المصدقين بموسى *عليه السلام* وكتابه، أما رسول الله *صلي الله عليه وسلم* فإنه لم يعاملهم إلا بما ظهر له، وبما علمه ربه، فعقد معهم معاهدة الند للند، علي أن لهم دينهم وله دينه، وقد كانت معاهدة تجلت فيها عظمة الإسلام ومبادؤه الخالدة، رغم محاولات اليهود الدائبة لتفتيت المجتمع المدني، ورغم كيدهم المستمر، ما ظهر منه وما بطن.
مكائد اليهود:
دخل مُحَمّد*صلي الله عليه وسلم* يثرب فوجد يهودها علي صنفين؛ بعضهم شكل تجمعًا كبيرًا مستقلاً، والبعض الآخر ظل أفرادًا داخل قبائلهم المتعددة، وعاهد *صلي الله عليه وسلم* أتباع أخيه موسى *عليه السلام* علي الصدق والنجدة والوفاء، حتى يكونوا معه في أمة يثرب. وحاول اليهود *الذين احترقت أفئدتهم حين أيقنوا بانتقال النبوة إلي ولد إسماعيل* حاولوا أن يفتتوا المجتمع المسلم وهم إن أخفوا ذلك إلي حين فإن بني قينقاع قد أظهروه بعد نصر المسلمين ببدر، فأجلاهم النبي عن المدينة، وظنت بنو النضير *بعد هزيمة المسلمين بأحد* أنها قاتلةٌ مُحَمّدا، وهمت بذلك، فألحقها المسلمون بأختها خارج أسوار المدينة الوادعة. ومرة أخري سعت يهود بالغدر حين ألبت الأحزاب لغزو المدينة، ثم أظهرت بنو قريظة الخيانة، حين ظنت أن المسلمين قد انتهي أمرهم، فحالفت قريشًا ومن معها، ولكن الله تعالي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فدفعت بنو قريظة ثمنًا فادحًا لخطيئتها الفادحة. ويبدو أن تطهير المدينة لم يعد كافيًا؛ إذ تجمعت رؤوس الفتنة والغدر بخيبر، تنسج بليل المكائد للمسلمين. فذهب إليهم النبي ليحاربهم وجهًا لوجه كما ألف، لا دسًّا وغيلة كما اعتاد الخائنون، ولم يعد إلا ونصر الله يخفق بجناحيه فوق جيشه الميمون. وبعد، فقد بقي اليهود في دين الله، ودولة المسلمين، أمة من الأمم، لها ما للمسلمين، وعليها ما عليهم، ما بقي أتباعها مسالمين وادعين، أما إن أظهروا الغدر والعداء، فجزاء الغادرين المعتدين في دين الله صارم قاطع، ليهود أو غيرها!.
تأسيس مجتمع جديد
ما أيسر أن نطوف بخيالنا في دروب مدينة فاضلة، نصف معالمها لمن حولنا حين نفيق! ثم ما أعظمها من مهمة حين ننهض؛ لنقيم بسواعدنا ما طمح إليه ذلك الخيال، إن تغيير المجتمعات إلي الأفضل يبقي أصعب مهمة واجهها الإنسان، ذلك أنه يبدأ من واقع اختلطت فيه آمال الناس وآلامهم، بأعرافهم وأخلاقهم، ثم بأوضاعهم ونظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعليه أن يتعامل مع ذلك كله؛ ليحوله إلي مثاله المنشود، وقد كانت تلك هي المهمة التي طفق رسول الله *صلي الله عليه وسلم* يعالجها منذ وطئت قدمه الشريفة أرض المدينة وحتى وفاته، وبها بدأ التقويم الإسلامي للتاريخ، إن بذور الإسلام التي بذرها مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* في صدور أصحابه بمكة قد نمت وأينعت، وصارت حياة كاملة تراها في أسواق المسلمين، وتجارتهم. وتلحظها في عمارة دورهم، وتخطيط شوارعهم، ولهوهم ومرحهم، كما تجدها في خلقهم وأعرافهم، ونظمهم، وحربهم وسلمهم. وتشاهدها دومًا إن حدثت الناس، أو تجولت في المكان!. ولقد بدأ رسول الله *صلي الله عليه وسلم* طريقه الشاق ذلك ببناء المسجد، ثم بترسيخ المؤاخاة، وبعقد ميثاق التحالف *دستور الدولة*، >بث الخلق، ورفع المعنويات، ثم بمعاهدته مع اليهود، حتى إذا استقر له الأمر، واطمأن إلي الأساس، شرع يقيم بجد وجلد بناء مجتمعه المنشود، والذي قاوم بذكاء محاولات تفتيته المختلفة.
بناء المسجد وتشريع الأذان
كان أول ما طالعته عيون المسلمين بالمدينة بعد نزول النبي *صلي الله عليه وسلم* علي أبي أيوب رؤيتها رسول الله يشمر عن ساعديه، وينقل اللبن والحجارة بانيًا مسجده النبوي منشدًا: اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وقد أقيم المسجد في المكان الذي بركت فيه ناقة المصطفي، بعد أن اشتراه من يتيمين يملكانه، فسوي أرضه، وأقام أعمدته من الحجارة، وحوائطه من اللبن والطين، وسقفه من جريد النخل، وعمده من الجذوع، وفرشت أرضه من الرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب. وبني النبي *صلي الله عليه وسلم* إلي جانبه حجرات أزواجه، من الحجر اللبن، وسقفها بالجريد والجذوع. وإلي جانب كونه مكانًا للعبادة والصلاة فقد ظل المسجد منتدى تلتقي فيه جموع المسلمين، وجامعة يتلقون فيها علومهم، وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية، بل ودارًا يأوي إليها فقراء المهاجرين الذين عدموا الدار و المال والأهل بمكة. وكان تشريع الأذان في بداية الهجرة ميلادًا لصيحة الحق التي لازال المسلمون يتمتعون بسماعها خمس مرات كل يوم وليلة.
تشريع الأذان: ما أعظم القلوب حين تتجلى فيتراءى الحق علي صفحتها! إن صحابيًا جليلاً هو عبد الله بن زيد رأي في منامه رجلاً عليه ثوبان أخضران، يحمل ناقوسًا في يده، فأراد أن يبتاعه منه حتى يدعو به إلي الصلاة، فسأله الرجل: أفلا أدلك علي خير من ذلك؟ ثم أرشده إلي كيفية الأذان. وأسرع ابن زيد إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم* يخبره الخبر فقال له: إنها لرؤيا حق إن شاء الله، ثم أمره أن يعلمها بلالاً صاحب الصوت النّدي؛ ليؤذن بها بين الناس. أما بلال فإنه ما إن بدأ أذانه حتى فوجئ المسلمون بعمر بن الخطاب يسرع في الطريق يجر رداءه قائلاً: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأي!!. وهكذا يتضح أن من شغل قلبه بالبحث عن الحق لا يلبث إلا أن يهديه الله إليه.
المؤاخاة وميثاق التحالف
أوس وخزرج فرقت بينهما حرب بعاث، وقرشيون ويثربيون فرقت بينهم عصبية الجاهلية وحميتها، كان هذا هو أول ما التفت إليه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم* بعد أن أتم بناء المسجد!.
وفي دار أنس بن مالك كان اجتماع تسعين رجلاً من المسلمين، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، يؤاخي رسول الله *صلي الله عليه وسلم* بين كل اثنين منهم علي المواساة، بل والميراث أيضًا، ولقد كانت لحظة رائعة في تاريخ الإنسانية، ذابت فيها روابط الجنس واللون والدم حين قويت وتآلفت روابط الدين والعقيدة. ثم عقد النبي *صلي الله عليه وسلم* ميثاق تحالف بين المهاجرين والأنصار تأكيدًا ودعمًا لمبدأ الأخوة والتراحم، اللازم لبناء المجتمع. ولم يكن من العجيب بعدئذ أن تلمح سعد بن الربيع يعرض علي عبد الرحمن بن عوف *رضي الله عنهما* أن يطلق له زوجته، ويعطيه نصف ماله، كما لم يكن من المستغرب أن نري الأنصار والمهاجرة قد علت أصواتهم عند النبي، فالأنصار يقولون: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، فيرد عليهم النبي *صلي الله عليه وسلم*قائلاً: لا. فيقولون: فتكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة، فترد المهاجرة: سمعنا وأطعنا.
ميثاق التحالف: مجتمع وليد، وواقع متحول، ودولة يراد لها القيام لا بد لكل ذلك جميعًا من دستور واضح مستقر، ينظم لهم أمورهم، ويرجعون إليه ومن قوله للمسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب: إنهم أمة واحدة من دون الناس، إلي قوله: وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلي الله *عز وجل*، وإلي مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*، كانت بنود هذا الدستور النبوي لمجتمع المدينة. ولاشك أن روح هذا الميثاق قد تجلت في مبدأين أساسين:
1. الرابطة هي العقيدة.
2. والحكم هو الله.
وقد شمل هذا الميثاق أيضًا معاهدة مع اليهود، تليت بمعاهدات مع قبائل عربية متفرقة.
بث الخلق ورفع المعنويات
"يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". ذلك كان درس الإسلام الأول، علي يدي النبي *صلي الله عليه وسلم* حين دخل المدينة، الإحسان إلي المخلوق، والإحسان مع الخالق، روح الرسالة وجوهرها!. وما مضت إلا سنوات قلائل حتى توفي رسول الله، وقد ترك مجتمعًا أنموذجًا في خلقه وفضله، مجتمعًا يعلم أن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان، كما يعلم أن التراحم والتواصل سر قوته ونصرته، إن المعنيين باللوائح والدساتير سيبهرهم ميثاق التحالف، كما إن المهتمين بروح القانون ومقاصده سيدهشهم ذلك المجتمع المسلم الذي صنعه مُحَمّد *صلي الله عليه وسلم*.